المتحدث باسم الرئاسة، فيسبوك
من مؤتمر رئيس الوزراء مصطفى مدبولي (15 مايو 2022) لإعلان خطة الدولة للتعامل مع الأزمة الاقتصادية

هل الحكومة جادة في التخارج من الاقتصاد؟

الصناعات التحويلية نموذجًا

منشور السبت 30 يوليو 2022 - آخر تحديث السبت 30 يوليو 2022

في 13 يونيو/ حزيران الماضي أعلنت الحكومة المصرية خطتها للتخارج من قطاعات اقتصادية، وزيادة نسب مساهمة القطاع الخاص في الاقتصاد القومي، التي عُرفت بـ"وثيقة سياسة ملكية الدولة"، وذلك بعد انتقادات متكررة من دوائر محلية  وأجنبية لمزاحمة الدولة على فرص الاستثمار، وجمود مستويات الاستثمار الأجنبي المباشر في البلاد منذ سنوات.

وعلى الرغم مما تحمله الوثيقة من وعود بمضاعفة نصيب القطاع الخاص من إجمالي الاستثمار من 30% حاليا إلى 65% خلال ثلاث سنوات، فإن تفاصيلها ترجح تمسك الحكومة بالبقاء في عدد كبير من الصناعات التي توسعت فيها مؤخرًا.

غير أن الوثيقة لا تتطرق للحديث عن احتمالية التخارج من صناعات تكرير البترول، رغم الحضور المهيمن للدولة في هذا المجال، ففي عام 2021 فقط ضخ القطاع العام نحو 11.4 مليار جنيه، بينما لم يضخ القطاع الخاص أية استثمارات.

ويتضح من تحليل بيانات الاستثمار في مصر خلال السنوات الأخيرة، أن الدولة تزاحم القطاع الخاص بشدة، ويظهر أن القطاع العام هو المصدر الرئيسي للمنافسة في مجال التكرير، أما المنافسة الأوسع نطاقًا خارج قطاع البترول، فنجدها ممثلة في قطاع "المشروعات المركزية"، الذي على الرغم من ثقل وزنه، لم يضع البنك المركزي أي إشارة لطبيعة الجهات التي تتبعها هذه المشروعات.

كيف تزاحم الحكومة القطاع الخاص في الاستثمار؟

بحسب بيانات البنك المركزي، بدأت حصة القطاع الخاص في إجمالي الاستثمار تتراجع منذ 9 سنوات، ففي حين كان نصيبه في السنة المالية 2012/ 2013 حوالي 71.7%، تراجع إلى 26.3% في السنة المالية 2020/ 2021، في المقابل ارتفعت الاستثمارات الحكومية من 28.3% إلى 73.7% خلال الفترة نفسها.

لكن حجم الاستثمارات الإجمالي لا يعبّر بالضرورة عن طبيعة المنافسة التي يشكو منها القطاع الخاص، لأن جانبًا ضخمًا من استثمارات الحكومة يتوجه لخدمات عامة لا تنافس القطاع الخاص في أعماله، بل يستفيد منها بشكل غير مباشر، مثل خدمات البنية الأساسية التي تساعد على تحسين حالة النقل، أو خدمات التعليم والصحة التي تساهم في ضخ عمالة مؤهلة لسوق العمل.

أولويات القطاعات التي تستثمر فيها الحكومة من 2018 إلى 2021
القطاعات الاقتصادية 2020/ 2021 2019/ 2020 2019/ 2018
النقل والتخزين 96.5 مليار جنيه 88.4 مليار جنيه 74.7 مليار جنيه
البترول الخام 40.8 مليار جنيه 34.7 مليار جنيه 66.5 مليار جنيه
الصناعات التحويلية "غير البترولية" 38.2 مليار جنيه 46.2 مليار جنيه 49.8 مليار جنيه
الكهرباء 37.7 مليار جنيه 48.9 مليار جنيه 73.08 مليار جنيه
الزراعة 38.4 مليار جنيه 28.7 مليار جنيه 31.4 مليار جنيه
التشييد والبناء 33.2 مليار جنيه 29.6 مليار جنيه 32.4 مليار جنيه
التعليم 32.3 مليار جنيه 32.4 مليار جنيه 21.2 مليار جنيه
الصرف الصحي 30.3 مليار جنيه 21.6 مليار جنيه 13.3 مليار جنيه
الصحة 22.9 مليار جنيه 17.6 مليار جنيه 12.06 مليار جنيه
قناة السويس 15.2 مليار جنيه 10.4 مليار جنيه 18.4 مليار جنيه
المياه 13.3 مليار جنيه 14.4 مليار جنيه 8.1 مليار جنيه
الاتصالات والمعلومات 19.3 مليار جنيه 6.7 مليار جنيه 5.5 مليار جنيه
تكرير البترول 11.4 مليار جنيه 2.5 مليار جنيه 3.7 مليار جني

المصدر: تقارير البنك المركزي


لذا، يمكن أن نحدد بشكل أكبر طبيعة استثمارات الدولة التي تضر القطاع الخاص في عدد من القطاعات التي يمكن أن نطلق عليها "استثمارات المزاحمة"، وهي الاستثمارات في مجال الزراعة والتجارة والعقارات والصناعات التحويلية وتكرير البترول.

