الأمريكيون معروف عنهم تفاؤلهم المتقعّر بدون سبب، لاعتقادهم أن بإمكانهم حلّ أي مشكلة. المستحيل كلمة غير موجودة في القاموس الأمريكي. نفس الروح المتفائلة، التي يتلبّسها شعار "نعم نحن نستطيع"، دائمًا ما قادت هوليوود والتي بدورها تمّ إنشاؤها بواسطة المهاجرين الذين شيّدوا إمبراطورية من الظلال على الجدران. وصناعة الفيلم الأمريكي لها تاريخ طويل من الحكايات المتفائلة عن النجاح والإنجاز والتحقّق والتضحية والخلاص وكل تلك الأمور الجميلة التي تداعب خيال البشر عامة وجمهور السينما بخاصة.
حاولت تلك الصناعة - وفي المركز منها هوليوود - دائمًا أن تتجاوز نفسها بمشاريع وأفلام أكبر وأضخم، سواء كان ذلك في حفل على شواطيء المحيط الهاديء تحتوي على "أضخم مشاهد الاثارة والحركة" (هناك مقطع رائع في رواية الكاتب الأمريكي دون ديليلو "ضوضاء بيضاء" حول التفاؤل بخصوص حوادث السيارات في الأفلام) أو شعارات ترويجية من قبيل "أنت لم تر ذلك من قبل أبدًا" تمهر أفلام مثل "جاذبية" و"أفاتار".
بطبيعة الحال فإن الشكل الدقيق الذي تأخذه تلك الفكرة يختلف من عصر إلى عصر. مثلًا، في عهد الرئيس الأمريكي ريجان، اليميني المحافظ، كانت الأفلام تشتهر بروحها الانتصارية الفاقعة والحديث المُفخّم عن الحلم الأمريكي الكبير. وربما يليق بعصر اُفتتح بالعمل الإرهابي الأكثر إثارة على الإطلاق، 11 سبتمبر، أن تتخصّص أفلامه اليوم في التباهي بفكرة العظمة لذاتها. أفلام هوليوود الأضخم إنتاجيًا كلّها تدور حول الأبطال الخارقين الذين يتسلّقون المباني الشاهقة والأشرار الخارقين (ربما يمكنك استدعاء ديناصور شرير في فيلم ما) يسحقون الشاحنات وراكبيها، أو سباقات شوارع بين راكبي سيارت سريعين وغاضبين يهبطون من الطائرات فيما تنتظرهم السيارات لينطلقون بها فور نزولهم. الشيء المفقود على الدوام تقريبًا هو الحسّ الإنساني، بمعنى أن تحدث حكايات تلك الأفلام الضخمة في نطاق بشري بما يتضمنه ذلك من قصور ونقصان إنساني.
هذا بالضبط ما سيحصل عليه المشاهدون في فيلم "السير" (The Walk) للمخرج الأمريكي روبرت زيميكس، المقتبس عن السيرة الذاتية للبهلوان الفرنسي فيليب بوتي والصادرة في كتاب "كي تصل إلى السحاب"، وهو فيلم يبدأ بداية كارتونية بعض الشيء ويختتم حكايته في الأعالي.
يروي الفيلم قصة بوتي (الذي يقوم بدوره جوزيف جوردن ليفيت بلكنة فرنسية ثقيلة) والذي، عودًا إلى عام 1974 قام بواحدة من أجرأ الأعمال وأكثرها جنونًا في العصر الحديث: مشى على سلك مشدود بين برجيّ مركز التجارة العالمي بنيويورك. الآن هذه ليست قصة معروفة على نطاق واسع وربما لو ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي فسوف تأخذ ساعاتها المعدودة من الشهرة ثم يأتي شيء آخر ليطغى عليها.
