يبدو أن دونالد ترامب عاد مرة أخرى إلى نشاطه السابق في الثرثرة الرقمية بكثافة بعد إبعاده عنوة عن السوشيال ميديا واعتباره شخصًا غير مرحب به داخل العالم الرقمي، وذلك عبر مكبرات الصوت الخاصة بمنصة تروث سوشيال (Truth Social)، التي أطلقها في فبراير/شباط الماضي خصيصًا لذلك.. تُرى ما تأثير تلك المنصة في ظل تفاقم قوة وسائل الإعلام الجديد التي منحت الجميع مساحةً رقميةً للتعبير حتى الأشخاص الأكثر تطرفًا في العالم؟
بدأت قصة المنصة الترامبية عقب كشف الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة، والأكثر إثارة للجدل في تاريخها، عن خططه لتدشين منصة رقمية بديلة، كرد انتقامي على المنصات الكبرى التي حظرته من استخدامها على خلفية حادثة اقتحام مبنى الكابيتول أوائل العام الماضي، حينما ألقى خطابًا حماسيًا أمام حشد كبير ممن وقعوا فريسة لنظرية مؤامرة ساقتها حركات يمينية متطرفة، مثل، QAnon وProud Boys، اللتين تزعمان حدوث تزوير في العملية الانتخابية.
وبعد مرور أكثر من سنة؛ زفَّ ترامب إلى العالم الرقمي نبأ تدشينه منصة بديلة عن المنصات الرقمية الكبرى، ونشر نجله دونالد ترامب الابن تغريدة تبشر بالعودة المرتقبة، تحمل لقطة شاشة للمنشور الترامبي الأول من داخل منصته الجديدة، يقول ترامب فيها "اجهزوا، رئيسكم المحبوب سيكون معكم قريبًا".
تروث سوشيال .. ماذا بعد؟
تروث سوشيال منصة رقمية ذات توجه سياسي، وهي إحدى منتجات شركة Trump Media & Technology Group، التي خططت للاكتتاب العام عبر الاندماج مع شركة Digital World Acquisition Corp، وهي شركة استحواذ ذات أغراض محدودة (SPAC)، بقيمة سوقية تقدر بما يزيد عن 3 مليارات دولار.
تروج المنصة الترامبية البديلة لنفسها اعتمادًا على حيلة تقديم وعود حرية التعبير دون رقابة للمستخدمين المنتمين لتيار اليمين المحافظ.
وتعرف تروث سوشيال نفسها على موقعها الإلكتروني الرسمي بأنها شركة ضخمة للإعلام الاجتماعي، أو ما يعرف بـ Big Tent، تشجع على إجراء محادثات عالمية "مفتوحة وحرة وصادقة"، دون تمييز ضد الأيديولوجية السياسية، إلى جانب سعيها إلى خلق مساحة للوقوف في وجه استبداد شركات التكنولوجيا الكبرى، في إشارة ضمنية إلى المادة 230 من قانون آداب الاتصالات، التي تحمي الشركات العاملة في القطاع الرقمي من المسؤولية التحريرية والإشرافية على المحتوى المنشور.
تبدو منصة تروث سوشيال مستنسخة من تويتر، غير أن التدوينات القصيرة تسمى فيها "حقائق" أو (Truths).
وتشير الدلائل الأولى إلى وجود مجموعة كبيرة من العراقيل، التي تقف أمام نجاحها، من أهمها: قسوة التنافس في بيئة متخمة بالعديد من شبكات الإعلام الاجتماعي الشهيرة وواسعة التأثير، وفشل جميع التجارب السابقة في تدشين منصات بديلة للجمهور التيار المحافظ، مثل مواقع Parler وGab وGETTR المحاكية لموقع تويتر، وموقع Rumble المقلِّد لموقع يوتيوب.
هذه التنافسية، إلى جانب مشكلات تتعلق بسمعة ترامب التجارية ودرجة الثقة في علامته الشخصية، عقب فترة رئاسته القلقة للولايات المتحدة، بجانب امتلاكه تاريخًا حافلًا بالمشروعات الهزلية سريعة الفشل، مثل: ترامب ستيكس، وجامعة ترامب، وترامب فودكا، تفسر الانخفاض في المشاركة بعد أسابيع من إطلاقها.
