على حافة التفكك والانقسام، يقف مجلس القيادة الرئاسي اليمني، إثر تصاعد مواجهات دامية منذ منتصف الأسبوع الماضي بين فريقين من القوات العسكرية المنضوية تحت لوائه بمحافظة شبوة الغنية بالموارد النفطية.
الفريق الأول في مواجهات شبوة يضم قوات "العمالقة" و"دفاع شبوة" المحسوبة على المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيًا، والثاني يشمل قوات الجيش الوطني وقوامها، في تلك المحافظة التي تقع في جنوب شرق اليمن، فرقًا وألويةً تابعةً لحزب التجمع اليمني للإصلاح، جناح جماعة الإخوان المسلمين باليمن.
قبل إزاحته من منصبه مطلع أبريل/ نيسان الماضي، عهد الرئيس اليمني السابق عبد ربه منصور هادي بصلاحياته وسلطاته إلى مجلس قيادة رئاسي تم تشكيله بعد مشاورات القوى اليمنية في العاصمة السعودية الرياض برعاية مجلس التعاون الخليجي، غاب عنها المتمردون الحوثيون الذين رفضوا المشاركة مع باقي المكونات اليمنية في السعودية بدعوى تورط الأخيرة في الصراع الممتد منذ 2015.
وحسب وثيقة نقل السلطة كلف هادي خلفاءه في مجلس القيادة الرئاسي الذي ترأسه مستشاره السابق رشاد العليمي وضم في عضويته سبع قيادات سياسية وعسكرية يمنية، بـ "إدارة الدولة سياسيًا وعسكريًا وأمنيًا، وتيسير ممارسة الحكومة لاختصاصها بكامل صلاحيتها"، وحمله أيضا بمسؤولية "التفاوض مع الحوثيين لوقف إطلاق نار دائم في كافة أنحاء الجمهورية والجلوس على طاولة التوصل إلى حل سياسي نهائي".
الإطاحة بهادي جاءت كتعبير عن تفاهمات سعودية إماراتية، بعد أن أيقن الطرفان أن الرهان عليه يضاعف من تكلفة نزيف الخسائر المستمر، فالرئيس السابق الذي استقر في قصر حكمه المنيف بالرياض وحصل على مخصصات مالية مليونية له ولأسرته، لم يفلح في تحريك الأوضاع على الأرض طوال سبع سنوات، نتيجة عدم إحكامه السيطرة على القوى المناهضة لجماعة الحوثي التي كان الخلاف يدب بينها من آن إلى آخر، وفي بعض الأحيان كان الخلاف يتحول إلى صراع عسكري دموي كما حدث في 2019.
لم يتوقف الأمر عند الإطاحة بالرئيس وتشكيل مجلس يعكس الأوزان الحقيقية للقوى السياسية والعسكرية المشاركة في الحرب ضد المليشيا الحوثية الموالية لإيران، بل طال نائبه الفريق الركن علي محسن الأحمر المحسوب على حزب الإصلاح، وهو ما فُسِّر حينها بأن الرياض رفعت وصايتها عن إخوان اليمن وتوافقت مع أبو ظبي على تقليم أظافر الجماعة واجتثاث كوادرها من مؤسسات الدولة الإدارية والعسكرية.
رغم الضغوط الإماراتية فإن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي ضم اثنين محسوبين على حزب الإصلاح، وهما عبد الله العليمي والشيخ سلطان العرادة محافظ مأرب، بدافع الحفاظ على تماسك جبهة المواجهة ضد الحوثيين، حيث تسيطر كوادر الحزب على العديد من المواقع داخل مؤسسات الدولة ومنها الجيش الوطني اليمني الذي ينتسب أو يتحالف عدد من قادته مع "الإصلاح" وفي مقدمتهم وزير الدفاع محمد المقدشي.