في الواقع فقد رُويت هذه المغامرة التاريخية بصورة مميزة من خلال المخرج جيمس مارش في الفيلم الوثائقي "رجل على السلك" الذي فاز بأوسكار أفضل فيلم وثائقي في العام 2009. ولكن في يد واحد من أكبر مخرجي المدرسة الهوليوودية القديمة، روبرت زيميكس، الذي صنع أفلاما جماهيرية مثل "العودة الى المستقبل" و"من أطّر روجر رابيت" و"فورست جامب" و"ملقى بعيدًا"، تحصل القصة على حياة جديدة، والجديد لا يعني الجودة بالضرورة. يعود ذلك جزئيًا إلى براعة الفيلم التقنية، فمن خلال التصوير بنظام آيماكس ثلاثي الأبعاد يُظهر زيميكس معرفته الجيدة بالفراغ الفيزيائي جالبًا للمشاهدين أقصى قُرب يمكن أن يحصلوا عليه لتجربة بيتيت بينما يتحرك على هذا السلك المعدني المرتفع بـ 1300 قدم فوق شوارع مانهاتن. تلك المشاهد تخطف الأنفاس وتدفق الأدرينالين في أجساد المشاهدين. الفيلم يجعل مُشاهده يشعر بما يعنيه أن يكون فردًا وحيدًا بمصير مغرٍ ومفتوح على الهاوية مع خطواته فوق بناء حضري شاهق.
ولكن مثل كل مخرجي هوليوود المكرّسين، يحاول زيميكس التباهي بأنه يملك في ذهنه ما يقدمه أكثر من الصور المبهرة، وفي الحقيقة فهو يملك الكثير من الكليشيهات لتتبيل صوره المبهرة. يدرك زيميكس جيدًا أن صورة الأمريكيين الذهنية (وصورتنا كأجانب أيضًا) عن مركز التجارة العالمي قد طُبعت بهجوم الحادي عشر من سبتمبر الذي قضي عليه وساواه بالأرض التي كان يقف عليها، لذلك يصنع فيلمًا يتعمّد وضع ميثولوجيا الوطنية الأمريكية فوق الجانب المظلم للهجوم الارهابي. في تلك الميثولوجيا، يأتي البطل إلي تلك الشواطيء ليس كإرهابي غاضب ولكن كفنّان طموح ومغامر ومغرور يصرّ على اللحاق بأحلامه المعلقة في الهواء، مفتونًا بالمجال الأمريكي المفتوح على الحرية واحتمال حدوث الأشياء.
يقدم زيميكس صورة فانتازية تُمجّد لمدينة نيويورك في عام 1974، فيقدّمها كمدينة محتشدة بفنّانيها الذي يحيون على الحبّ والمخدرات الآمنة واللطيفة، وبأفراد شرطتها المثاليين الأخيار. ومثل الإرهابيين، يملك بوتي مجموعة من المتواطئين لمساعدته، تمامًا كما يحدث في الأفلام المعتمدة على بطولة نجم واحد يساعده في تسيير حكايته ووصولها الي نجاحها المكلّل مجموعة من الممثلين السنّيدة (المساعدين)، يدخلون دون إذن مسبق إلى البرجين غير المجهّزين تمامًا ويقومون بفرد سلك معدني مشدود بين قمتيهما. نتيجة ذلك التواطؤ ليس موتًا جماعيًا أو دمارًا، ولكن فعلًا يؤكّد على الفرح والدهشة والتفرّد التي يحاول الفيلم إعادة تمثيلها. وعلى الرغم من أن الفيلم ينتهي بمسحة ميلانكولية (نعرف جميعًا ما حدث في 11 سبتمبر)، فإنه يذهب في إتجاهٍ آخر ليجعل من نفسه احتفالًا بفكرة محدّدة عن أمريكا، أمريكا الدافئة والمفتوحة والمضيافة لهؤلاء "الذين يستطيعون".
