أخذني حديث مع والدي إلى ألعاب الفيديو جيم، وتحديدًا جهاز PS 1 الذي فاجأني به منذ زمن وهو عائد من الخليح. كنّا، كل بضعة أيام، نتشاجر ويخبئه في مكان لا أعرفه كي أنتبه لدراستي. ذكرت له أن أرباح محترفي الألعاب الإلكترونية e-sports الآن باتت متعددة الأصفار، وعاتبته ساخرًا "لو مكنتش خبّيت البلايستيشن، كان ممكن أمسّي عليك دلوقت بمليون ولا حاجة". ضحك والدي "لو كنت عرّفتني الأرقام دي وقتها كنت قعدت لعبت معاك".
لم أكن في طفولتي ومراهقتي أتصور أن تلك الألعاب ستصبح بابًا للربح بعد عقود من ابتكارها في 1952. ظهرت أول لعبة على الكمبيوتر من خلال أطروحة دكتوراة في جامعة كامبريدج، وهي لعبة xox المصممة لمنافسة الحاسب الآلي كلاعب افتراضي. وفي 1958، صدرت لعبة تنس، يمكن للاعبين أن يتحكما في اتجاه الكرة أعلى الشبكة بواسطة عصا. كانت اللعبة الجديدة انتصار تقني لتتبّع محاكاة الكمبيوتر للفعل البشري.
وفي 1962، صدرت لعبة spacewar التي سمحت بالتنافس بين عدد من اللاعبين. ومع انتشارها، أُطلقت "أولمبياد بين المجرات في الفضاء" عام 1972. وفيها يجلس مجموعة من اللاعبين كل واحد أمام جهاز، يتنافسون معًا، والفائز يحصل على اشتراك مجّاني لمدة عام في مجلّة rolling stones نصف الشهرية، إحدى أشهر مجلّات الثقافة الشعبية وقتها.
تدخلت شركة atari الناشئة حديثًا في المجال آنذاك، وطوّرت اللعبة spacewar لمحاكاة الواقع قدر التقنية المتاحة، وأضافت شريط صوت يعزز واقعية اللعبة. وفي 1987 نظّمت الشركة بطولة شعبية استوعبت 1000 متسابق.
وبعد فترة، مع انتشار ألعاب كثيرة بإمكانيات محدودة، تعطّل قطاع الألعاب الالكترونية مع الفجوة بين عدد الألعاب والإقبال عليها. وهنا تدخّلت شركة netrek عام 1988 وأصدرت أول لعبة كمبيوتر يمكن لـ16 لاعبًا التنافس مع بعضهم خلال شبكة إنترنت محدودة، فأعادت هذه الخطوة الألعاب الإلكترونية إلى ذروتها. وبعد عامين أقامت شركة Nintendo بطولة شعبية للجمهور، كان أشهرها لعبة Super Mario.
لكن في أواخر التسعينيات، توقفت شركات الألعاب عند ذروة لم تستطع تجاوزها، لأن العوائد الربحية استقرت على مستوىً مُرضٍ. إلى أن حققت شركة sony ذروة جديدة مع دخولها السباق.
ألعاب ما بعد التسعينيات
بدأت sony العمل على جهاز PS 1، لتغيير أفق الألعاب الإلكترونية. أصدرت جهاز بلايستيشن 1، الذي تجاوز ضخامة الكمبيوتر وقتها، باسطوانات تشغيل رفيعة وصغيرة، ومحركات تشغيل بسعة استيعابية أعلى، ومؤثرات بصرية وصوتية، وحولت التنافس الافتراضي لشعور واقعي، وهنا بدأت علاقتي بتلك الألعاب.
خلال التاريخ الصغير لرياضة الألعاب الإلكترونية، يمكن اعتبار PES 1 الطفرة الأكبر. كان أول ما أزاح اللعب من حيّز الخيال، وأنتج ألعابًا لها شعبية كبيرة، التنافس فيها مأخوذ من مفردات الواقع، بالتالي انطوى المكسب فيها على شعور بأنك، كلاعب، خضت منافسة واقعية. الميكانيزم نفسه اعتمد عليه في إصدارات PES الأخرى حتى PES 5 الصادر حديثًا.
