كان قلبي يدق بشدة وأنا أمام ماكينة الـ ATM منتظرة خروج راتبي الأخير بعد استقالتي من عملي، وضعت الكارت بداخلها وتغير شيء ما في عقلي أثناء الانتظار، سحبت الكارت وأخرجت النقود ووضعتها في محفظتي، ثم انطلقت وأنا أملك خطة خاصة جدًا.
المال المتبقي في جيوبنا من دخل نعلم أنه الأخير، وأن ما بعده في علم الله، له طعم مختلف، وطريقة مغايرة في الإنفاق. نتعلم أمورًا تتعلق بنا لم نكن نعرفها من قبل، في مفارقة لاحظها البروفيسور أنتوني كلوتس، حين أطلق في مايو/ أيار من العام مصطلح "الاستقالة الكبرى" واصفًا حالات الاستقالات الجماعية من الشركات، باختلاف أنواعها بعد جائحة كورونا.
ففي الوقت الذي كان القلق يسيطر على العالم مما سيؤول إليه حاله بفعل الجائحة، لم يعد قرار الاستقالة وترك الوظيفة صعبًا كما كان عليه الحال من قبل. وبالمثل حين لم يكن لديَّ سوى ذلك المرتب الأخير، تعاملت معه بمنطق مختلف عما اعتدته طيلة حياتي.
حزام مشدود
تعلمت على مر حياتي "شد الحزام"، أتخذ قرارات بالشراء، ثم أعدل عنها في اللحظة الأخيرة. أدلف إلى السوبر ماركت وأجول قبل أن أخرج بلا مشتريات، قائلة في نفسي "لما يخلص اللي عندي الأول أبقى أجيب تاني"، حتى وإن كان غير كافٍ.
الشراء هو القرار الأكثر حماقة في العالم بالنسبة لي. لم أكن أشتري شيئًا إلا إذا كان ضروريًا، لأنه لا أحد سيساعدني حين تنفد أموالي قبل نهاية الشهر. ماذا لو احتجت إلى طبيب أو دواء؟
علميًا، تخبرنا الأبحاث أننا في أوقات الأزمات يزداد جنوحنا إلى ما يسمى بـ "التسوق اللذيذ"
بمجرد أن واجهت خطرًا وجوديًا بترك وظيفتي، وبعدما تحول الخوف الذي طالما اعتراني من أن أصير بلا راتب إلى حقيقة، تغير سلوكي، وفي تفسيره عثرت على دراسة تحمل عنوان "المال والخوف من الموت: القوة الرمزية للمال كمخفف للقلق الوجودي".
تقول الدراسة إن أكبر مخاوف البعض، وأنا منهم، فعل "البطالة" وأنه يتساوى مع الخوف من "الموت". وهؤلاء حين يشعرون أنهم قاربوا على الموت يصير المال، هو وسيلتهم لتخفيف القلق، فالمال، بالإضافة إلى فائدته العملية، يحمل معنىً نفسيًا قويًا يساعد على صد القلق الوجودي.
فسر لي هذا كيف يتحول الإنفاق والتسوق القهري إلى آلية للتكيف، وسيلة للنجاة في مواجهة مشاعر غير مريحة مثل القلق والاكتئاب، ولاحظت أن الأمر يتكرر في دوائري القريبة.
حكت لي إحدى صديقاتي عن سلوكها المتزايد في الانفاق بعد فقد عملها، سردت لي قائمة الالتزامات الطويلة عليها، بين قسط سيارة، ومصاريف معيشية، وبعدما وجدت نفسها فجأة بلا عمل، أخذت تراسل صفحات كثيرة للتسوق الإلكتروني تسألهم عن منتجات، بل حتى راسلت شركات السياحة لسؤالهم عن مواعيد وبرامج رحلاتهم.
سمت صديقتي سلوكها بـ"المقاومة"، أوضحت "يقولون أن هذا نوع من المقاومة، والتطمين الكاذب أن كل شيء بخير، وأنني لن أضطر للتقشف والانتقال من طبقة لأخرى أقل، على أمل أن أصرف ما في الجيب فيأتيني ما في الغيب".
الحماقة كنز لا يفنى
حديث صديقتي والذي أعقب سلوكي الشرائي طمأنني بعض الشيء. وتذكرت مقولة وينستون تشيرسل "أعظم درس في الحياة هو معرفة أنه حتى الحمقى يكونون على حق أحيانًا".