وكما يتضح من الجدول التالي، فإن القطاع الحكومي يزاحم القطاع الخاص في مجالي الزراعة والعقارات، والقطاع العام في تكرير البترول، ويهيمن القطاع الخاص على التجارة والسياحة، بينما يبدو قطاع المشروعات المركزية منافسًا أساسيًا في مجال الصناعات التحويلية.

وبينما قد تكون بعض هذه الاستثمارات لا تنافس القطاع الخاص، إذا ما كانت الاستثمارات العقارية مثلًا موجهة للإسكان منخفض التكلفة الذي لا يرغب القطاع الخاص الدخول فيه بقوة، فإن ملامح المنافسة تبدو واضحة للغاية في حالة الاستثمار الصناعي.

وكما يظهر من البيانات السابقة فإن القطاع العام هو المصدر الرئيسي للمنافسة في مجال التكرير، وقطاع "المشروعات المركزية" هو المصدر الرئيسي لمنافسة أوسع نطاقا في الصناعات غير البترولية، حيث بلغت الاستثمارات الصناعية للمشروعات المركزية في 2021 نحو 30 مليار جنيه، مقابل 21.2 مليار جنيه للقطاع الخاص.

توزيع استثمارات المشروعات المركزية الكبرى
القطاعات الاقتصادية 2020/ 2021
الصناعات التحويلية "غير البترولية" 29.2 مليار جنيه
النقل والتخزين 28.1 مليار جنيه
التشييد والبناء 27.4 مليار جنيه
الزراعة 24.1 مليار جنيه
الخدمات الأخرى 9.4 مليار جنيه
الكهرباء 5.4 مليار جنيه
الصرف الصحي 5.2 مليار جنيه
المياه 5.1 مليار جنيه
البترول الخام 2.2 مليار جنيه
الصحة 486 مليون جنيه
تجارة الجملة والتجزئة 304 مليون جنيه
قناة السويس 255 مليون جنيه
التعليم 296 مليون جنيه
الاتصالات والمعلومات 87 مليون جنيه

المصدر: بيانات البنك المركزي


واللافت أن بند المشروعات المركزية استُحدث في بيانات البنك المركزي بدءًا من  العام المالي 2017/ 2018، وفي البداية لم يصنَّف قطاعيًا، إذ وُضع كرقم ثابت، ثم بدأت تصنَّف استثماراته المنفذة قطاعيًا بعد ذلك.

وعلى الرغم من ثقل وزنه، لم يضع البنك المركزي أي إشارة لطبيعة الجهات التي تتبعها هذه المشروعات، وفي محاولة لفهم أسباب ظهور بند المشروعات المركزية وطريقة عمله، وأسباب توسعه في قطاعات اقتصادية معينة دون غيرها.

الأستاذ المساعد بقسم العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، الدكتور عمرو عادلي قال للمنصة إن المشروعات المركزية مملوكة للحكومة، "لكن مش عارفين بأي شكل". 

وبغض النظر عما يثيره هذا البند من ألغاز حول طبيعة الجهات الحكومية التي توسعت استثماريًا في الصناعة خلال السنوات الأخيرة، فإن البيانات الكلية للبنك المركزي تشير بوضوح إلى أن المزاحمة الحقيقية من الحكومة تأتي في مجال الصناعة، إذ يظل حضور الحكومة هامشيًا في مجالات التجارة والنشاط العقاري، فهل الحكومة جادة في التخارج منها؟

إجمالي استثمارات الحكومة في الصناعة والتجارة والعقار مقابل القطاع الخاص عن عام 2021 (بالمليار جنيه)
المشروعات المركزية الهيئات الاقتصادية القطاع العام القطاع الحكومي القطاع الخاص الإجمالي
24.1 0.1 0 14.1 13.2 51.7
0 0 11.4 0 0 11.4
29.2 1 7.8 0.1 21.2 59.5
0.3 0.1 0.1 0 11.1 11.6
0 0 0 13.7 47.3 61.1
0 0 0.3 0 5.5 6

المصدر: بيانات البنك المركزي


قطاعات وصناعات غائبة عن وثيقة الحكومة 

لا تتطرق وثيقة الدولة للحديث عن احتمالية التخارج من صناعات تكرير البترول، على الرغم من الحضور المهيمن للدولة في هذا المجال، ففي عام 2021 فقط ضخ القطاع العام نحو 11.4 مليار جنيه، بينما لم يضخ القطاع الخاص أية استثمارات.

