علي الرغم من ارتباط الغناء بالمسرح والسينما منذ نشأتهما في مصر؛ إلا أن وجود الأغاني في كثير من الأعمال كان غير مرتبط بالدراما، وكان حضوره - في الغالب- مجرد استغلال لجاذبية وجماهيرية المغني أو المغنية بطل الفيلم أو العمل المسرحي.
لكن الأعمال الدرامية التي جمعت بين الشاعر بهاء جاهين والملحن مودي الإمام، تميزت بالعكس تمامًا؛ ففيها كانت الموسيقى محورًا لبناء الدراما، ضمن عدة مميزات أخرى.
فالأغنية في تجربتهما هي جزء رئيس من نسيج الدراما لا تستطيع حذفه، علي عكس أغان عديدة يمثل حضورها في أعمال أخرى تعطيلاً للحدث الدرامي، وتؤدي إلى هبوط إيقاع الفيلم أو المسرحية.
كما تتميز تجربتهما بأن من يغني -في أغلب الحالات- هم ممثلون، وليسوا مطربين؛ مما يحدث تفاعلاً بين المُشاهِد والشخصية، لكونها تغني بصوته. ويلعب الكورس دورًا مهمًا عندما يكون مطلوبًا إبراز صوت الجماهير.
ثالث الميزات المهمة في تلك التجربة؛ هي استخدام كلمات وألحان وتوزيع موسيقي يتصل بمفردات العمل الدرامي نفسه، بحيث تكون الموسيقي مختلفة جدًا عن الأغاني العادية، لكونها وليدة هذا العمل، وليست مجرد أغاني تجارية لجذب الجمهور.
تألق هذا الثنائي مع المخرج "شريف عرفة" في عدة أعمال أبرزها "سمع هس"، و"يا مهلبية يا"، ومسرحية الزعيم.
"سمع هس"
يبدأ الفيلم بهذه الأغنية، وهي المحور الأساسي للصراع. يختار لها مودي الإمام لحنًا رشيقًا ويسهل تذكره، ليعبر عن بساطة الأبطال وموهبتهم. ويعتمد التوزيع علي الأكورديون والطبلة، وهو ما يتناسب مع أجواء الموالد والأفراح الشعبية التي يحترف البطلان الغناء فيها. بينما يختار بهاء جاهين مفردات جديدة وخفيفة الظل من قلب العامية المصرية: "هزة وسطي كما السوستة، من نقرة لنقرة لدحديرة، إحنا اللي هما لا مؤاخذاة".
https://www.youtube.com/watch?v=-bQqi7PzYrY&الحدث الرئيس في الفيلم هو سرقة "غندور" للحن "حمص وحلاوة"، وتحويله لأغنية وطنية. وهو ما تعامل معه بهاء جاهين و مودي الإمام بذكاء. كتب بهاء جاهين كلمات لنفس اللحن، صنعت منه "كاريكاتير" للأغنية الوطنية المصرية. وبدت الكلمات من شدة وطنيتها وقد تحولت لشكل من أشكال العبث واللا معني والمبالغات الهزلية: "أنا وطني وطني متحضر بالرمل الأصفر متخضر". كما تفضح هذا النوع الرخيص من الغناء الوطني، عبر الربط البسيط بين كلمتي الوطن والطنطنة، مبرزًا تحول هذه الأغاني إلي ما يشبه الطنين الأجوف.
من أجل النسخة الوطنية من الأغنية؛ يقوم مودي الإمام بتغيير شامل للتوزيع الموسيقي، بداية من المقدمة الموسيقية التي صارت ممتلئة بالترقب والرهبة، ثم أصوات الكورال ومحاكاة استخدام الوتريات وآلات النفخ التي تعطي فخامة موسيقية لمثل هذه النوعية من الأغاني. ويأتي اختيار حسن كامي بصوته الأوبرالي ليؤكد هذه الفخامة. ولكن مع بداية الكلمات، نتحول لإيقاع المقسوم علي الطبلة بما يتناسب مع هزلية الكلمات، ويختتم اللحن بشكل كورالي مع كلمات "بالروح بالدم أفديكي يا بلدي، إكمني وطني أبا عن عمي". وبالطبع يؤكد "شريف عرفة" بالصورة التناقضات الساخرة بين الحقيقة وادعاء الوطنية.
و علي الرغم من اعتياد المشاهد علي ختام الأفلام الغنائية ب "أوبريت" غنائي؛ إلا أنه غالبًا ما كان الغرض منه هو إعطاء الجمهور جرعة كبيرة من الغناء حتي يخرج المشاهد سعيدا بالغناء المكثف. ويكون الأوبريت مجرد خلفية، يحدث أثناءها حل العقدة الدرامية الموجودة في الفيلم "انت اللي هتغني يا منعم". وبنهاية الأوبريت يكون المشاهد علي موعد مع النهاية السعيدة. أما في "سمع هس"، تأتي أغنية النهاية بمثابة تعبير عن الصراع الممتد طوال الفيلم بين حمص وحلاوة والقلة التي ساندتهم، وعلى الجانب الآخر صوت الأغلبية التي حاربتهم ووقفت ضد حلمهم.
