عن حقيقة الإنتاج وسراب الإنتاجية
مع كل أزمة مالية تواجهنا يمد صندوق النقد يده بالمساعدة, ولا يبخل علينا بالمال لكنه يقلب علينا دائمًا مواجع ما يسمى بالتخلف التكنولوجي والرأسمالي, وربما الثقافي والأخلاقي, من خلال طلبه المتكرر بتحسين مستوى "الإنتاجية" في الاقتصاد. على الرغم مما يبدو عليه مفهوم "الإنتاجية" من الحياد العلمي الذي يسعى اقتصاديون الصندوق دائمًا للتظاهر بأنه سمة مميِزة لخطابهم، لكن العديد من الأدبيات الناقدة لهذا المفهوم ترى أنه موجه أيديولوجيًا.
خلال العقود الأخيرة، احتلت مسألة الإنتاجية المنخفضة موقع شديد المركزية من حديث مؤسسات التمويل التي تفرض شروطها على دول الجنوب. وعادة ما تُطرح زيادة الإنتاجية كسبيل للخروج من فخاخ الاختلالات الهيكلية التي تعاني منها ما يسمى بالاقتصاديات الناشئة.
على سبيل المثال، شدد تقرير صندوق النقد الدولي عن اتفاق الاستعداد الائتماني الذي وقعه مع مصر في عام 2020، على ضرورة إجراء إصلاحات هيكلية لتعزيز الشفافية في إدارة الشركات المملوكة للدولة، وتحسين المنافسة لتحفيز مشاركة القطاع الخاص، وتعزيز الحوكمة وتقليل نقاط الضعف الناتجة عن الفساد.
وقال إن هذه الجهود ستسهم، عند استكمالها، بإصلاحات لتقوية شبكات الأمان الاجتماعي، وتعزيز رأس المال البشري واستثمارات الأعمال وزيادة الإنتاجية الإجمالية.
لو انخفضت أسعار المنتجات التي تنتجها أي بلد، فسينخفض أيضًا معدل إنتاجيتها
أما في تقرير المراجعة الأولى لنفس البرنامج ينصح الصندوق بتخفيض التعريفة الجمركية على الواردات لتعزيز الإنتاجية:
"على المدى المتوسط، يجب تخفيض معدلات التعريفة الجمركية تدريجيًا [...] وتشجيع التدفقات التجارية المعززة للإنتاجية، واستخدام الرسوم الجمركية كأداة لتقييد الواردات يجب الحد منه".
ما هي الإنتاجية وكيف تُحسب؟
وفقًا للتعريف شبه القاموسي لموقع investopedia "تقيس الإنتاجية المخرجات لكل وحدة من المدخلات، مثل العمالة أو رأس المال أو أي مورد آخر، وغالبًا ما يتم حسابه في الاقتصاد ككل بواسطة حساب الناتج المحلي الإجمالي إلى ساعات العمل". ويضيف الموقع في التعريف أنه عندما تفشل الإنتاجية في النمو، فإنها تحد من المكاسب المحتملة في الأجور وأرباح الشركات ومستويات المعيشة.
تعتمد إذن طريقة حساب معدلات الإنتاجية في الاقتصاد على بيانات الناتج المحلي الإجمالي المُعَبَّر عنها نقديًا. تخيل معي لحظة أن ما تنتجه بلد معين تضاعف سعره لأي سبب، يعني ذلك– وفقًا لطريقة الحساب تلك– أن معدل الإنتاجية في الاقتصاد تضاعف حتى لو لم يحدث أي تغيير مادي على مستوى ما ينتجه هذا البلد. والعكس بالطبع صحيح، فلو انخفضت أسعار المنتجات التي تنتجها أي بلد، فسينخفض أيضًا معدل إنتاجيتها حتى لو لم تتغير معدلات الإنتاج.
تأخذ الأمور منحاها الأيديولوجي عندما تصبح الإنتاجية مبررًا جاهزًا للتفاوت الكبير في مستويات التنمية والأجور بين البلدان والأفراد، فوفقًا لسردية التنمية المتمركزة حول الإنتاجية، تصبح البلدان الفقيرة كذلك لأن إنتاجيتها منخفضة ويصبح الأفراد الأغنياء أغنياء لأن إنتاجيتهم مرتفعة.
تصبح الأمور أكثر عبثية عندما ندرك أنه بأي حساب مادي/حيوي، وليس نقدي، يقيس الإنتاج والتبادل التجاري بعدد ساعات العمل أو الموارد الطبيعية أو الطاقة، سنجد أن الدول منخفضة الإنتاجية تنتج أكثر بكثير، بل وينزح منها قدر أكبر بكثير من الموارد الحيوية، بما فيها العمل للدول مرتفعة الإنتاجية.