وتراجع ترتيب المنصة الترامبية (من رأس القائمة في اليوم الأول لها إلى المركز رقم 116) بعدما كانت لفترة وجيزة التطبيق المجاني الأكثر تنزيلًا على متجر أبل في الولايات المتحدة، (والذي يأخذ بعين الاعتبار عدد مرات التحميل والوقت الذي يقضيه المستخدمون عليها)، وذلك وفقًا لتحليل أجرته شركة Sameweb، مع استقالة عدد من المديرين التنفيذيين وكبار الموظفين في المنصة.
كما وجدت دراسة أن التنزيلات انخفضت بنسبة تصل إلى 95%، فنجد مع الإقبال البطيء أن ترامب نفسه لم ينشر على منصته إلا نادرًا.
تأثير الترامبية على الفضاء الرقمي
يرجع عدم الارتياح الحالي لفكرة وجود مؤثر سياسي مثل دونالد ترامب داخل العالم الرقمي إلى قوة السوشيال ميديا وتمركز السلطة فيها مع عدد قليل من الشركات، ولا يتعلق بما إذا كانت شبكات الإعلام الإجتماعي مفيدة في حد ذاتها أم لا، فالأمر يتعلق بدرجة أكبر بالاستقلاليّة.
وفقًا لرؤية الكاتب الأمريكي كال نيوبورت في كتابه Digital Minimalism: Choosing a Focused Life in a Noisy World؛ فإن الرقمية في جوهرها ليست جيدة ولا سيئة، لكن كلمة السر تكمن في كيفية استخدامها لدعم مجموعة أهداف وقيم بطريقة معينة، عبر دفعها عنوة بدلًا من تركها لطريقة استقبالنا وتلقينا الخاصة كمستخدمين.
الكارثة أن هذا يحدث في الوقت الذي ساوت فيه شبكات الإعلام الاجتماعي بين الحائز على جائزة نوبل وبين الغائب عن الوعي، كما قال أمبرتو إيكو في أحد اللقاءات الصحفية "إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورًا. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل.. إنه غزو البلهاء".
فما بالنا لو تركزت تلك القوة بسلطتها الجبارة في يد شخص شعبوي مثل ترامب، يستطيع حشد المزيد من الشعبويين حاملي شعارات "أمريكا القديمة"، شخص يصفه قاموس Urban Dictionary للتعبيرات الاصطلاحية والعامية بـ "meme god"؛ نظرًا لامتلاكه قوة حقيقية مهولة، نجحت في تنصيبه إلهًا للميمز في الولايات المتحدة، بعدما خلف وراءه مصطلح "الترامبية" (Trumpism)، كدلالة على الأيديولوجية الشعبوية والانعزالية والتآمرية والعنصرية القائمة على ثالوث القومية والدين والعِرق، باعتبارها أسلوبًا سياسيًا لحكم الشعوب.
كل ذلك بجانب الأخذ بعين الاعتبار، أن السوشيال ميديا في أساس بنائها بيئة معلوماتية ذات طبيعة لا مركزية وتشاركية، مملوءة بالأخبار الكاذبة والحماقات والشائعات والتضليل، كما يمكن لأصحاب الآراء العنصرية أن ينظموا أنفسهم علنًا عبرها مثلما حدث أثناء حادثة اقتحام مبنى الكابيتول. ويقول المؤرخ في جامعة شيكاغو، جوردان بيم "إن الفضاء ليس المكان المثالي المختلف عن عالمنا، بل إنه المكان الذي يتم فيه إعادة إنتاج وتضخيم كل مشاكلنا الأرضية".
كان يقصد بحديثه الفضاء الخارجي بجميع كواكبه ومجراته، لكن الأمر نفسه ينطبق على الفضاء السيبراني بجميع شبكات الإعلام الاجتماعي التي تدور في فلكه.
وفي دراسة أجرتها جامعة نافارا حول تأثير تغريدات ترامب على عناوين الصحافة الأمريكية (خلال المائة يوم الأولى من فترة رئاسته) على إدراكه قوة تأثير السوشيال ميديا أكثر من أي رئيس أمريكي آخر، ونجاح أسلوبه التغريدي في تمكينه كمصدر رئيسي للأخبار لدى وسائل الإعلام التقليدية وبين المواطنين.
وعليه؛ يمثل إطلاق منصة تروث سوشيال الرقمية كبديل للمنصات الكبرى، اختبارًا حقيقيًا لمدى قدرة ترامب على حشد مناصريه وتحفيز مستخدمي الإنترنت المحافظين لمساندته في معركته الانتخابية المقبلة، إذا ما قرر الترشح لرئاسة البيت الأبيض مرة أخرى في عام 2024.