لمواكبة التطور التقني في الموبايلات، حافظت sony على إصدار PlayStation portable بكفاءة تقنية عالية. وعملت منذ 2004 حتى 2011، على إصدار أجهزة محمولة، كما أصدرت متجر PlayStation store لشراء ألعاب تلك الأجهزة، ولكن بعد مجّانية التطبيقات على Google play وApp Store، أوقفت إنتاج الأجهزة.
إلى النجوم
حسب تقرير "إحصائيات مفاجئة وراء الارتفاع السريع لاقتصاد الألعاب الإلكترونية" تبلغ الأرباح السنوية من الرياضة الجديدة حوالي 3 مليار دولار، وقيمة مجموع المؤسسات الداخلة في تطويرها 400 مليار دولار.
واللافت أن الرياضة الإلكترونية، خلال تطورها في العشر سنوات الماضية، أصبحت الآن مثل أي مؤسسة حديثة، ليست جزءًا من شيء، بل تمثّل ذاتها من خلال منظّمات وشركات راعية واتحادات رياضية.
من ناحية أخرى، فأدوات تفعيل الرياضة الجديدة أكثر سهولة من غيرها. وخلال مرحلة كورونا، كانت الرياضة الإلكترونية الوحيدة التي لم تتعرّض للخسارة، بل تطورت، لأنها لا تحتاج إلى أكثر من سيرفر نت قوي، وجهاز كمبيوتر بجودة كافية، وشركات تستطيع تنظيم عمليات البث المباشر والترويج لها عالميًا. وارتفع عدد لاعبي leg of legends خلال فترة كورونا إلى 150 مليون لاعبًا يوميًا.
نتج عن ذلك التطوير السريع، إدراج الرياضة الإلكترونية في مختلف بورصات العالم، أهمّها بورصتي ناسداك ونيويورك، وأهم مستثمريها مايكل جوردن و ديفيد بيكهام.
وبحسب تقرير آخر بعنوان "النظام البيئي للرياضات الإلكترونية في 2022"، ارتفعت نسبة مشاهدات البث المباشر للمنافسات الإلكترونية، خلال منصتّي twitch و YouTube live إلى 11.5% مقارنة بالسنة السابقة، لتصل إلى 29.6 مليون مُشاهدة حول العالم. هذه الإحصائيات لا تشمل الجمهور الذي يتنافس على تذاكر مشاهدة بطولات عالمية في ملاعب مخصصة لها، بسعة جماهيرية تتجاوز ملاعب كرة القدم.
لا تتوقف هذه الصناعة على الجانب التجاري فقط. فهناك شركة ampverse القابضة، التي تضم قطاعًا كاملًا مسؤولًا عن اكتشاف لاعبين لديهم ملكات احترافية من بين الهواة، لتأهيلهم حسب احتياجات كل لعبة، وتوقيع عقود معهم، وتنشئتهم وفق روتين تدريبي وصحي حادّ. وطوال فترة تواجد اللاعب ضمن فريق مختص بلعبة معيّنة، يكون له راتب ثابت ومكافآت مالية من أرباح الفوز بالبطولات.
أصبح لكل لاعب محترف ثمنًا تسويقيًا، وهناك شراكات مع شركات كبرى لتصنيع تيشرتات وبيعها في منافذ خاصة بكل لعبة، وشراكة مع مؤسسات تقنية، مثل شركة Asus التي دخلت سباق التطور الحالي وأصدرت هاتفًا صغيرًا مختص ببعض الألعاب الإلكترونية.
تجاوز طموح الـ e-sports الآن الدفاع عن اعتبارها رياضة من عدمه، لم يعد ممثلوها في حاجة لإثبات ذلك. ثمّة خطاب اجتماعي عالمي للعبة، يعتبرها "لغة عبور ثقافي" متجاوز لحدود المكان، يتيح للمحترفين فرصًا أكثر سهولة من رياضات أخرى.