نسبة التخارج والخفض والزيادة من الأنشطة الاقتصادية
القطاع نسبة التخارج نسبة التثبيت أو الخفض نسبة التثبيت أو الزيادة
الزراعة والري 82% 17% ..
الأنشطة العقارية ... 50% 50%
النقل .... 42% 58%
المعلومات والاتصالات 11% 11% 78%
الوساطة والتأمين .... 33% 67%
التعليم ... 11% 89%
المياه والصرف 14% 57% 29%
الشباب والرياضة ... 100% ...
صناعات تحويلية      
جلود وأخشاب 100%    
الصناعات الهندسية 77% 8% 15%
الصناعات المعدنية 40% 60% ...
الصناعات النسيجية 90% 10% ...
صناعة الطباعة والتغليف 78% ... 22%
الصناعات الغذائية والمشروبات 72% 27% ...
الصناعات الدوائية 50% 32% 17%
المصدر: وثيقة ملكية الدولة

كما غابت عن خطط التخارج صناعات مهمة، على رأسها التبغ وهي الصناعة التي تسيطر عليها الدولة من خلال شركة الشرقية للدخان، وبلغت استثماراتها فيها خلال 2021 نحو 678 مليون جنيهًا، مقابل 5.2 مليون جنيهًا فقط للقطاع الخاص، وفقًا لنشرة القطاع الصناعي الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في 2021.

فضلًا عن صناعات الصلب الأسمنت، التي قادت الحكومة موجة قوية من الاستحواذات فيها خلال السنوات الأخيرة ولا توجد أية إشارات في الوثيقة للاستعداد للتخارج منه، حيث سيطر جهاز الخدمة الوطنية، التابع للقوات المسلحة، على مجموعة حديد المصريين بعد استحواذه على حصة المساهم القطري محمد بن سحيم البالغة 82% عام 2018، وهي الشركة التي يصل نصيبها من سوق حديد التسليح إلى نحو 22%. كما استحوذ الجهاز على مجموعة صلب كانت مملوكة لرجل الأعمال جمال الجارحي عام 2016 والتي تحتل المرتبة الثانية في إنتاج الصلب بنحو 2.2 مليون طنًا سنويًا، إضافة لمجمع مصانع السويس للصلب والذي يُمثل 17% من الحديد المنتج في مصر الذي افتتح في 2018، وفقًا للواء مصطفى أمين مدير جهاز مشروعات الخدمة الوطنية. 

وفي مجال الأسمنت استحوذ الجهاز أيضًا على نحو 20% من السوق، وفقًا لبيانات الجهاز نفسه التي تشير إلى امتلاكه مجموعات مصانع يصل حجم إنتاجها إلى قرابة الـ18 مليون طنًا سنويًا، وهي شركة العريش للأسمنت التي أنشأت عام 2010 ومصنع مجمع بني سويف لإنتاج الأسمنت والرخام والجرانيت الذي يضم ثلاث مصانع بطاقة إنتاجية 12 مليون طنًا.  

كذلك لم تتم الإشارة إلى إمكانية التخارج من صناعة الأسمدة التي توسع فيها مؤخرًا جهاز الخدمة الوطنية، بعد زيادة عدد مصانع الأسمدة بشركة المصري للكيماويات الوسيطة إلى 22 مصنعًا، إضافة لامتلاك الجهاز المجمع العملاق لإنتاج الأسمدة الفوسفاتية والمركبة بالعين السخنة الذي يتكون من تسعة مصانع، وفقًا للواء مصطفى أمين، مدير عام جهاز مشروعات الخدمة الوطنية.

التخارج غير ممكن سياسيًا

"القطاع الخاص يهيمن على معظم الصناعات التحويلية، وميل الدولة للتوسع في الاستحواذات الصناعية الأخيرة يأتي مدفوعا بالرغبة في الاندماج الرأسي"، كما يشرح عمرو عادلي، موضحًا أن توسع الدولة مؤخرًا في أنشطة إنشائية ترتبط بالبنية الأساسية خلق الحاجة للاستحواذ على حزمة من الصناعات التي تنتج مدخلات مثل الحديد الأسمنت ترتبط بعمليات الإنشاء.