على سبيل المثال، وجدت دراسة صدرت مؤخرًا، أنه في عام 2015 بلغ صافي تحويلات الجنوب العالمي، منخفض الإنتاجية، إلى الشمال العالمي، مرتفع الإنتاجية، 12 مليار طن من المواد الخام، و822 مليون هكتار من الأرض، وطاقة تعادل 3.4 مليار برميل من النفط، وقوة عمل بشري تعادل 392 مليار ساعة.
للتفرقة في هذا المقال بين الإنتاجية المُعَبَر عنها نقديًا والإنتاج المادي، سأستخدم مصطلح "الإنتاجية" للإشارة للأولى و"الإنتاج" للإشارة للثانية، فيفهم من ذلك عبارة مثل "الحساب النقدي للمؤشرات الاقتصادية يعني أن انخفاض الإنتاجية لا يساوي بالضرورة انخفاض الإنتاج".
منطق الإنتاجية الدائري
تعتمد فرضية الإنتاجية التي تساوي مثلًا بين إنتاج القمح والموسيقى على أن السعر مُعَبِر دقيق عن المنفعة الحدية للسلع (معدل الرضاء الذي يضيفه استهلاك كل وحدة جديدة من السلع). بالتالي يمكن مقارنة إنتاجية أي سلع ببعضها البعض، لأن السلع بالتعريف لها سعر يعبِّر عن المنفعة وبالتالي قيمة دقيقة.
لكن عمليًا لا يخبرنا هذا النهج أي شيء ذو قيمة عن مسألة الإنتاج والكفاءة، فأي شيء سعره مرتفع وربحيته مرتفعة سيكون معدل إنتاجية القائمين على إنتاجه مرتفعًا وغالبًا أيضًا ما ستكون أجورهم مرتفعة.
ويؤكد بلير فيكس في مقاله من خلال دراسة احصائيات آلاف الشركات، أن هناك علاقة قوية بين مبيعات الشركات ومعدل أجور عمالها، لأن أجور الشركات غالبًا ما تمثل حوالي 25% من قيمة مبيعاتها، فالإنتاجية باختصار لا تفسِّر معدلات الأجور بل الأسعار هي ما تفسِّر كلاهما.
يضيف فيكس أنه يستحيل بشكل حقيقي مقارنة إنتاجية عمال ينتجون سلعًا مختلفة لتفسير التفاوتات في الدخل أو الأجور. فكيف يمكن أن نقارن إنتاجية مزارع القمح بإنتاجية ملحن موسيقي، بعيدًا عن قيمة مبيعاتهم التي مؤكد سوف تحدد مستوى دخولهم.
يمكن على الجانب الآخر عقد مقارنة دقيقة بين إنتاجية أشخاص ينتجون نفس السلعة أو الخدمة، دون تفاوت كبير في الجودة، ويضرب بلير المثل بعمال توصيل البريد أو تصنيع المسامير.
عند مقارنة إنتاجية نفس السلع، وهو ما يقترب بنا من مقارنة الإنتاج، وجد بلير فيكس أن التفاوت في نسب الإنتاجية طفيف جدًا مقارنة بالتفاوت في الدخل. وأن التفاوت في الدخل يساوي أربعة أضعاف التفاوت في الإنتاجية، مما يعني أن الإنتاجية لا يمكن أن تكون مبررًا لتفاوت الدخل.
عندما نتحدث إذن عن معدل إنتاجية مرتفع فنحن لا نتحدث إلا عن سلع مرتفعة التكلفة. فعندما تنصح مؤسسات التمويل الدولية بزيادة الإنتاجية، فهناك واحد من طريقين عادة ما يُذكرا لرفع الإنتاجية في الخطاب التنموي الشائع.
أولًا، تطور تكنولوجي يؤدي لزيادة إنتاجية العمال، لكن هذا التطور عادة ما يزيد من المعروض، فبالمنطق السعري للإنتاجية سيكون التأثير محدودًا بسبب انخفاض سعر المنتج، حتى لو زادت كميته.
وتشير ورقة بحثية، صادرة في 2007، لرئيس المنظمة الدولية للاقتصاديين الزراعيين جون ويل مارتين، إلى إن الخسائر الناتجة عن انخفاض أسعار المنتجات بسبب زيادة المنتج منها تتجاوز المكاسب التي يمكن أن تؤدي لها زيادة الانتاجية.