لكن يبدو أن قرار تصفية كوادر "الإصلاح" وإخراج الإخوان خارج معادلة السلطة الشرعية المعترف بها دوليًا وتقويض سيطرتهم على قوات الجيش الوطني في بعض المحافظات جرى تفعيله بعد الإطاحة بوزير الدفاع المقدشي المقرب من نائب الرئيس السابق علي محسن الأحمر الذي تم تعيينه مستشارًا لرئيس مجلس القيادة الرئاسي لشؤون الدفاع والأمن.
بعد إقالة المقدشي بأيام اشتعلت الأمور على جبهة محافظة شبوة، فما أن أصدر محافظها الموالي للمجلس الانتقالي الجنوبي المحسوب على الإمارات عوض، ابن الوزير العولقي، قرارًا بإقالة بعض القيادات الأمنية المحسوبة على حزب الإصلاح وفي مقدمتهم عبد ربه صالح لكعب قائد قوات الأمن الخاصة بالمحافظة، حتى تحول التوتر المكتوم الدائر منذ شهور إلى صراعٍ دامٍ أسفر عن مقتل وإصابة العشرات في شوارع مدينة عتق مركز المحافظة.
وبعد ساعات من اندلاع المواجهات الأسبوع الماضي، عقد مجلس القيادة الرئاسي اجتماعًا طارئًا لبحث فرض التهدئة، وأقر خلاله إقالة قيادات عسكرية جميعها موالية لحكومته لكنها محسوبة أيضا على "الإصلاح"، ليستبدل بها قيادات جديدة أحدها موالٍ لـ "الانتقالي"، لكنَّ محاولات المجلس فشلت وتجددت الاشتباكات في الشوارع حتى تدخل الطيران الإماراتي ليدعم القوات الموالية لأبو ظبي، ويسيطر على مركز المدينة ويدفع بقيادات الإخوان من مواقعها بضوء أخضر سعودي وغطاء من قيادة المجلس الرئاسي.
الأحداث الأخيرة في شبوة دفعت عبد الله العليمي عضو المجلس الرئاسي المنتمي إلى "الإصلاح" لتقديم استقالته، لكنَّ مصادرًا إعلاميةً يمنيةً قالت إن الرياض ضغطت عليه للعدول عن الاستقالة لتحقيق الاستقرار في المجلس.
محافظ شبوه ابن الوزير العولقي الموالي للمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات تعهد بدوره بإنهاء ما أسماه تمردًا وانقلابًا على قرارات السلطة المحلية. أما رشاد العليمي رئيس مجلس القيادة الرئاسي فقال في بيان نهاية الأسبوع الماضي إن "المواجهات في شبوة تجر اليمن إلى الصراع بعيدًا عن روح التوافق الذي جاء بموجب إعلان نقل السلطة"، مضيفًا أنه عمل على قطع دابر الفتنة من خلال إقالة بعض القادة العسكريين في المحافظة.
على مدار نحو 60 سنة تشكلت في اليمن 7 مجالس رئاسية، لم يفلح أي منها في تسوية الصراعات، لتظل البلاد خلال تلك العقود رهينة لنزاعات وتصفية حسابات القوى الإقليمية، تدور وتلف في متاهة الدم والنار.
وشكل العليمي لجنة لتقصي الحقائق في المواجهات العنيفة التي شهدتها مدينة عتق، وتحديد مسؤولية السلطة المحلية والقيادات العسكرية والأمنية، ورفع النتائج إلى المجلس لاتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة.
بدورها حمَّلت قوات الجيش والأمن بالمحافظة المحسوبة على "الإصلاح" مجلس القيادة مسؤولية ما قالت إنه تسليم البلاد إلى قوىً أجنبية، متهمة الإمارات بـ "ارتكاب جريمة حرب وإبادة جماعية" ضد قواتها، وطالبت المجتمع الدولي بمحاسبتها.
في هذه الأثناء ضغط حزب الإصلاح لاستصدار قرار بإقالة محافظ شبوة الموالي للإمارات، الذي سيطرت قواته على المحافظة، معتبرةً أن إقالته قد تعيد الهدوء وتخفض من منسوب الغضب داخل صفوف الحزب الذي يسعى إلى تعزيز موقفه باستقدام قوات من محافظتي مأرب وتعز.