المنافسة تحتدم في حي الزهور
من وقت لآخر، أذهب أنا وأصدقائي، معظمنا في منتصف العشرينات، لنلعب البلايستيشن في أحد المحلّات بحي الزهور في مدينتي بورسعيد. مثل عواجيز في المجال، نبحث عن فردوس سابق، كنا فيه حرّيفة ومميزين، نجلس بمستوياتنا المقبولة بين محترفين ملتصقين بالمقاعد ساعات طويلة أمام الشاشة.
يمثل حيّ الزهور نموذجًا لجماهيرية تلك الألعاب، وتحديدًا شارع "البلايستيشن" المعروف منذ سنوات بمحلّاته وأجهزته عالية الجودة. ويتردد عليه بانتظام صديقي محمد أبو وردة، أحد هواة لعبة fortnite.
سألته عن سبب تكتل محلات تقدم المنتج نفسه في مكان واحد، وكيف تظل رغم ذلك مزدحمة باللاعبين، أخبرني أبو وردة أن ميزة الشارع وفرة كل شيء فيه. داخل السايبر تجد وجبات سريعة ومشروبات باردة وساخنة، ومع المداومة يمكنك أن تلعب بسعر أقل للساعة الواحدة، مع التساهل في اللعب دون مقابل أحيانًا.
يجمع شارع البلايستيشن شمل الهواة الطامحين للاحتراف، يتخصص كل منهم في لعبة معيّنة، وينتظرون المشاركة في try outs، وهي بطولات ودية تنظّمها شركات راعية وفِرق، تُقام موسميًا لانتقاء لاعبين وضمّهم لفريق محترف.
أخبرني أبو وردة أنه أثناء انتظار فرص الاحتراف، يمكن للدؤوبين تحقيق أرباح معقولة. لعبة sc go، وهي من الألعاب المنتشرة بين شباب الشارع، تسمح للاعبين ببيع عناصر- items تُكتسب مع كثرة اللعب، بمقابل مادي، وتحصل اللعبة على عمولة من 40 إلى 50% من قيمة عملية البيع.
يلعب أبو وردة وزملائه في السايبر نحو 10 ساعات يوميًا، لكنه يشير إلى التزامه، هو ومن يطمحون إلى الاحتراف، بنظام صارم يوازي بين حياته واللعب.
ومن بين الفرق المصرية الرائدة في المجال، هناك فريقي أنوبيس ورعد. تكوَّن فريق أنوبيس من خلال مجموعة مهتمين بألعاب leg of legends و sc go و fortnite، وحصلوا منذ 2017 على 16 لقبًا.
أما فريق رعد، فيشارك ويحصد ألقابًا في بطولات عالمية، منذ نشأته تحت رعاية المصرية للإتصالات we في 2015، وبحكم جودة الرعاية لديه أكثر من فريق في ألعاب مختلفة.
لدى الفرق المذكورة أماكن خاصة للتدريب، رعد مثلًا لديه مقر في التجمع الخامس في القاهرة، به غرف للتدريب اليومي، وأخرى للنوم والمعيشة، إضافة إلى روتين يومي ونظام غذائي وساعات نوم محددة الوقت والمدّة، للحفاظ على الحضور الذهني والبدني للاعب.
لم تصل الرياضة الإلكترونية لذروتها بعد، رغم انتشارها العالمي خلال سنوات قليلة حتى أنك لو نظرت حولك ستلاحظ انتشار الـ gamers السريع، في الواقع وعلى منصّات السوشيال ميديا. وحتى على مستوى الحكومات، يدعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الرياضة الإلكترونية منذ سنتين، ويعمل على إدراجها ضمن المناهج الدراسية، وتزويد المدارس بمعامل خاصة للتدريب.
ربما كان على والدي فعلًا، أن يشاركني في طفولتي، يجلس ويلعب معي!