تطبيق هذا النموذج في الحالة المصرية، دون النظر لأي اعتبارات أخرى، سيجعل من التحول للنشاطات التعدينية محفزًا للإنتاجية على مستوى الاقتصاد ككل
ثانيًا، التحول لأنشطة مختلفة تمامًا، وتسمى بالأنشطة عالية القيمة المضافة. لكن هذا سيضعنا في مأزق مشابه، وهو أن أي تحول ملموس في هذا الإتجاه سيزيد أيضًا من معروض هذا المنتج، وبالتالي ستنخفض قيمته التبادلية والمضافة على حد سواء.
هذا تحديدًا ما حدث عندما تحولت اقتصاديات الجنوب إلى التصنيع في نفس الوقت تقريبًا فانخفضت بشدة القيمة المضافة النقدية للتصنيع، رغم التطور التكنولوجي والزيادة الكبيرة في الإنتاج.
تطبيق هذا النموذج مثلًا في الحالة المصرية، دون النظر لأي اعتبارات أخرى، سيجعل من التحول للأنشطة التعدينية، مثل البترول والغاز، محفزًا للإنتاجية على مستوى الاقتصاد ككل، لاحتواءه على أعلى معدل إنتاجية بفارق كبير عن أي قطاع آخر، بمتوسط أكثر من 3 مليون دولار للعامل الواحد (انظر الجدول 1)، لكن من الثابت أن التأثير التنموي للتعدين محدود، بل وقد يكون سلبيًا في الكثير من الأحيان.
والحقيقة أن مصر تعاني، باعتراف الحكومة، أن أغلب الاستثمارات الأجنبية المباشرة تذهب إلى قطاع التعدين، لأنها استثمارات شبه ريعية كثيفة رأس المال جدًا، لا تخلق فرص عمل. وهذا هو نفسه السبب وراء إنتاجيتها المرتفعة، فيمكن بالنظر للجدول رؤية أن هذا القطاع الضخم، الذي يشكل 13.3% من حجم الاقتصاد، لا يوظف إلا نسبة 0.1% من إجمالي العاملين.
رغم ذلك، شهدت أغلب بلدان العالم زيادة في إنتاجية عمالها، ربما بسبب زيادة حجم القطاع المالي في الاقتصاد العالمي، وزيادة الوزن النسبي للنشاطات الخدمية والريعية، ولكن ما زال صندوق النقد يرى أن هذه الزيادات دون المستوى المنشود.
|
المصدر: Morsy, H., & Levy, A. (2020). Growing without changing: A tale of Egypt's weak productivity growth. African Development Review, 32(3), 271–287. https://doi.org/10.1111/1467-8268.12438
أما الطريقة الثالثة، والتي لا يشار لها عادة في خطابات الاقتصاد والتنمية الشائعة، ربما بسبب إظهارها لاعتباطية المؤشر، هي زيادة سعر المنتج دون إجراء أي تحول في المستوى التكنولوجي، أو أي تحولات قطاعية كبرى.
يمكن أن يحدث هذا عن طريق خلق ندرة مصطنعة كما فعلت فرنسا في برنامج وطني لاقتلاع آلاف أشجار العنب للحد من الإنتاج الزائد للنبيذ، والحيلولة دون انهيار سعره. أو كما تفعل بشكل دائم البلدان المنتجة للنفط من خفض للإنتاج لزيادة سعره؛ المفارقة هنا أن زيادة الإنتاجية سترتبط عمليًا بخفض الإنتاج.
السبيل الثاني، تدخل الدولة للحد من التنافسية والتقليل من فرص حدوث صدمات عرض عن طريق دعمها لممارسات احتكارية كما يحدث في قوانين الملكية الفكرية.
يصعب إذن زيادة الإنتاجية بواسطة أول طريقين بسبب احتوائهما على تناقض متأصل، لذا إذا كانت المؤسسات الدولية، ومنها صندوق النقد، تريد زيادة الإنتاجية يمكنها اشتراط تحول المزيد من الاستثمار الاقتصادي لقطاعات التعدين، وربما القطاعات التمويلية أيضًا كثيفة رأس المال، وغير المولدة لفرص العمل، وهو ما حدث بالفعل بدرجة ما في السنوات الأخيرة.
ولكن كما أشرنا فإن البعد التنموي لاستراتيجية كهذه غالبًا ما سيكون سلبي، وهو من أهم مسببات المشاكل في الاقتصاد بالفعل.