موقف قادة "الإصلاح" من أحداث شبوة دفعت كوادره إلى الدعوة لاجتماع طارئ لمجلس شورى الحزب، لبحث إقالة رئيس الهيئة العليا محمد اليدومي، والأمين العام عبدالوهاب الآنسي، اللذان يشغلان المنصب منذ العام 2007 وتعيين قيادات جديدة.
اتهمت قواعد الإخوان قادة الحزب بـ "التواطؤ ولو بالصمت" على ما جرى في شبوة تحت سمع وبصر مجلس القيادة الرئاسي الذي يضم في عضويته اثنين من "الإصلاح".
لا يقف الصراع في شبوة عند نقطة اجتثاث الإخوان وكوادر الإصلاح من مؤسسات المحافظة المدنية والعسكرية فقط، فالمحافظة الغنية بالموارد الطبيعية تشهد صراعًا غير معلن على كعكة حقول النفط والغاز التي تتسابق شركات فرنسية وأمريكية للتعاقد عليها في ظل أزمة الوقود المتصاعدة منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
وبحسب وما طرحته وسائل إعلام يمنية فإن احتياطات الغاز في شبوة صارت مطمعًا للقوى المتحالفة نظريًا تحت لواء مجلس القيادة الرئاسي والمتصارعة فعليًا على حصة صادرات الغاز الطبيعي المسال في منشآت بلحاف، وفي الخلفية تظهر مطامع الدول الدعمة لتلك القوى.
أضفت أحداث شبوة الأخيرة قتامة متزايدة على المشهد اليمني القاتم بالفعل، فالمجلس الرئاسي الذي تشكل قبل 4 شهور بهدف التفاوض مع الحوثيين للتوصل إلى حلٍّ سياسيٍّ نهائيٍّ للصراع الذي فكك الدولة اليمنية وشرد شعبها، أو حسم هذا الصراع عسكريًا باعتبار أن معظم أعضائه يغلب عليهم الطابع العسكري، ويملكون قوات تقاتل بالفعل على الجبهات المختلفة، أخفق حتى الآن في تحقيق أهداف تسلمه السلطة.
يقف إنجاز المجلس عند حدود التوصل إلى هدنة هشة مع الحوثيين، تخضع تلك الهدنة إلى مواءمات وتوافقات إقليمية ودولة بين الرياض وطهران وبين الأخيرة وواشنطن التي تسعى إلى إتمام الاتفاق النووي وفق شروط جديدة، ولن تتبدى في الأفق أي مسارات لمفاوضات الحل السياسي إلا بعد توافق اللاعبين الدوليين والإقليميين.
أما على الأرض فتتصارع قوات مكونات مجلس القيادة الرئاسي مع بعضها البعض بدلًا من توحيد قواتها وتوجيه جهودها لمعركة حاسمة تجبر جماعة الحوثي على القبول بالجلوس على مائدة التفاوض.
ما قد يزيد الطين بلة أن يؤدي الصراع الدائر في شبوة والذي قد ينتقل إلى محافظات أخرى إلى تقارب بين العدوين اللدودين (الإخوان والحوثيين)، ففرص تحلفهما تتزايد بعد أن اتضحت نوايا المجلس الرئاسي.
على مدار نحو 60 سنة تشكلت في اليمن 7 مجالس رئاسية، لم يفلح أي منها في تسوية الصراعات قبلية كانت أم سياسية، ظلت البلاد خلال تلك العقود رهينة لنزاعات وتصفية حسابات القوى الإقليمية عبر وكلاء محليين، ومع تشكيل كل مجلس رئاسي يتم تصدير شعارات التوافق والحلول التي تهدف إلى استعادة الاستقرار، ثم بعد وقت قصير تبدأ جولة جديدة من الصراع على السيطرة بين مكوناته، ومع بلوغ الصراع ذروته يبحث المتنازعون عن حل.. وهكذا يظل اليمن السعيد يدور ويلف في متاهة الدم والنار.