منشور
الجمعة 5 أغسطس 2022
- آخر تحديث
الجمعة 5 أغسطس 2022
في مدينة تضيق على أهلها والعابرين إليها، تمر الذكرى الثانية على ثاني أكبر تفجير غير نووي في التاريخ البشري؛ تفجير مرفأ بيروت. مدينتي التي وعيت على الدنيا وهي تُنتشل دائمًا من بين الحطام، وتغرق في دخان حرائقها المستمرة.
في ذاكرتي، هي مدينة من أربعة جدران، نحتمي فيها من الرصاص الطائش والميليشيات الطائشة. تُزين لنا أغاني فيروز الحياة باحتراف الوهم، وتخدر الخوف فينا، نحن مواليد الحرب اللبنانية. سمعنا من أهالينا أن بلدنا كان جميلًا وصدقناهم، وأننا سوف نبنيها، أوليست "ست الدنيا"؟ قالوا إن لا يَد لنا في كل هذا الدمار، فهي "حروب الآخرين على أرضنا" ونحن أبرياء منها، ضحايا.
ولكني أتساءل من أين يأتي كل هذا الخراب إذا كُنا ضحايا، ومشهد الأهراءات المحترقة، وواجهات البنايات المهشمة، هو أقرب ما في الذاكرة عنها؟
صور الناس بعد الانفجار يغطيهم التراب والدم والشظايا، تعيد شريطًا تحفظه ذاكرتنا جيدًا. صور لم تغب أصلًا، فلم تُمهلنا الحرب كي نعبر إلى الضفة الأخرى وتصبح وراءنا. شبح لن يغيب. نذكرها مرة بالاغتيالات والتفجيرات، ومرات كثيرة بوجوه أمراء الحرب يحكمون ويتحكمون.
كنا ندرك تمامًا أنها لم تنته، وأننا في هدنة مؤقتة يتم خرقها كلما استدعت الحاجة للتأكيد على سلطة هذا الطرف أو ذاك. أدركنا ذلك، لكننا تظاهرنا بأننا لا نعرف. ربما أردنا أن نستمتع قليلًا بمسرحية السلم الأهلي كي نلتقط أنفاسنا قبل أن ننصب المتاريس الترابية مرة أخرى.
في زياراتي المتكررة، لم أقنتع بمظاهر "السلام" التي عمت شوارع بيروت بعد الإعلان عن توقف الحرب بتوقيعات باهتة على الورق، ولا بانفتاح المناطق على بعضها بعد فصل دام لعقدين. ففي كل مرة كنت أبحث عن أرض صلبة بُني عليها المشهد الجديد ولا أجد سوى أرض مائعة وكأن تحتها حمم تصهرها.
جيلي لم يتعاف بعد، والجيل الذي وُلد بعد الحرب لا يعرف الأثمان التي دفعتها تلك المدينة. يرطن بلغة الحرب رغم سكوت الرصاص وأزيز القذائف. جيل لم يعرف خطوط التماس، لكن لُغته مليئة بالحواجز والألغام والكثير من التعالي، وعند أول فرصة يتحول وقودًا لمحرقة جديدة.
تغيب العدالة بعد عامين على التفجير، هذا ليس بالجديد أو المستغرب. فهل يُحاسب الجلاد نفسه؟ بعد الحرب تمت ترضية زعمائها بتوزيع السلطات عليهم، كرشوة لإخماد النيران. ولم تتحقق العدالة. لم نطالب بها كفاية أصلًا، كُنا نتوق لبعض الهدوء ولملمة أشلاء مدينتنا وأعمارنا التي تلاشت فيها. قَبِلنا بتسوية منقوصة مقابل الحفاظ على حياتنا، ولا زلنا ندفع الثمن.
الزعماء القدامى فرّخوا زعماء جدد ورثوا عنهم شهوة السلاح والدم، وجحافل الأتباع، كلٌ في منطقة سيطرته، الفرق الوحيد أنهم أزالوا الحواجز التي كانت تفصل حدود النفوذ بينهم. يتعاملون مع جريمة بحجم تدمير مدينة وحرقها بنفس منطق تعاملهم مع عشرين عامًا من الحرب الأهلية، بأن "عفا الله عما مضى ولنتطلع إلى المستقبل". مُستقبل لا يأتي أبدًا ونحن عالقون في مرحلة واحدة نراوح مكاننا.