والحل الثاني لزيادة الإنتاجية، هو قبول احتكار بعض الأنشطة الاقتصادية، أو على أقل تقدير التأثير في أسعارها عن طريق الفعل السياسي على المستوى العالمي، وهو بالطبع أمر استحالة أن يسمح به صندوق النقد بسبب تأثيره السلبي على دول الشمال المستوردة للسلع الأولية والمصنعة تصنيعًا بسيطًا.
ماذا يعني هذا بالنسبة لمصر؟
يشير صندوق النقد دائمًا على مصر بزيادة الصادرات كأحد أهم حلوله لزيادة الإنتاجية، لأن ذلك يضع ضغطًا تنافسيًا على المنتجين المحليين يدفعهم لتطوير آليات الإنتاج. ويرفض الصندوق بشدة استخدام سياسات حمائية لتخفيض الواردات، كما هو مشار في الاقتباس من صندوق النقد أعلاه، فيؤكد مثلًا تقرير المراجعة الأولى لبرنامج 2020 أن النمو المدفوع بالتصدير يساعد في تحقيق نمو أعلى للإنتاجية، مما يضمن استمرار النمو الاقتصادي على المدى الطويل. لأنه وفقًا للصندوق، يساعد الارتباط بالسوق العالمي على نقل التكنولوجيا وزيادة الكفاءة، مما سيكون له أثر على الاقتصاد ككل.
هذا كلام جيد على المستوى النظري، لكن في الواقع تقديم زيادة الصادرات كحل لـ"أزمة" الإنتاجية، والرفض الكامل لأي شكل من أشكال تخفيض الواردات، في ظل تقسيم دولي للعمل يخسف من قيمة السلع كثيفة الموارد التي تنتجها دول الجنوب، وهي دول تعاني إنخفاض الإنتاجية السعرية وكثرة الإنتاج الفعلي، لن يؤدي إلا للمزيد من نزوح موارد الجنوب الشحيحة، مثل الماء والطاقة وقوة العمل، كما أشرنا أعلاه. خاصة وأن التقسيم الدولي للعمل يصعب تحديه، وحتى إن تم تحديه بنجاح عن طريق نقل التكنولوجيا، فسوف يؤدي هذا إلى خفض السعر، وبالتالي الإنتاجية، في عملية أشبه بمطاردة سراب.
تفرض منظومة الاقتصاد العالمي تقسيمًا دوليًا للعمل يصاحبه تبادل حر للسلع المختلفة مستلهمة نظرية "الميزة المقارنة"
في الأخير، تفرض منظومة الاقتصاد العالمي، والتي يقودها في عالمنا المعاصر صندوق النقد الدولي، تقسيمًا دوليًا للعمل، يصاحبه تبادل حر للسلع المختلفة مستلهمة نظرية "الميزة المقارنة" الريكاردية، نسبة للاقتصادي الإنجليزي ديفيد ريكاردو، والتي تدعو البلدان المختلفة إلى التخصص في إنتاج السلع التي تجيد إنتاجها بسبب خصائص اقتصادية أو اجتماعية ثقافية معينة. لأن ذلك سيزيد من إنتاج وثروات العالم ككل، على أن يتم تبادل ما تنتجه كل بلد بما تحتاجه من سلع أخرى في ظل منظومة من التجارة الحرة تخفض من تكلفة المعاملات transaction costs.
كلام أيضًا جميل على المستوى النظري، لكن ما تتجاهله النظرية هو فرض التقسيم الدولي للعمل على الدول الأفقر والأضعف سياسيًا أنشطة منخفضة الإنتاجية السعرية، والضغط لإبقائها منخفضة السعر، ولكنها في الوقت نفسه مرتفعة الإنتاج وكثيفة الاستهلاك للموارد الحيوية، ثم تعاود المنظومة ذاتها لوم الخاسرين على انخفاض إنتاجيتهم، وهو اللوم الذي يحمل في طياته اتهامات ثقافية مضمنة بالكسل أو التخلف التكنولوجي والثقافي.
رغم أن أغلب الإنتاج المادي الحيوي يُنتج حاليًا في الجنوب العالمي بواسطة هؤلاء "الكسالى منخفضي الإنتاجية"، والذين رغم هذا الوصم يعملون عدد ساعات أطول بكثير من نظرائهم في الدول الأغنى. هذا الظلم المركب هو نتيجة مباشرة، وربما سبب أيضًا، لاهتمام علوم الاقتصاد الشائع بالإنتاجية وتجاهلها للإنتاج.