هل قتلتُ أنا أيضًا طفلي؟ كان إجهاضًا. قتلني الشعور بالذنبِ بعدها، ودخلتُ في نوبة اكتئاب، وصلت لمحاولاتِ إنهاء حياتي أنا الأخرى. لم أكن وقتها واعية لمَ أنا حزينة لهذه الدرجة. بدأ الأمر كفترة حداد عادية، وعوضًا عن الخروج منها؛ تركت الحزن يمتص الروح مني.
كان الشعور بالذنبِ سيقتلني إن أنجبت على أيةِ حال؛ إذ قَتل قبلي سيلفيا بلاث، الشاعرة الأمريكية التي فشلت في أن تصبح "أمًا خارقة". وقبل أن تنهي حياتها فكرت بأولادها أولًا. تركت لهم أكواب الحليب على الطاولة بجانب الأسرَّة.
في كتابها عن الأمومة وأشباحها، تقول إيمان مرسال "إذا كان هناك صراع بين ذات الأم وذات طفلها، فلن ينتصر أحدهما، سينتصر -الديناصور- طبعًا، إنه الذنب". نفس الذنب الأمومي الذي وصفته أليف شافاق، الكاتبة التركية، وهي تحكي عن اكتئاب ما بعد الولادة في كتابها حليب أسود.
كانت عَلمت للتو أن حليب جسدها ليس كافيًا لإشباع طفلتها. حينها فقدت قدرتها على الخروج إلى الشارع، وتقوقعت حول حزنها في منزلٍ هادئ استأجرته وزوجها بمدينة اسطنبول، تتساءل: لم تتأقلم كل النساء بسهولة مع الأمومة، إلاها؟
أما أنا فنما لدي شعور مختلف بالذنبِ؛ ماذا كنت سأفعل، أنا الطفلة التي جاءت إلى الدنيا نتاج زواج تعيس، إن سألني طفلي يومًا لما أنجبته في زواجٍ شقي؟ سؤال فشلت أمي في الإجابة عنه؛ تكرار التجربة بالنسبةِ إليَّ محض غباء.
لم أُخبر أمي بأمرِ الإجهاض، وعندما فاتحتها برغبتي في الطلاق؛ قالت "خلفي واتطلقي" وحجتها "أهو تبقي طلعتي بحتة عيل"؛ خشية ألا أتزوج ثانيةً. ضحكتُ. إجابتها بالنسبة لي ساخرة؛ ماذا لحقَ بقصة السندريلا خلال الثلاثين سنة الفائتة؟ ألم تكن ستقابل الأمير الوسيم وتقع في الحب بجنونٍ، ومن ثم "يعيشوا في تبات ويخلفوا الصبيان والبنات"؟
متى يتوقف حق الأمِ في أخذ روح طفلها؟
بعد عام، جمعني مع صديقٍ حديثٌ، بالصدفة، حول أحقية الأم في الإجهاض. كان من مناهضيه المتحمسين، يقارنه بلا تسامح بـ"قتلِ نفس بغير حق". كنتُ أدرك أنه لا يعرف تجربتي الخاصة، وبالتالي يجب ألا آخذ حديثه بمحملٍ شخصي، لكنني رغمًا عني بتُ أدافع عن الإجهاض، وعن نفسي.
أحدثت كلماته في نفسي شرخًا، وكأنه ضَغطَ على دُمل وانفجر. كان يتهمني، دون أن يدرك، بالقتلِ، وقتل من؟ ابني.
قتل روح أعلنت للتو عن وجودها. حيوان منوي اخترق بويضة بشجاعةِ عَدّاء، وكوّن بصمته الوراثية الخاصة، تلك التي لن يضاهيه فيها مخلوق، حتى الأجنة اللاحقين لذات الرحم. لكن هل يعني هذا أن المرأة لا يحق لها التصرف بجسدها؟ أن تُسلب حقها في أن تنزف؟ أنا بالفعلِ أنزف كل شهر.
مدفوعةً بالشعورِ بالذنب؛ شرعتُ بعدها في كتابة نصوص صغيرة تحت عنوان "أمومي"، تتبعتُ فيها حوادث القتل "الأمومية" عبر التاريخ، تلك التي قُتل فيها أبناء على يدِ أمهاتهم. ربما أردتُ أن أثبت لنفسي أن هناك "أمومة" أكثر دموية ووحشية من أمومتي. أردت بشدة أن أصفح عني.
أخبرني صديق آخر وقتها أن أحدًا لن يتقبل مني كتابًا عن الأمومةِ، أنا التي لم تنجب قط؛ فمعروف أن تلك المنطقة لا يدخلها إلا النساء اللائي استكملن حبلهن وأنجبن بالفعل. عندها شعرتُ بعجزي، كيف أشرح له أن الإجهاض أيضًا أمومي، لكنه بدائي ومتوحش، تمامًا مثلما تأكل القطط صغارها إن رأت فيهم ضعفًا؛ لتوفر الحليب.