بينما يعتقد عضو مجلس إدارة اتحاد الصناعات، ورئيس لجنتي الضرائب والجمارك، محمد البهي، أن غياب تلك الصناعات عن الطرح بالوثيقة "طبيعي" باعتبارها مشروعات مركزية كبرى، قد لايتمكن القطاع الخاص من القيام بها.

ويُضيف للمنصة عبر الهاتف، أنها "تستهلك أموال ضخمة جدًا، في حين عائداتها تحتاج لسنوات والقطاع الخاص المصري غير مؤهل للاستثمارات الضخمة على الأقل في الوقت الحالي، ناهيك عن رغبة الدولة في تعظيم عوائدها المالية عبر تلك المشروعات". 

تخارج أم تحايل

في مقابل ذلك، فإن الأنشطة الصناعية التي تبدي الدولة حماسًا في التخارج منها تتسم بضعف الاستثمارات الحكومية فيها.

وفقًا لما أعلنته الحكومة في وثيقة سياسة الملكية، فإنها ستتخارج خلال ثلاث سنوات من قطاع الجلود والأخشاب، لكن الاستثمارات الحكومية الموجّهة لتلك القطاعات لا تتجاوز نسبة الـ20%، مقارنة باستثمارات القطاع الخاص الذي تستحوذ على أكثر من ثلثي استثماراته، وفقًا لنشرة القطاع الصناعي الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في 2021. وخلال العام المالي 2017/ 2018 اقتصرت استثمارات الحكومة في قطاعي الجلود والأخشاب على 6.3 مليون جنيهًا فقط. 

 ونفس الأمر في حالة الصناعات النسيجية التي تنوي الحكومة التخارج منها بنسبة 90% بدعوى إتاحة الفرص أمام القطاع الخاص، إذ بلغ حجم استثمارات الحكومة في ذلك القطاع 27 مليون جنيه بنسبة 1.4% من إجمالي إجمالي الاستثمارات؛ في مقابل 1.9 مليار جنيه ضخها القطاع الخاص كاستثمارات في الصناعات النسيجية، وفقًا لنشرة القطاع الصناعي الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في 2021. 

أيضًا، صناعة الملابس الجاهزة والمفروشات من بين الصناعات التي تنوي الحكومة إتاحتها أمام القطاع الخاص، لكن الأرقام تكشف أن استثمارات الحكومة فيها بلغت 350 ألف جنيه، مقابل 730.3 مليون جنيه للقطاع الخاص، وفقًا لنشرة القطاع الصناعي. 

كما ذكرت الحكومة أنها تنوي التخارج من صناعة الطباعة والكرتون المضلع وتحويل الورق، رغم أن استثماراتها في تلك الصناعة خلال 2021 كانت "صفرًا" في حين كانت استثمارات القطاع الخاص 505 مليون جنيه، بحسب أرقام نشرة القطاع الصناعي الصادرة عن التعبئة والإحصاء.   

مسؤولية الدولة

من جهته، يعتبر أسامة حفيلة، نائب رئيس الاتحاد المصري لجمعيات المستثمرين، أن وثيقة ملكية الدولة تعبر عن شيء لا يزال قيد التجربة.

ويُضيف للمنصة "التجربة ستتم في القطاعات والصناعات التي أُعلِن عنها مبدئيًا، للتعرف على طرق وآليات إدارة القطاع الخاص للنشاطات الاقتصادية".

ويُشير حفيلة إلى أن البعض قد يعتبر خروج الدولة من قطاعات اقتصادية "هروبًا" من مسؤوليتها أمام مواطنيها، لذا فالوقت أيضًا ليس في صالح الخروج من بعض القطاعات التي تدر عائدًا ماليًا جيدًا.

"لازم نفرض حسن النوايا مع الحكومة" يقول حفيلة، "خاصة وأنها هي من دعت لطرح الوثيقة (..) مينفعش الحكومة تقول أنا هخرج من قطاع الزراعة (مثلًا) النهاردة، لكن لازم يبقى فيه تسليم وتسلم للمسؤولية".

ويختم حديثه بأن الحكومة تريد في البداية التخلص من الصناعات التي تسبب لها أعباء مالية مثل الصناعات النسيجية أو غيرها خاصة وأنها صناعات كثيفة العمالة، لكنها في الوقت نفسه لا تريد تهديد السِلم الاجتماعي، كون التخلص من تلك الصناعات سيتسبَّب في خروج عدد كبير من دائرة العمل إلى البطالة. في النهاية، يبدو أن عملية التخارج التي اضطرت الحكومة لطرحها ستتعرض لصعوبات بسبب عدم توفر الإطار القانوني لها، فضلًا عن عدم الرغبة السياسية في إزاحة الحكومة لصالح القطاع الخاص.