حين سافرت هدير سامي إلى الهند أول مرة في العام 2016 وكانت في الرابعة والعشرين من عمرها، انتابها خوف شديد من احتمالية تعرضها للتحرش، على اعتبار أنها في الطريق إلى إحدى الدول الأعلى في معدلات العنف والاغتصاب ضد النساء. وبحسب موقع safecity فأن هناك واقعة اغتصاب تحدث كل 20 دقيقة في الهند، عادة لا يتم الإبلاغ عنها بسبب الخوف من المجتمع والشرطة وثقافة لوم الضحية.
ولذلك، حين استقلت هدير المترو في الهند وحدها وسط عدد كبير من الرجال، انتباتها حالة من الذعر، "كنت مرعوبة إن حد فيهم يلمسني ومحدش لمسني، واستغربت أن لو التجربة كانت في مصر قد ايه كانت هتبقى تجربة مرعبة لأن المترو في مصر من التجارب اللي بحاول أتجنبها".
وتضيف "لفيت 5 مدن ومحصليش حالة واحدة، رغم أني كنت بركب المترو والتوكتوك والمواصلات يمكن ده لحسن حظي"، ورغم ذلك لم تستطع هدير التخلص من القلق الدائم والتفكير في إمكانية تعرضها لاعتداء جنسي، وهي الحالة التي استمرت في البلاد الأخرى التي سافرت إليها، ومنها ألمانيا وتحديدًا برلين حيث تعيش الآن.
ما تشعر به هدير ليس غريبًا أو عرضًا خاصًا بها، بل حالة تتكرر مع مصريات استطعن الفرار من البيئة المعادية للنساء، لكنهن ظللن يحملن عبء ما تعرضن له داخلهن، ولا يستطعن التخلص من مخاوف تكراره.
القاعدة هي الاستثناء
ردود فعل هدير تلقائية، وكأن الحياة بلا تحرش هي الاستثناء لا القاعدة، بعدما اعتادت أن يكون المعتاد في مصر هو التعرض للتحرش أو محاولات تجنبه. لا تفارق ذاكرتها مواقف عديدة، منها حين كانت تسير مع والدها في أحد شوارع القاهرة وتقدم عنها بخطوة كانت كافية لأن يفاجئها متحرش بالتعدي على جسدها باللمس.
تتذكر ممتعضة "لمس جسمي غصب عني وأنا مقدرتش أتكلم من الصدمة لأن الشخص ده ما راعاش حتى إن والدي ماشي معايا.. دي من الحاجات اللي عمري ما أنساها واللي أثرت فيا".
كثرة الإساءات الجنسية التي تتعرض لها النساء في مصر، تولد شعورًا دائمًا بالخطر عند الوجود في مواقف مشابهة
وبسبب تلك الواقعة وغيرها، تفشل هدير في التخلص من استجاباتها الذاتية الدفاعية عند اقتراب أي رجل منها في مساحات عامة، حتى حين انتقلت إلى ألمانيا لدراسة الماجستير، كانت تتجنب الجلوس بجانب الرجال في المواصلات.
تقول "في الأول لما كان ييجي راجل مثلًا يقرب عايز يسألني على حاجة مش هيلمسني كنت بترعب وبكش وبخاف لأني اتبرمجت على إن الراجل لما يقرب مني معناها انه هيلمسني أو هيأذيني".
تشترك داليا التي تعيش في مدينة فوتسبورج في ألمانيا منذ عام تقريبًا بغرض الدراسة، مع هدير في الشعور ذاته، والذي بدأ بالخوف من النزول إلى الشارع ليلًا "مكنتش حاسة إني عايزة أمشي لوحدي بليل بالذات إن المدينة صغيرة ومفيهاش ناس كتير أوي وفاضية شوية فكنت بحس إني قلقانة بشكل عام مكنتش حاسة بأمان".