يبدأ مودي الإمام أوبريت الختام بموسيقي حالمة وحزينة تعبر عن انكسار الحلم، وبينما يعلن "حمص" يأسه، تدفعه حلاوة للاستمرار في الأمل. ومع حماسه تستيقظ القوي المضادة للحلم: "اتنيلوا ده عشم إبليس". ليبدأ "حمص وحلاوة " في تحديد الحلم: "هتشوفوا طريقنا مودي لفين"، ليظهر من يدعوهم للتسول: "روحوا اعملوا عاهة وتعالولي"، أو من ينظر لهم بازدراء: "باستغرب ع الأشكال دي"، و "هو انت تطول يديك مصروف". و مع استمرارهم في الحلم، تتوحد القوي المضادة لهم بتعبير موحد: "الأهتم مش ممكن هيسنن ..الأقرع هيتنو كده أقرع واللي بيحلم راح يتجنن". لتنتهي الأغنية و الفيلم بصرخة "هتشوفوا" كبصيص من الأمل، على الرغم من كثرة المهاجمين.
تميز بهاء جاهين باختيار مفردات ربما لم يسبق استخدامها حتي في الأغاني الدرامية، لكنها كانت مؤثرة وواقعية ومعبرة عن الشخصيات "الأهتم، الأقرع، الدردي، المدعوق، يا حلوف". و صنع منها بناءًا دراميًا متصاعدًا للأغنية، تتصارع فيه الشخصيات وليست مجرد أغنية نهاية.
و بالمثل اختار مودي الإمام اللحن والتوزيع المناسبين لكل شخصية، فتصاعد اللحن موسيقيًا تعبيرًا عن إرادة "حمص و حلاوة"، بينما يختار ألحان أكثر طربية للشخصيات المعادية كالمتسول وبائع السمك، مستغلاً القدرات التطريبية عند "يوسف عيد" و "محمد الشويحي" و لحنا به لمسة غربية واضحة للثري "حسين الإمام". كما يختار لحنا متوافقا بطريقة "الكاونتر بوينت" ليجمع بين جملتين غنائيتين مختلفتين في نفس الوقت، ويتصاعد بهما للوصول للذروة الموسيقية والدرامية.
"يا مهلبية يا"
التجربة التالية لفيلم "سمع هس" كانت فيلم "يا مهلبية يا" وهو أيضًا من إخراج شريف عرفة، واستمرت فيه تجربة التعاون بين "مودي وجاهين" في صناعة أغاني درامية مختلفة، يغني فيها الممثلون بأنفسهم، حيث يغني فيه هشام سليم وليلى علوي ويوسف عيد والتينور حسن كامي. وتلعب الأغاني دورًا أساسيًا في أحداث الفيلم، الذي يربط بين الكباريهات والعوالم والمنظمات التي تدّعي الوطنية في مواجهة الإنجليز والملك.
واحدة من هذه الأغاني أعيد اكتشافها عن طريق وسائط التواصل الاجتماعي، والمواقع التي تسمح للأفراد برفع الأغاني التي يعجبون بها؛ وهي أغنية أو مونولوج "مطلعتش ملك" التي غناها الفنان الراحل متعدد المواهب "يوسف عيد"، وقدمها بهاء جاهين ومودي بشكل مختلف، يجمع بين موسيقي الجاز التي كانت قد بدأت في الظهور في مصر في التوقيت الذي يتناوله الفيلم (قبل يوليو 1952)، بسبب وجود عدد كبير من الأجانب في ذلك الوقت. كما يحمل اللحن روحًا من مونولوجات الأربعينات المصرية، التي كانت في قمة ازدهارها في ذلك الوقت علي يد سيد سليمان وإسماعيل ياسين وشكوكو. بينما تحمل الكلمات سخرية من الملك فاروق: "ده أنا حتي فلاتي باحب يوماتي تمانية وعشرين راس"، "ده أنا حتي قمارتي". حيث اشتهر ملك مصر الأخير بالمغامرات النسائية وحب المقامرة. كما تحمل الأغنية سؤالا اجتماعيا وربما وجوديا عن عبثية أن يصبح شخص ليس له من الصفات غير كونه سليل عائلة ما ملكًا، ومتحكما في البلاد، بينما لا يجد صاحب الموهبة إلا المصاعب والمتاعب.
مسرحية "الزعيم"
تميز الثنائي "بهاء ومودي" في تعاملهما مع الأغاني في مسرحية "الزعيم" التي أخرجها كذلك شريف عرفة.
يقدم الثنائي في حوالي 6 دقائق استعراضًا لديكتاتورية "الزعيم"، بشكل مركز يسخر من كل الزعماء المشابهين، ومن كل مظاهر التمجيد المرتبطة بهذا النوع من الحكم. يبدأ بهاء جاهين الأغنية بجملة مفتاحية: "أنا اللي هزيت التاريخ جامد"، وهو ما يقوله كل زعيم في كونه شخص غيّر وجه التاريخ، ولكن تعبير "هزيت"، يوضح مدى هزلية هذه الأفكار. ويستخدم "مودي الإمام" لحنًا حماسيًا، مع استخدام الكورال الذي يماثل صوت الشعب.
