على الرغم من أن الفرنسي جان بول سارتر كان قصير القامة ضعيف البنية، فإنه كان دائم الذهاب بصحبة تلاميذه، وقد كان مُدرِّسًا للفلسفة، إلى قاعات الملاكمة. رأى الرجل علاقة وطيدة بين تبادل اللكمات وتوالد الأفكار الفلسفية.
يمارس سارتر الملاكمة مع طلابه من أجل تحطيم حدود احترام المؤسسات، ويرى في تبادل اللكمات بين الأستاذ وتلاميذه نوعًا من تحرير العقول، حسب ما جرى تصويره في الفيلم التلفزيوني الفرنسي Les Amants du Flore.
يعتقد الكاتب البريطاني أندي مارتن في كتابه The Boxer and the Goalkeeper: Sartre vs Camus، أن ميزة سارتر هي وجه قبيح لا يخشى أن تزيده اللكمات قبحًا، إذ كان مهووسًا بالمشاجرات لدرجة العراك مع زميل مدرس بسبب تعليق ساخر، وصوّره الفيلم الفرنسي يصيح في وجه السيد جورج والد سيمون دي بوفوار، مطالبًا إياه بنزال رجل لرجل، وفي ظل تعجب سيمون من أن والدها يخشى سارتر، يردد "هؤلاء هم البرجوازيون، جبناء، ولا يوجد ما يستحق الاحترام".
الحكاية السابقة تحطم في أذهاننا الصورة النمطية عن فيلسوف الوجودية ضعيف البنية قصير القامة، اﻷمر نفسه قد يحدث مع الفيلسوف المغربي سعيد ناشيد، الذي ارتاد قاعات الجودو بعد تجاوزه الثانية والخمسين.
مواجهة التنمر
ناشيد الذي ولد في العام 1969 في مدينة سلا، عانى التنمر من أبناء الحيّ وهو في الخامسة، فمسالمته كانت سببًا للهجوم عليه لا لتقديره، وفي سبيل إنقاذه يقرر والده أن يتعلم الابن لعبة قتالية، فيختار سعيد الجودو.
يحلم الطفل باحتراف الجودو، وأن يصبح بطلًا على طريقة معلميه مرباح وباسو، وتماشيًا مع هوس سكان تسلا باللعبة، المدينة التي تقع غربي البلاد أنجبت أغلب أبطال المملكة في اللعبة اليابانية اﻷصل، وهي المدينة ذاتها التي تعيش على أراضيها عائلة بوعبدلاوي التي يحترف أبناؤها الجودو، وتشهد احتفالات الصالات باليوم العالمي للعبة في 28 أكتوبر/ تشرين اﻷول من كل عام.
وظلّ منتظمًا في اللعبة حتى بلغ السابعة عشر، ليتوقف مع انتقال الأسرة إلى مدينة سطات جنوبي الدار البيضاء، فلم يكن بالمدينة الجديدة نادي للجودو "لم أجد عوضًا في أي رياضة أخرى، رغم محاولاتي المتكررة". يقول ناشيد للمنصة.
ويعتبر ناشيد أن الفلسفة والجودو متشابهتان في استخدام العقل، "شعرت بوجود علاقة جميلة بين الرياضات القتالية اليابانية والفلسفة الرومانية الرواقية، وذلك في مستوى مهارات الحكمة العملية: المرونة، ومسايرة اتجاه القوة المعادية، وامتصاص الضربة، وعدم الهروب من المواجهة، والتحكم في انفعالات النفس".
أصبح ناشيد يتلقى الفلسفة على نمط التعاطي مع ممارسة الجودو، كل منهما أداة لمواجهة الحياة، "ليقدم "إضافة إبداعية مهمة، في علاقة الفلسفة بالحياة اليومية، وكتاباته تؤكد على أن الحكمة ليست فكرًا نظريًا فحسب وليست تحليقًا في السماوات"، بعبارة أستاذ الفلسفة بجامعة الزقازيق حسن حماد.
خاض ناشيد قرابة 35 عامًا بين عمله الأساسي في التدريس والكتابة، ومن مدرس اللغة الفرنسية في الابتدائية، أصبح أستاذًا للفلسفة في المرحلة الثانوية، واستطاع خلال هذه السنوات تأليف عشرة كتب، أثار بعضها جدلاً كبيرًا مثل الحداثة والقرآن، بينما أثارت جميعًا الأسئلة.
العودة إلى الجودو
ناشيد، الذي فُصل من عمله في التدريس أبريل/ نيسان 2021، بقرار من رئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني، قرر بعدها العودة إلى مقر ميلاده سلا، وسط جدل حول بواعث العزل من الوظيفة، وتلقيه تهديدات جراء كتاباته في نقد الخطاب الديني، وكذلك اشتباكه مع تيارات مناوئة للتطبيع بعد ترحيبه بالسلام مع إسرائيل.
خلال الأسبوع الأول من التدريبات تصاب قدم ناشيد، وفي الأسبوع الثاني يمتد الألم إلى معصم اليد "الوعكات إشارات توقف لكنها ليست إشارات انقطاع، يجب التمييز". يتفاهم مع طبيعة جسده فوق الخمسين، "صحيح أن جسدَ شخصٍ كهلٍ مثلي لن يكون في مستوى قوة ومرونة شاب في العشرين أو الثلاثين، لكن مع طول ممارسة الرياضة تتقوى قدرة الجسد الطبيعية على الاستشفاء". فالجودو رياضة تعتمد على مهارات المرونة أكثر من قوة البنية.