الخوف الذي تملك داليا، لم يكن مبررًا بالنسبة لها، خاصة أنها لم تتعرض لأي مضايقات في شوارع مدينتها الحالية فوتسبورج "بنزل وممكن أرجع متأخر، الشارع كله شلل بنات وولاد وممكن يبقوا بيشربوا وحاجات زي كدة بس الشارع آمن جدًا، محدش بيتعرضلي محدش بيبصلي بس هو شعور الأمان كان مفقود".
والأمر نفسه تعرضت له الصحفية المستقلة مي الصباغ في قطر خلال زيارات للعمل، فعلى الرغم من ملاحظتها احترام المساحات الشخصية للنساء هناك، كانت تعتمد نفس الحيل الدفاعية ضد التحرش، فتقول "كنت بلاحظ إن دي حاجات بعملها في مصر وفضلت أعملها وأنا برة، زي إني مثلًا أبقى ماشية عالرصيف وفي مجموعة رجالة على نفس الرصيف بلاقي نفسي تلقائيًا بروح ع رصيف تاني، أو لو جوة مول وبطلع السلم ففي حد جاي ورايا طلع بسرعة وحاجات شبيهة بكدة".
استمرت مي في هذا الأداء "المتحفز" طيلة زيارتها الأولى ومدتها أربعة أشهر "كان عندي ردود فعل عدوانية على أي راجل يعدي من جنب أو يبصلي، ولو خبطني بالغلط مثلًا بتبقى كارثة كبيرة بالنسبة لي لأن أول حاجة بفترضها إن هو قاصد".
وفي الزيارة الثانية كانت مي حاملًا. تقول "معروف الحوامل بيتعرضوا لايه في مصر بس ملقتش ده خالص. بالعكس نزلت في آخر شهرين من حملي رجعت مصر وأنا في السابع اتعرضت لمواقف سخيفة وتحرش".
قلق مرضي
تعزو أخصائية الطب النفسي الدكتورة نهال زين الممارسات التي تصدر بشكل تلقائي لتجنب التحرش، إلى كثرة الإساءات الجنسية التي تعرضت لها النساء في بيئات معادية لهن، فتولد شعورًا دائمًا بالخطر عند الوجود في مواقف مشابهة، مما ينتج عنه استجابة المخ لا شعوريًا لهذا الخطر المتخيل من خلال إما المواجهة (Fight)، أو الهروب (Flight)، أو التجمد (Freeze)، وهي ردود الفعل التي يتخذها المخ للتأمين عند الشعور بالخطر.
وتضيف أن عدم العلاج من آثار تلك الصدمات قد ينتج عنه تغيرات في "أفكارنا عن نفسنا والعالم والآخرين"، والتي تتحول فيما بعد إلى معتقدات راسخة تنتج عنها تلك الاستجابات اللا إرادية لاحقًا.
وأوضحت "رد الفعل اللي بناخده لما بيحصلنا صدمة إن بيبقى عندي اعتقاد إن العالم غير آمن، وإن الأشخاص مؤذيين، فأي حاجة بتحصل حواليا بتوقع إن هيتم استغلالي أو الإساءة ليا، فبتصرف على الأساس ده إني أكون حذرة أو متجنبة أو على أهبة الاستعداد إني هواجه أو هحارب".
بيئة معادية للنساء
وقُدرت نسبة التحرش الجنسي بالنساء في مصر بـ 99.3%، بحسب الدراسة التي أطلقتها هيئة الأمم المتحدة بالتعاون مع بعض الهيئات الأخرى عام 2013، حيث وصفت الدراسة انتشار التحرش الجنسي فيها بالـ "صورة غير المسبوقة".
وفي العام 2020 شاركت عينة مكونة من 5534 سيدة في استطلاع رأي، أطلقته مؤسسة تدوين لدراسات النوع الاجتماعي بالتعاون مع مؤسسة الحب ثقافة حول الاعتداءات الجنسية المختلفة التي تتعرض لها النساء في مصر، وأفادت 94% من المستجيبات بتعرضهن للتحرش اللفظي، بينما تعرضت 72% منهن لاعتداء جنسي جسدي. بالإضافة إلى أن 57% من المشاركات استقبلن محتوىً جنسيًا غير مرغوب فيه عبر رسائل الإنترنت أو الهاتف.