في إحدى أغنياته يصف زياد الرحباني اللبنانيين بأنهم "أورطة عالم مقسومين"، وأورطة كلمة تركية تعني الوحدة العسكرية، وبالعامية اللبنانية تعني مجموعة عالم. لا أجد وصفًا أكثر دقة لهذه المجموعة المتنافرة من البشر الذين أُجبروا على العيش في بقعة جغرافية واحدة. فواضع الخرائط قبل سبعين عامًا، قرر أن يجعلها بلدًا واحدًا بغض النظر عن أن ما يُفرّق بين أهلها أكثر مما يجمعهم.
أقليات متناقضة في جوهرها البنيوي والعضوي تُركت لمصيرها لتؤسس دولة بناءً على حفظ التوازنات، وليس المواطنة. هذه القلة تَنسب لبنان إلى محيطه العربي، وتلك تُريده إيرانيًا، وأخرى فينيقيًا أو أوروبيًا، وبين تلك الأقليات أقلية تكاد تختفي، تطمح أن تجعله بلدًا آدميًا يصلح للعيش دُون أي اعتبارات مناطقية أو طائفية.
لا أدري إن كانوا سينجحون في ذلك قبل أن تبتلعهم "المصالح المشتركة" لكنهم على الأقل يحاولون.
حياة المدن مثلنا نحن البشر، لها أعمار، تشيخ وتذبل وتحتضر طويلًا
من تبقى من عائلتي وأصدقائي في لبنان يأملون أن يُهاجر أبناؤهم على الأقل للدراسة إن لم يكن العيش في الخارج. لا يريدون لهم أن يعيشوا ما عشناه، وكأنهم يُعلنون يأسهم من إمكانية الحل قريبًا، من استطاع النجاة فليفعل.
أعرف كثيرين باعوا كل ما يملكون ورحلوا. تشير الاحصائيات إلى أن لبنان يشهد موجة هجرة جماعية تضاف إلى موجات تاريخية لهجرة أبنائه. ولكن إلى أين هذه المرة؟ في عالم يبدو وكأنه يدور في خلاط الزمن ليعيد تشكيله.
أذكر جيدًا أزمة الثمانينيات الاقتصادية التي عصفت بنا مع بداية وعينا، ولكن وطأ الأزمة اليوم أشد وأقسى. في السابق كانت أبواب كثيرة مفتوحة لاستقبال خبرات اللبنانيين وكان العالم بحاجة إليها. رغم الحرب، خرج من هذا البلد رواد في المجالات كافة. لكن اليوم ما الاستثناء الذي يملكه اللبناني ليعطيه للعالم الذي صار متخمًا بما هو ضروري وما يفيض عن الحاجة؟
كم أود أن أختم هذا النص بالحكي عن مجد لبيروت ينتشلها من تحت الرماد، وعن زمن يشبه وجه البحّار القديم. لكن الواقع أكثر قسوة من أن تُجملّه كلمات الأغاني وأساطير الرماد وجذوة النيران التي لا تنطفئ. ما عادت تُجدي في زمن لا يؤمن أحد فيه بالمعجزات.
حياة المدن مثلنا نحن البشر، لها أعمار، تشيخ وتذبل وتحتضر طويلًا. وما تبقى من الأهراءات المحترقة على شاطئها يُكمل المشهد الجنائزي كشاهد على نهاية لا بد منها. يهددون أن الحرب هي المخرج الوحيد لعقدة بناء الوطن، وأن البقاء للأقوى، لمن يملك السلاح ويفرض ضريبة الدم على كل من يختلف معهم.
هنيئًا لكم هذا الخراب. أما بيروت، فمدينة تحترف الغواية، ومن يدري؟ ربما في زمن ما سيأتي بشر غيرنا تسحرهم بيروت بغوايتها كما سحرتنا، وأتمنى ألا تحل عليهم لعنة الرماد، وألا يتوقوا للاحتراق مثلنا.