الأمور أكثر إثارة وغرابة في فيلم ريدلي سكوت الجديد "المريخي" (The Martian)، خصوصًا بالنظر إلى الأحداث المحيطة واكتشاف وكالة ناسا لجبال من المياه المتجمّدة على سطح المريخ. استنادًا إلى رواية كولتية (cult) تصدّرت المبيعات إلكترونيًا بعد رفض الناشرين إصدارها ورقيًا، يركّز الفيلم على رائد الفضاء الأمريكي مارك واتني (مات ديمون) الذي يذهب إلى كوكب المريخ مع فريق تقوده ميليسا لويس (جيسيكا تشستاين)، وتهبّ عاصفة عنيفة تجبرهم على الفرار من الكوكب الأحمر. حادثة ما جعلت الأمور تشير إلى مقتله، فقرّر الفريق تركه على سطح الكوكب الأحمر. ولكن بدلًا من ترك نفسه للذبول؛ يفعل واتني ما قد نفعله جميعًا (أو بالأحرى ما قد يفعله الأبطال الأمريكيون الخارقون). يقول واتني: "سيسوء الوضع وستقولون هكذا ستكون نهايتى، وإما أن تتقبّلوا ذلك أو يمكنكم البدء فى العمل، هذا كلّ ما فى الأمر. فقط تشرعون في الحسابات وتقومون بحلّ المشكلة تلو الأخرى وإذا قمتم بحلّ العدد الكافي منها فقد نجحتم".
هكذا ببساطة يستخدم رائد الفضاء الأمريكي معرفته العلمية التي تذكّرنا بأساليب "ويكي هاو" (wiki how)، للحفاظ على فرص بقائه حيًّا على أمل محدود أن تقوم وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا)، التي تشمل قائمة موظفيها جيف دانيلز وشيوتيل ايجيوفور وكريستين ويج وماكنزي ديفيس وشون بين وكيت مارا، بإرسال مركبة فضائية لانقاذه! هذه مسألة سنوات وليست أيام مستر سكوت.
مع تركيزه على العملية ومحاولة الإيهام بالتزام الحقائق العلمية؛ فإن "المريخي" فيلم مسلٍّ يروي قصة تدور في نطاق بشري عن كيفية البقاء على قيد الحياة على سطح كوكب غريب، ولكن متعة الحكاية تسوء بثغرات سردية ومبالغات لا تمتّ للعلم بصلة ومضحكة في أحسن الأحوال. تجدر الإشارة إلى أن سكوت، الذي أخرج أفلامًا مثل "ألين" و"بليد رنر" و"برومثيوس"، يعتلي هنا مجال التشويق ثلاثي الأبعاد بمهارة، ويحاول تسمير المتفرج في مكانه بإيقاع يحافظ على بقائه كبديل عن ركاكة الخط الدرامي.
كذلك يفعل ديمون؛ فكما لدى رائد الفضاء المأزوم مهمة صعبة للإبقاء على حياته، فإن لديه مهمة مماثلة في الحفاظ على انتباه المشاهدين بينما يقوم بما يقوم به. يتنوع أداء ديمون بين التمثيل البدني المميّز في المشهد الذي يصحو فيه من حالته شبه الميتة، والتوقيت المثالي في شرحه للكاميرا (وللمشاهدين) جميع الخطوات التي اتخذها للبقاء على قيد الحياة. عبر ذلك كلّه، يجسّد ديمون مزيجًا متباينًا من الفكاهة الثقيلة والإصرار الملهم، وأبدًا لا تموت بداخله روح التفاؤل، العلامة التجارية التي يتصف بها كل أبطال هوليوود -وأمريكا- الكلاسيكيين.
بالطبع هناك ابتذال غير قليل في تلك العملية ولكن منتجي هوليوود لا يرون في بعض الابتذال سوى سبب جيد لاكتساح شباك التذاكر، وقد تصدّر الفيلم بالفعل شباك التذاكر الأمريكي في الأسابيع الأولى لعرضه. ينتهي "المريخي" ويترك المشاهد ليفكّر بأن المشاكل على الأرض ربما ليست على هذا القدر من السوء، أو كما يقول المثل الشعبي المصري "اللي يشوف بلوة غيره، تهون عليه بلوته"، وبالعودة للسياق الأمريكي، فمثل تلك الرسالة الكليشيهية التي يحاول الفيلم بثّها إلى جمهوره قيلت بالفعل قبل عشرين عامًا. بوبي مكفرين قالها من زمان مستر سكوت.