قوة السوشيال ميديا في الحياة السياسة
شهدت البشرية خلال العقدين الماضيين طوفانًا رقميًا مهولًا، لا يمكن التغاضي عن قوته الجارفة في استبعاد لاعبي الأساليب التقليدية من فوق خشبة المسرح السياسي، بعدما بلغ عدد مستخدمي مواقع السوشيال ميديا حول العالم 3.6 مليار خلال عام 2020، مع توقعات بأن يصل إلى ما يقرب من 4.41 مليار بحلول عام 2025.
لم تغير الثورة الرقمية طرق التواصل الإنساني فحسب، بل وسبل امتلاك زمام القوة لإحداث التغيير في العالم
هنا يؤكد عالم الاجتماع الفرنسي دومينيك كاردون (Dominique Cardon) في كتابه الثقافة الرقمية (Culture Numérique) على ما يسمى بالديمقراطية الرقمية، والتأثير الكبير لشبكات الإعلام الإجتماعي في السياسة، من خلال تنمية أساليب جديدة للتعبير عن الرأي والاحتجاج والحشد العام، وسط حالة المد والجزر مع السلطات والحكومات والهيئات المنظمة التي تسعى إلى مراقبة الإنترنت، مما جعل الكاتب مالكوم جلادويل يقول إن الناشط كان في الماضي يُعرف بقضاياه، أمّا اليوم في عصر جماهير الإنترنت، فإنه يعرف بأدواته الرقمية.
وعليه، تطرح المنصة الترامبية نموذجًا جذريًا جديدًا لقدرة وسائل الإعلام الجديد على قيادة التأثير في العالم، بعدما غيرت منصات السوشيال ميديا قواعد ممارسة اللعبة السياسية، ومفاهيم إدارة السلطة وأساليب قيادة الجماهير، مثلما حدث في ثورات الربيع العربي وما تلاها من أحداث، بإعادة هندسة المجال السياسي تمامًا.
إذ لم تغير الثورة الرقمية طرق التواصل الإنساني فحسب، بل وسبل امتلاك زمام القوة لإحداث التغيير في العالم، من خلال قدرتها على إعادة توزيع السلطة بين الحكومات والمواطنين، وتغيير أساليب ممارسة اللعبة السياسية القديمة؛ وفقًا لدراسة قامت بها Havas Group عام 2013 وشملت 31 دولة، فإن العامل الأكبر للتغيير هم "الأشخاص" أو بمعنى أدق "المستخدمين" لشبكات السوشيال ميديا.
هذا أدى إلى تبنِّي القادة والسياسيين لشبكات السوشيال ميديا، في محاولة من جانبهم للتواكب مع التوافد الحماسي لرجال الشارع والمؤثرون في الرأي العام والنشطاء السياسيين على تلك الشبكات، باعتبارها أداةً حيويةً للمشاركة والتواصل والتفاعل الفعال مع الجماهير من المستخدمين.
وهكذا، نمَت قوة ترامب الرقمية داخل الفضاء السيبراني على تلك الحدود شائكة التفاصيل، بعدما ابتلعت شركات السوشيال ميديا الكبري ممارساته المنحرفة عن السياسات التحريرية الخاصة بنشر الأخبار الزائفة والتحريضية بجانب انتهاك لحرية الرأي والتعبير عدة مرات، حتى جاءت اللحظة الحاسمة بطرده رسميًا منها عقب أحداث مبنى الكابيتول الأمريكي.
في النهاية؛ دائمًا ما يسلمنا الماضي بما يحمله من تجارب وخبرات ونجاحات وإخفاقات ومآسي إنسانية إلى اللحظة الحاضرة التي نشهدها بأعيننا، بعدما يرسم السياق والمتغيرات والحدود ويمهد الطريق إلى بناء مستقبل مغاير.
نحن الآن أمام لحظة مفصلية لاختبار مستقبل شبكات الإعلام الاجتماعي وقوتها وقدرتها على إحداث التغيير والتأثير على العملية الديمقراطية أو عرقلتها حتى في أعتى قلاعها، فقد يذهب ترامب إلى غير رجعة من فوق خشبة المسرح السياسي، لكن يبدو أن الترامبية الرقمية ستبقى إلى غير زوال طالما سُمح للمتطرفين ومروجي الشائعات بالتواجد داخل شبكات السوشيال ميديا.