عندما سُئل وزير الشباب والرياضة السابق خالد عبد العزيز عن عدم وجود لاعبين مسيحيين في فرق كرة القدم المصرية، قال إن "الإخوة الأقباط يركزون في التعليم وأنشطة الكنيسة المختلفة بخلاف أنشطة المدرسة، وينخرطون في مشروعات كثيرة جدًا في الجانب الثقافي والتكنولوجي، لكنهم لا يهتمون باللعب في الشوارع التي يمكن من خلالها خروج نماذج إلى الأندية للعب بها، لكن لا يأخذ أي أحد أن هذا الأمر يحمل أي عنصرية".
كلام عبد العزيز الذي صرح به قبل أربعة أعوام في مقابلة مع فضائية مصرية، يحمل نصف الحقيقة، فالكنيسة بالفعل تحولت خلال العقود الأربعة الأخيرة من دار لممارسة الشعائر والطقوس الدينية إلى مركز يمارس فيه المسيحيون معظم أنشطتهم رياضية كانت أم ثقافية وتعليمية واجتماعية.
النصف الثاني من الحقيقة، الذي لم يأت على ذكره الوزير السابق والمقرر المختار لإدارة المحور الاجتماعي في جلسات الحوار الوطني، أن انسحاب الكثير من المسيحيين خلف أسوار الكنائس يرجع في الأساس إلى سعيهم لتجنب ممارسات التمييز والعنصرية التي انتشرت بعدما لفحت مصر رياح التطرف والأصولية اﻵتية من الشرق منذ سبعينيات القرن الماضي.
فمنذ أن أعلن الرئيس الراحل أنور السادات أنه "رئيس مسلم لدولة مسلمة"، والباب مفتوح على مصراعيه أمام تغلغل جماعات الإسلام السياسي التي تستخدم خطابًا تمييزيًا ضد الآخر الديني.
وكان نتاج ذلك تصاعد أحداث العنف الطائفي في ريف مصر وحضرها، ما دفع المسيحيين إلى الانغلاق وإنشاء معازل "جيتوهات" في الجامعات والمدارس والهيئات والمصالح الحكومية؛ لتجنب الاختلاط الذي يعرضهم في أحيان كثيرة للتنمر والتمييز والعنف أيضًا، فقط لأنهم مختلفون دينيًا.
رياضة أصولية
الأندية الرياضية تأثرت كغيرها من مؤسسات وهيئات المجتمع بتلك الريح الوهابية، تماهى مسؤولوها ومدربوها مع الخطاب الأصولي الذي انتشر في السبعينيات والثمانينيات الذي تجلت علاماته في مظاهر التدين الشكلي من إعفاء اللحى وإطالة "الشورت".
ومع الوقت ونتيجة لتغلغل الفقه الوهابي اختفى اللاعبون المسيحيون من الفرق، وصار ظهورهم هو الاستثناء، فالسادة المدربون واللاعبون تبنوا "روحًا رياضية" لا تعرف الآخر ولا تعترف به.
"يعاني مجتمعنا من العنصرية، فهل يُعقل أن في تاريخ كرة القدم ألا يوجد سوى 5 لاعبين مسيحيين فقط لعبوا في (الدوري الممتاز).. أغلب اللاعبين الناشئين المسيحيين يعتزلون لعب الكرة مبكرًا بسبب عنصرية بعض مدربي الناشئين"، هكذا صدم لاعب نادي الزمالك ومنتخب مصر السابق أحمد حسام ميدو الرأي العام بتصريح كاشف للأزمة التي تمر بها ملاعبنا.
ميدو أشار في حديث تلفزيوني عام 2018 إلى أنه تقدم خلال مشاركته في لجنة إعداد قانون الرياضة بمقترح يقضي بضرورة وجود لاعبين مسيحيين في الفرق الرياضية بنسبة لا تقل عن 10% لمواجهة الأزمة، مؤكدًا أن العنصريين لا يخفون عنصريتهم، "عندنا عنصرية حول الديانة واللون والعرق".
نكأ نجم الزمالك السابق الجرح الذي يصر البعض على تجاهل أسبابه الحقيقية، فالتمييز في الملاعب جزء لا يتجزأ من الحالة العامة القائمة، والعنصرية التي أصابت مفاصل المجتمع وصلت إلى الأندية الرياضية التي تستبعد الناشئين المسيحيين من اختبارات الفرق بدعوى أن مستواهم لا يمكنهم من المشاركة الاحترافية.
ممنوع للمسيحين
في نهايات عام 2016، أثارت شهادات عددًا من أولياء أمور الناشئين المسيحيين حول استبعاد أولادهم من اختبارات الفرق في بعض الأندية، أزمةً كبيرةً وصل صداها إلى وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي.
كانت واقعة استبعاد مدرب حراس مرمى الأهلي والحارس السابق لمرمى منتخب مصر والأهلي إكرامي الشحات للناشئ "مينا" من اختبارات القبول بفريق 14 سنة بالنادي الأهلي بسبب اسمه، هي الأشهر في تلك الفترة.
وإثر ملاحقته بتهم التشدد والتطرف، نفى إكرامي بشدة أن يكون استبعاده لللاعب بسبب ديانته، مؤكدًا أنه لا يحكمه سوى مستوى الناشئ مقارنة بأقرانه المتقدمين لذات الاختبار، وتحت ضغوط الرأي العام وعد بإعادة الاختبار.