ولم يكن من سبيل المصادفة أن الجودو والفلسفة الرواقية التي تهدف إلى السعادة بتقبل الحاضر، وكبح النفس من الانقياد للذة أو الخوف من الألم، والتي تمثل حضورًا قويًا في كتابات ناشيد، "كل ما تسعى إليه الرواقية، سواء القديمة أو الحديثة، يساعد عليه الجودو". ويجمعهما تجنب أشكال الانفعالات السلبية، كالخوف والغضب والحقد، التي تضعف القدرة على التركيز، ومن ثم تضعف القدرة على ممارسة الحياة أو المباراة.
كذلك "عدم الهروب من المواجهة للحياة أو الخصم، ومسايرة قوة الخصم، والقدرة على السقوط الجيد، هي نفسها مسايرة لضربات القدر في حياة الإنسان لدى الرواقية".
إحداثيات فلسفية
في صورة نمطية عن الفلاسفة أنهم يبتعدون عن اﻷلعاب القتالية وربما يفضلون اليوجا، بيد أن ذهاب المتفلسفين إلى ساحة رياضة ليست تجربة جديدة في التاريخ الفلسفي، ففي القرن السابع عشر كانت الحرب والفروسية عمل نبلاء أوروبا، بينما الصناعة والفلاحة للعوام، والمبارزة سمة من سمات الرجال المتعلمين، وبما أن رينية ديكارت، كان أحد أبناء أسر صغار النبلاء، فقد مارس المبارزة.
وتعتمد اللعبة على الفهم الحدسي بالزمان والمكان في فضاء قتالي، باستخدام خط مستقيم السيف، وفي لحظة ما يكن المبارز أكثر اهتمامًا بواحد من الجوانب، يتوقع منها تلقي ضربة ما، فعلى مستخدم السيف باستمرار حساب التفاضل والتكامل الهندسي ليستخدم نصله، والحفاظ على نفسه من تلقي ضربات الخصم.
ما يجعل ساحة القتال ميدانًا هندسيًا يعتمد على تحديد إحداثيات. وتصبح ممارسة ديكارت لرياضة المبارزة بالسيف أمرًا ليس مستغربًا، بما أن لديكارت نفسه نظام إحداثيات، شكل فيما بعد نواة الهندسة التحليلية.
المشي على حصى اﻷيام
أمّا فريدريك نيتشه الذي شاع عنه إنتاج أهم أفكاره من على مستويات مرتفعة عن سطح البحر، فقد كان مولعًا بالتسلق والسباقات ومظاهر إنفاق الطاقة والاستمتاع بالقوة. حسبما ورد في كتاب Hiking with Nietzsche لأستاذ الفلسفة الأمريكي جون كاج، كمحاولة لتمثل ممارسات الإله اليوناني ديونيسيوس، الذي كان يعرف بالحر المحرر للرجال من خلال النشوة، والمتجول عبر التلال.
طبقًا لنيتشه أصبح الإنسان المعاصر موظفًا يذهب إلى العمل في رتابة خالية من أي إرادة، طلبًا للأجر في المستقبل، مما جعل حياته منفصلة عن الحاضر ومؤجلة، وفي عالم أصبح الحديث عن الطرق الممهدة للسير مصدرا للفخر، بخلاف الهروب من فكرة أن الحياة تشتمل على مآساة الموت والألم. وانتشار وهم الحياة المثالية والإنسان السعيد.
كان على نيتشه أن يتصل بحاضره من خلال المشي، ويمارسه على أراضي جبلية غير مستوية، مملوءة بالحفر والحجارة، لم تكن مجرد أرضية وعرة، بل أشبه بأرضية الحياة، يضحى السير فيها نمطَ ممارسة الأيام غير الممهدة للسير دون صعاب.
أنتج نيتشه العديد من أفكاره فوق المرتفعات، وقال "كل الأفكار العظيمة تولد أثناء المشي"، لكن مشي نيتشه كان في أحضان الطبيعة، هربًا من قيود المدينة، فوق المرتفعات بحثًا عن مساحة للسمو فوق مشاكل التعاسة والسعادة، والحياة والموت.
تبدو تجربة نيتشه مع المرتفعات، وديكارت مع المبارزة، شديدة الشبه مع تجربة ناشيد والجودو، جميعهم خاض الغمار من أجل تفلسف أعمق، كيف يتفادى ديكارت الضربات ويمارس الهجوم بأسلوبه الهندسي؟ بينما يختار نيتشه أن يسير على الصعاب بين أراضي غير ممهدة، ويقف ناشيد محاولًا تفادي ضربات القدر كلاعب جودو في ميدان الحياة.
حين سألت ناشيد، لما الرياضة؟ قال "العقل لا يوجد داخل منطقة الرأس فحسب، بل يتوزع على الجسد برمته، ذلك اكتشاف نيتشه الذي مهد إليه سبينوزا". لذلك يصعب أن ينتج الجسد المترهل أفكارًا جديدة حسبما يرى، ويضيف مازحًا "لا يوجد ضمن الفلاسفة الكبار من هو معروف بالسمنة والترهل. هناك أساتذة للفلسفة الجامعية متكرشين، لكن الفلاسفة لا".