وحماقتي أو رحلتي لانفاق ما أملك، بدأت حين أغلقت حقيبتي، أمام ماكينة الـATM، واستغرقت خمسة أيام فقط.
كانت البداية مع محل الملابس الذي أحبه، دلفت إلى هناك واشتريت أكثر من قطعة، وخرجت إلى محل الإكسسوارات المجاور واشتريت عددًا لا بأس به من قطع تليق بملابسي الجديدة، ثم عرجت إلى محل ملابس أطفال واشتريت لكل طفل من أطفالي قطعة جديدة.
يقولون إننا حين نسمع خبر وفاة أحدهم، نشعر بعد فترة بالجوع الشديد، ويصير للأكل طعم مختلف، كأنه إعلان تمرد على الموت والفناء. نتمسك بالحياة ولذتها، ونستمتع رغم كل شيء. شعرت بهذا المعنى وأنا أتابع الكوميك الشهير لبكيزة الدراملي وهي تتحدث بكبرياء بعد ما أصابها من جوع وفقر وديون.
الراتب الذي كان يكفيني 30 يومًا، أنفقته في بضعة أيام على أربع عزائم في مطاعم كنتُ أدخلها ربما من العام للعام. والغريب أنني كنت سعيدة، لم أكن خائفة أو متوترة، كانت المرة الأولى في حياتي التي شعرت فيها أنني حصلت على راتب فعلًا ! ربما لأن الإنفاق يحسن مزاجنا وقتيا.
البحث عن جذور الحماقة
لست أنا أو صديقتي فقط أو من خضعوا للدراسات التي خرجت بتلك النتائج من نمارس سلوك الإنفاق هذا لمواجهة الأزمات وحدنا، بل إن له جذورًا في العقل الجمعي الشعبي، تتجلى في المثل الشهير "اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب"، وتذكرتُ مقولة جدتي "الدراهم مراهم"، وجملة المصريين الشهيرة "إن شالله ما عن حد حوّش".
علميًا، تخبرنا الأبحاث أننا في أوقات الأزمات يزداد جنوحنا إلى ما يُسمى بـ"التسوق اللذيذ". ظللتُ أتساءل لفترة كيف ودعت كل محاولاتي السابقة للالتزام بـ"دايت"، وصرت مرحبة فجأة باكتساب الوزن غير مبالية بالسمنة، حتى وجدت الإجابة في دراسة منشورة في العام 2013 بعنوان "الإجهاد وسلوكيات الطعام".
تذكرت مشهدي وأنا أجلس أمام أطباق الكفتة المشوية والدجاج المندي والسلاطات وقوالب الشيكولاتة العامرة بكريمة اللوتس، وأقرأُ خلاصة الدراسة التي أشارت إلى أن الإجهاد عامل مهم في تطور الإدمان وانتكاساته.
وبحسب الدراسة نفسها، فإن التوتر يزيد من استهلاكنا للأطعمة، ما يعزز لدينا السلوك القهري، الذي يقوم به الشخص المصاب باضطراب نفسي في محاولة للتخلص من وساوسه.
لهذا كافأت نفسي، ليس بسفر أو شيء معنوي، لكن بطعام وملابس، لأن الإجهاد المزمن يؤثر على نظام الدوبامين في المخ، فيصير الطعام مكافأة. نبحث عن الأطعمة الدسمة اللذيذة تلقائيًا، ونودع نظامنا الغذائي الملتزم، فقط لأننا غاضبون.
دراسة يابانية أخرى بعنوان "التسوق كوسيلة للتكيف مع القلق" أشارت إلى أن هناك حاجة إلى قدر معين من الإنفاق للتخلص من الإجهاد والقلق، ومع ذلك فإن معدله المرتفع، أي إنفاق معظم الأموال، لا يخفف التوتر.
وهذا ما حدث لي، لم ينتهِ توتري أو غضبي، لكنني هدأتُ مؤقتًا، واستعدت ذاتي، وأعدتُ تقييم كلّ شيء. اتخذت قرارات فاصلة في حياتي المادية والعملية، هناك، وأنا أحتسي شاي الأعشاب في مطعم المندي الشهير بكرداسة.
عقب واحدة من الوجبات الدسمة، صرت أدرك جيدًا الشكل الجديد الذي أرغب فيه لحياتي المقبلة، حياة خالية من الأمور الزائدة عن الحاجة، أمارس فيها الرياضة بانتظام، وألتزم بما لم أستطع الوفاء به من قبل، هناك، عقب وجبة "طَرب" و"بط".