ذوبان في الخوف
وعلى خلاف هدير وداليا ومي اللاتي لاحظن ما صاحبهن من خوف، لم تنتبه علياء إلى تصرفاتها القلقة أثناء زيارتها القصيرة إلى أوروبا، حتى لفت المرشد السياحي انتباهها إلى أنها تعطي الأولوية للآخرين في التحرك في الشارع قبل أن تتحرك هي.
بعد تفكير ومراقبة، أدركت علياء أنها تلجأ إلى ذلك بالإضافة إلى ممارسات أخرى مثل تجنب الزحام أو انتظار الآخر لكي يمر أولًا والبقاء في المؤخرة، خوفًا من التحرش، وتلك الحيل تظل أقل مما تلجأ إليه في مصر من تجنب المشي في الشارع من الأساس.
تؤكد علياء للمنصة أن تصرفاتها نابعة من استجابة دفاعية، تتلاءم مع تصرفات المتحرش الذي عادة ما يسير إلى جانبها أو في اتجاه معاكس ليلمس جسدها من الخلف ثم يكمل طريقه في هدوء، تعلق "وعلى ما البنت تفوق من الصدمة بيكون بعد مسافة كأنه معملش حاجة".
تتذكر جيدًا موقفين مشابهين تعرضت لهما "مرة كنت راجعة من النادي أو الدرس كنت صغيرة وولد عملي كده وأنا مفهمتش وقتها الحقيقة. ومرة تانية وأنا في الجامعة كنت بتفرج على محلات حد عمل نفس الحركة".
التعافي ليس سهلًا
بين النماذج العديدة التي لاحظت الخوف المرضي من التحرش في الخارج، لجأت هدير فقط إلى طبيب نفسي، لمساعدتها على التخلص من آثار التروما (الصدمة) الناتجة عن وقائع العنف الجنسي التي تعرضت لها في مصر طيلة حياتها. واستغرق الأمر حوالي سنة من محاولات التعافي، حتى تمكنت من التأقلم.
تقول "ابتديت آخد ع البيئة وأشوف البنات بتلبس اللي هي عايزاه، وابتديت أنزل وألبس زي ما أنا عاوزه، فلو الجو حر هلبس قصير عشان أنا عايزة كدة مش عشان رايحة أركب مواصلات ولا تاكسي" على عكس مصر "بنواجه كبت رهيب. ما ينفعش الضغط النفسي اللي ع الإنسان ده إنه طول الوقت هيلبس أيه عشان خاطر بس هو ماشي في الشارع ومعرض للخطر".
وفي الفترة الحالية، تشعر هدير بالقلق من زيارة مصر، بسبب حوادث التحرش الجنسي التي تتابعها على صفحات التواصل الاجتماعي، "خايفة طول الوقت مش عارفة المفروض ألبس أيه وأنا رايحة مصر".
وعلى عكسها، لم تفكر علياء في العلاج نظرًا لعودتها إلى مصر موطن إقامتها الأصلية، والتي يعد التحرش فيها جزءًا أساسيًا في السياق، وبالتالي ارتأت أن طريقتها في التجنب هي الأكثر أمانًا للتحرك في شوارع مصر.
وبين علياء التي تستعد للعودة إلى "البيئة غير الآمنة" والتعايش معها، ترى هدير أنها اُنقذت، وباتت قادرة على التنفس أخيرًا خارجها، وعلى الرغم من أنها لا ترى الوضع مثاليًا في أوروبا أو "أنهم ملايكة" لكن من تجربتها فإن الأغلبية لا تتعرض للنساء بسوء في الشوارع.
تقول "كنا بنتربى على إن أوروبا مش أمان وماتقدريش تمشي في الشارع بعد الساعة 10 بس من تجربتي هنا أقدر أقول إن أوروبا هي الأمان ومصر مش أمان".