يبدأ الزعيم في مرحلة اقتناعه بكونه إلهًا: "أنا مش بشر ..أنا قدر، الزعيم المستديم"، لتنتقل الأغنية إلى الجزء الذي تمنعه كثير من الفضائيات، وهو ما يقوم فيه "بهاء و مودي" بتصوير عملية تأليه الزعيم والتعبير عنها في محاكاة شبيهة لأسماء الله الحسني، حيث قام بهاء بمزج صفات جادة و أخري ساخرة "المُلعب.. المعلم، الوحش الكاسر، الشرير البحبوح اللذيذ"، وصاحبها مودي الإمام بصوته وبلحن علي إيقاعات الدفوف لتعبر عن حالة التأليه أو حالة "الزار" الذي يتم تحضيره لتغييب الشعب، وإقناعه بكل هذه الصفات المتناقضة و المبالغ فيها.
تقترب الاغنية من النهاية بجُمَلٍ تحاكي الأوبريتات "الوطنية": "قمر الثورة وسيد العيلة ..قائد الثورة والهليلة"، بلحن سهل علي إيقاع المقسوم. تنتقل بعده الأغنية إلى المضمون الخفي الذي لا تذكره مثل تلك الأغاني: "خليك يا شعبي عبيط ماشي جنب الحيط". ثم تتحول الموسيقي المعبرة عن الحروب لموسيقي كوميدية تصاحب عادل إمام وهو يغني: "واضرب بلجيكا وأمريكا"، ليعبر عن عبثية أحلام الزعيم العسكرية التي لا غرض منها إلا تخويف الشعب وإبهاره في نفس الوقت.
https://www.youtube.com/watch?v=4VgEtDe6HWI&ab_channel=IMediaMovies-%D8%A3%D9%89%D9%85%D9%8A%D8%AF%D9%8A%D8%A7%D9%85%D9%88%D9%81%D9%8A%D8%B2فمع تصاعد المفارقة المسرحية بوجود كومبارس علي مقعد رئيس الجمهورية، يقدم الثنائي أغنية تعبر عن الصراع والحيرة الموجودان داخل عقل هذا الانسان، وعن موقف المواطن البسيط من فكرة الوطن والوطنية مع اطلاعه علي خبايا الكواليس السياسية: "إنسان بسيط مانيش حويط وفي السياسة غشيم ..عبيط"، "وسط الغيلان وسط الحيتان و العنجهية العسكرية". يستخدم بهاء جاهين هنا مفردات مواطن بسيط، لكنها لا تخلو من صور معبرة "مخلوق تعيس ..خيال رئيس".
اعتمد مودي الإمام علي المزج بين اللحن البسيط، وإلقاء الكلمات بشكل منغم علي خلفية موسيقية، وهو ما يسمي بال ريسيتاتيف Recitative. ولم يستخدم إيقاعا ثابتًا؛ بل تنوع الإيقاع واللحن بتحول الحالة الشعورية للكلمات وبفواصل موسيقية صغيرة بينها، تبدو كموسيقي تصويرية معبرة عن الحالة. ليتصاعد وصولاً للنهاية التي تعبر عن قوة الشعور بالحيرة.
https://www.youtube.com/embed/7y45Nqx1HyMوكما في فيلم "سمع هس"، يأتي أوبريت النهاية معبرًا عن صراع درامي وأفكار مختلفة، وليس مجرد أغنية ختام. حيث يبدأ بأصوات تطالب زينهم الكومبارس بأن يكون هو "الزعيم الجديد"، بنفس الشكل العبثي في تمجيد الفرد: "إنت الفارس إنت الحارس إنت مفجر ثورة مارس"، ليمنعهم زينهم: "مش ناقصين من تاني كوارث"، وتظهر قوي الفساد ومراكز قوي الدولة لتنبهه أنها موجودة، وأنها مستهينة بالشعب: "راجعين تاني وتاني وتاني". ليستنجد الشعب الزعيم الجديد من التماسيح، منادين بأنه وحده القادر علي إخفاء العفاريت، ثم يقتنع الشعب فيغني معه: "الشعب اللي مصيره في إيده هو الفارس هو الحارس، الأحلام مش عايزة فوارس الأحلام بالناس تتحقق"، و ذلك بجملة موسيقية معبرة وحماسية يتصاعد بها مودي الامام من صوت عادل إمام لصوت الكورال، مع تصاعد الإيقاع والموسيقي المصاحبة ليصل المعني مكتملا للمشاهد.
لم يتكرر التعاون بين الاثنين مع اتجاه شريف عرفة لنوعيات جديدة من الأفلام لا تهتم بتوظيف الغناء والموسيقى بذات الكيفية المميزة في الدراما، لكن يبقى تعاونهما في تلك التجارب الثلاثة علامة مميزة في الغناء الدرامي، أو الدراما الغنائية الحديثة في مصر.
المجاميع: مصطلح يستخدم في الانتاج الدرامي المسرحي والسينمائي للتعبير عن الكومبارس والأفراد الذين يظهرون في خلفيات المشاهد (الجوقة)