قبل شهر واحد من إعلان الحكومة إجراءات التقشف التي تشمل إطفاء أنوار الشوارع والمؤسسات وضبط أجهزة التكييف على 25 درجة توفيرًا للغاز الذي تعمل به شبكات الكهرباء من أجل تصديره، كانت الصحف والمواقع تزف للمواطنين بشائر تجهيز الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية لمسلسلات الموسم الرمضاني 2023.
وسط أزمة اقتصادية كبرى تعيشها مصر الآن، بدا الاستبداد الحاكم طوال السبع سنوات الماضية هو الشريك الأساسي والخفي في الأزمة، والعنصر المحفز على فشل اقتصادي لا تخطئه عين.
للاستبداد تكلفة اقتصادية كبرى، هذه حقيقة لا مجال للتشكيك في صحتها أو التقليل منها. لا يترك الاستبداد مساحة واحدة لا يحاصرها؛ خشية من أن يخلق الإعلام الحر والفن الجاد وعيًا حرًا وعقولًا تفكر، وهو يضع ذلك أولوية يبذل في سبيلها المليارات حتى وسط أزمات اقتصادية مؤلمة وغير مسبوقة.
مليارات للسيطرة على الدراما
على درب السيطرة على العقول لم يترك الاستبداد مساحات الدراما التليفزيونية للقطاع الخاص، ولا سمح لمبدعين حقيقيين أن يتصدروا المشهد، بل قرر أن يستحوذ على نحو كامل على الإنتاج التليفزيوني.
من هنا احتكرت الشركة المتحدة للإنتاج الإعلامي المملوكة لمؤسسات رسمية في الدولة الإنتاج الدرامي، وفعلت ذلك وهي تنفق المليارات سنويًا على المسلسلات. ضمت خريطة الإنتاج التليفزيوني 14 عملًا في موسم الدراما الرمضانية 2022 تكلفت المليارات، وسط بشائر أزمة اقتصادية بدأت في العام 2020 وقت انتشار فيروس كورونا.
على رأس هذه المسلسلات كان الاختيار 3 والعائدون وجزيرة غمام والمشوار وملف سري والكبير أوي وفاتن أمل حربي ويوتيرن وأحلام سعيدة وغيرها.
في سباق الاستبداد للسيطرة على الوعي وتوجيه العقول كان لابد من إنفاق الملايين للاستحواذ على الإعلام
بالبحث عن قيمة إنتاج المسلسل الواحد كانت الأرقام صادمة، فبحسب تصريحات للناقد الفني أحمد سعد الدين لموقع بي بي سي فإن تكلفة إنتاج المسلسل الواحد تتراوح بين 30 و40 مليون جنيه، وبحسبة بسيطة نستطيع أن نصل إلى تكلفة الـ 14 عملًا فنيًا الذين ضمهم الموسم الرمضاني الماضي، تصل إلى نصف مليار جنيه. والملاحظة الجديرة بالذكر هي أن أجور فناني الصف الأول في مسلسلات المتحدة "الرسمية"، يصل إلى الملايين أيضًا.
ولأن الاستبداد لا يستسلم، كانت الصدمة أن موسم 2022 الرمضاني هو الأقل في إنتاج الأعمال الدرامية بالمقارنة بالعام 2021، الذي حوى نحو 19 عملًا دراميًا، ليتواصل نزيف المليارات التي تستهدف السيطرة على العقول والاستحواذ على الأفكار، حتى لو كانت فكرة السيطرة على الدراما قد انتهت من العالم بأكمله.
مليارات مهدرة على الأذرع الإعلامية
في سباق الاستبداد للسيطرة على الوعي وتوجيه العقول كان لا بد من إنفاق الملايين للاستحواذ على الإعلام، خصمًا من رصيد الصحة والتعليم والخدمات اللائقة والبحث العلمي، فالسلطة الحالية تعمل بنظرية "الأذرع الإعلامية"، لذا لابد أن يدخل الجميع في بيت الطاعة، حتى لو كان الثمن هو إنفاق المليارات على صحف وقنوات تليفزيونية ليس هناك ما يشير إلى أنها تحقق أرباحًا.
الشركة المتحدة، الراعي الأول والأهم للسيطرة على الفن والإبداع والإعلام، تملك على سبيل المثال صحفًا ومواقعَ مثل الوطن والدستور واليوم السابع والأسبوع وصوت الأمة وأموال الغد ومبتدأ، فضلًا عن امتلاكها لقنوات تليفزيونية مثل دي إم سي وسي بي سي والحياة وإكسترا نيوز وأون والمحور والناس وغيرها. تخيل معي كم تنفق هذه الصحف والقنوات سنويًا؟ وماذا لو توفرت هذه الأموال لمجالات أهم وتُرك الإعلام للقطاع الخاص وللمتخصصين؟
مليارات يتم إنفاقها في مجالات يمكن أن تترك للأفراد أو للقطاع الخاص
في مفارقة لا تخلو من معنى، فإن احتكار الاستبداد للإعلام لا يعني إهدار المليارات فقط، بل يعني من الناحية الأخرى حصارًا محكمًا لحرية الصحافة، وهو الأمر الذي يفرض القيود على الإعلام وقدرته على كشف الفساد، ما يعني زيادة ضريبة إهدار الموارد الناتجة عن انتشار الفساد وزيادة تكلفته الاقتصادية على البلد التي تحتاج في ذروة أزمتها الاقتصادية إلى كل الموارد التي يهدرها الفساد سنويًا.
الصراع السياسي وإسكات الأصوات
في العلوم السياسية يظهر الصراع السياسي المستمر كأحد عوامل الإنفاق الكبير على الأمن. ومن هنا فإن الاستبداد بإصراره الدائم على إسكات كل الأصوات، وصراعه المستمر مع القوى السياسية السلمية والمدنية فإنه يهدر ملايين أخرى على الملاحقات والسجون والمحاكمات. رغم أن الأسلم والأكثر حفظًا لموارد المجتمعات هو السماح بكل صور الحريات المدنية والسلمية، التي تقلل من الإنفاق على الأمن، لا سيما أن المعارضة المدنية السلمية لا تهدد المجتمع ولا أهله.
هذه مجرد نماذج لأثر غياب الديمقراطية والحريات العامة في خلق وتعميق الأزمات الاقتصادية، مليارات تنفق في مجالات يمكن أن تترك للأفراد أو للقطاع الخاص، لكن الإصرار على التسلط على كل مساحة حرة هو الداء الأكبر لمجتمعات يحاصرها الاستبداد من كل اتجاه.
منذ عدة أشهر أعلنت الحكومة نيتها "التخارج" من عدد من المشروعات لصالح القطاع الخاص، وهي خطوة في الاتجاه الصحيح بلا شك، لكن هذه الخطوة لا يمكن أن تكتمل قبل أن تقرر الحكومة التخارج أولًا وقبل أي شيء من كل المجالات التي تستخدمها في السيطرة على العقول وتوجيهها حيث تشاء.
البداية أن تتخارج السلطة من عقل المواطن، وأن تتحرر من خوفها من المعرفة، وأن تترك الدراما والإعلام يعملان في مناخ حر، ليحررا العقول السجينة وينشرا المعرفة ويرسخا الحقائق. قبل أن يتخارج الاستبداد من العقول ويوفر الملايين المهدرة في ذروة الأزمة الاقتصادية الحالية لا أمل في أي تقدم يمكن أن يحدث.