شجعت واقعة استبعاد مينا أولياء أمور لاعبين مسيحيين آخرين إلى الخروج عن صمتهم، واتهم أحدهم المسؤولين عن الناشئين بأحد الأندية باستبعاد ابنه لأن اسمه "بيير".
استبعاد الناشئين المسيحيين من اختبارات الفرق الرياضية تحول إلى ظاهرة، "فتسرب اليأس إلى أولياء الأمور الأقباط"، على ما قال لاعب الإسماعيلي السابق محسن عبد المسيح "سيحة" في حواره مع جريدة وطني في سبتمبر/ أيلول 2016.
ومع إقراره بأن العنصرية صارت ظاهرة في الأندية وفرق كرة القدم، دعا عبد المسيح أولياء الأمور المسيحيين إلى "تشجيع أولادهم على خوض التجربة والإصرار والمثابرة على إعادة المحاولات مرات كثيرة مع أندية ومدربين مختلفين"، وطالبهم بالوقوف بجانبهم ومساندتهم طالما يتمتعون بالموهبة.
في حوار مع جريدة اليوم السابع عام 2018، أقر رأس الكنيسة المصرية البابا تواضروس بأن هناك أزمة طائفية في الأندية الرياضية، وأن ثمة إصرار على إقصاء اللاعبين الأقباط أيًا كانت موهبتهم.
وهو ما دعا الكنائس، بحسب البابا، إلى إنشاء أندية خاصة يمارس فيها شباب الأقباط الأنشطة الرياضية المختلفة "الكنيسة كأم حاولت توفير ذلك فمن كل 50 كنيسة ستجدين كنيسة لديها نادٍ، وهي لم تكن بنية العزل ولكن كرد فعل على ما جرى".
سُئل البابا عمن يتحمل مسؤولية انعزال المسيحيين وغيابهم عن الملاعب فأجاب "لا تسألوا الأقباط بل اسألوا الملاعب والأندية، التشجيع أجمل شيء، هل من المعقول كل فرق القدم في مصر مفيهاش واحد قبطي".
وتابع البابا "مفيش واحد قبطي رجله سليمة ولعب كورة شراب في الشارع وبقى لاعب، وهو أمر يرجع لإيه؟، ليس للأقباط، إحدى نقاط الضعف فى مجتمعنا هى أننا لا نبحث عن اصطياد المهارات والطاقات".
تديّن كل شيء
في كتابه "الأقباط والرياضة.. جوون في ملعب التعصب"، لفت دكتور محمد منير مجاهد رئيس جمعية مصريون ضد التمييز الدينى، النظر إلى ما جرى في الملاعب المصرية خلال العقود الأخيرة، وكتب عن "تديين الكرة والاستبعاد التلقائي لغير المسلمين.
وأشار مجاهد في مقدمة كتابه الذي صدر عام 2010 إلى أنه منذ مطلع السبعينيات جرى تديين كل شيء، وتقسيم مصر على أساس ديني حتى امتد الأمر إلى الرياضة، فأصبح كل لاعب يتباهى بتدينه، بل يلتحي ويستعيذ بالله في كل هجمة مضادة.
وترتب على تلك الحالة التي رصدها مجاهد تحول التديين إلى منظومة الفرق بأكملها، "ومن ثم يكون هناك استبعاد تلقائي لغير المسلمين"، ودلل على ذلك بأنه من ضمن 400 لاعب مقيد في سجلات الدوري الممتاز لموسم 2009 - 2010، لم يكن فيهم إلا لاعبين مسيحيين.
عيون مصر
قبل أيام أُعلن عن لقاء ضم وزير الشباب والرياضة الدكتور أشرف صبحي والأنبا رافائيل أسقف عام كنائس وسط القاهرة، لمناقشة إجراءات إشهار نادي "عيون مصر" بمحافظة البحيرة، وآلية إشراك شباب الكنيسة في أنشطة وفعاليات وزارة الشباب والرياضة.
أثار الخبر ردود فعل غاضبة ترفض تكريس حالة الانقسام بمباركة حكومية، وتحذر من مشاركة فريق يمثل الكنيسة والأقباط في المنافسات الرياضية، مما سيضاعف من مشاعر التعصب الذي سينتقل من محطة التعصب "الرياضي" أو "الديني" إلى التعصب المركب "الرياضي الديني".
هناك أزمة بالفعل، والطائفية والعنصرية تحولتا إلى حالة عامة في الأندية والملاعب الرياضية، لكن هل يعني ذلك أن يكون الحل في تأسيس نادٍ كنسي تشارك فرقه في المنافسات والدوريات المختلفة، ما يكرس للفرقة والطائفية ويضرب محاولات تأسيس الدولة المدنية في مقتل.
فإذا كانت الأندية تلفظ مواهب اللاعبين المسيحيين فالحل يكون بعلاج الظاهرة وليس بإنشاء أندية طائفية.
الاستقطاب والتعصب والانقسام والعنف آفات أطلَّتْ برأسها في السنوات الأخيرة، ولا نحتاج إلى ما يجذرها في المجتمع، بل نحتاج إلى ما يؤصل للتسامح وقبول الآخر ودعم قيم المواطنة واحترام الدولة المدنية الدستورية الديمقراطية.