كان عُمر جنيني ستة أسابيع؛ كل ما قرأته يقول إن قتلي كان رحيمًا، فجسده، وفقًا للعلمِ، لم يكوّن بعد النظام الذي يمكنه من الشعور بالألم؛ وسيبقى كذلك حتى الأسبوع العشرين. لكنني في النقطة الأعمق من روحي تساءلت، أكانت له روح؟ كنت أخشى أن أكون آذيت روحه. وقتها لم أعرف بيقين، متى يبدأ حق الجنين في الحياة وينتهي حقي كأم في أخذ روحه؟
عند حنان، لن ينتهي هذا الحق أبدًا، حتى بالولادة. كتبت في رسالة انتحارها "وديت ولادك الجنة يا محمد". وبدمٍ بارد نحرت رقاب أطفالها الثلاثة وفشلت في الانتحار بعدها. بالنسبةِ إليها هي أنجبتهم، وباستطاعتها أن تأخذ عنهم، كملاكِ موتٍ، الحياة مثلما منحتهم إياها؛ وبالتالي فانقطاع الحبل السري لم يشكل لها فارقًا، ولم يجعلهم في عينيها كيانات منفصلة يحق لها الحياة والنمو بعيدًا، حتى وإن تعبت هي ورغبت في الموت.
كانت مصابة باكتئاب ما بعد الولادة؛ لكنه كان اكتئابًا مغلفًا بالمفاهيم الخاطئة والجروح القطعية بالرقبة وأحلام أضاحي الرب والملكوت. أمومة مريضة تريد أن تلعب دور الإله وتستمد أحقيتها من ياء الملكية.
يقول جبران "أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها". ذكّرني ذلك بالحي الشعبي الذي سكنت فيه جدتي. كانت جارتها امرأة عجوز، تنعت أبنائها بـ"الفضلات"، وتشبه المخاض بعملية الإخراج، قائلة "أنتم قذارة جسدي". الآن تبدو شتائمها ذات وقعٍ منطقي، وأخف وطأة على أذني من المرةِ الأولى. نفس المنطق.
القطط أكلت صغارها..
خلال رحلة بحثي عن أمهات أكثر قسوة مني، عثرتُ على أمهات عرضن أبنائهن للبيع مقابل الطعام. أخريات أكلن كما القطط أطفالهن في المجاعة. هنا قابلتُ مريم بنت أليعازر وجهًا لوجه، تلك التي سكنت بعد نهرِ الأردن، وهربت إلى أورشليم، وشهدت حصار الرومان لمدينة الرب. حكى عنها المؤرخ يوسابيوس القيصري في كتابه تاريخ الكنيسة أنها كانت من عائلة ثرية، منزلها لا يخلو من النعمات؛ في وقتٍ اشتدت فيه المجاعة بين الناس، حتى تساقطت جثثهم في الشوارع.
فرغت الموائد من الطعام، وأصبح الكلاب والقطط ومن ثمَّ الجرذان طعامًا لائقًا يقتات عليه الجوعى، وكان منزل بنت أليعازر مازال عامرًا، وهجم عليه الحراس مرة واثنين وثلاث، يقتاتون على طعامها وثروتها وأمتعتها، حتى لم يبق لها شيء.
كان طفلها رضيعًا، مُعلقًا في ثديها، ولم تجد ما تسد به جوعها؛ فقالت "تعال وكن طعامًا لي". قتلت المرأة رضيعها، ويُقال ذبحته وطبخته، وأكلت نصفه، وتركت النصف، وليمة للحراس الهجامين؛ قائلة "الطفل طفلي، كُلوا، فأنا أيضًا أكلت". كانت حجتها "لما تُبقيه؟ ليشقى في الحربِ أم المجاعة؟" شعرتُ بالأسى للمرأة التي أرادت أن تسخر من العالم ومن الحرب ومن الجوع، بهذه الوليمة. وتملكتني رغبة محمومة في أن أمسك خيط البداية. حينها كتبت في دفتر يومياتي:
أمضي بحبلٍ سُري مُعلقًا حول عنقي
طفلي تركته على مائدة الطعام
ملفوفًا بأوراق الشجر.
محاطًا بورق اللورى والحبهان
لحمه الطري قد نضج
وفي الوجبة التالية، ستتناوب عليه العائلة.
في المجتمع الإسبرطي القديم، عندما كانت الأم الحبلى تضع مولودها. كان الرضيع يُعرض على مجلسٍ من الحكماء، يختبرون فيه الجلَد وتحمل الصعاب. فإن كان المولود قويًا كفاية ليصبح مقاتلًا يسلمونه لأمه، ترعاه حتى السابعة. وإن كان ضعيفًا أو مريضًا أو من ذوي الاحتياجات الخاصة؛ يقتلونه. يُقال إنهم كانوا يضعون المواليد الضعفاء أعلى قمة الجبل حتى تأكلهم الذئاب؛ بعد فترة يعودون إليهم، فإن نجوا من الذئاب سيبلون حسنًا في المهام العسكرية. وفي سن السابعة تُسلم الأم طفلها للجيش الإسبرطي قائلة "عُد حاملًا درعك، أو محمولًا عليه".
أن تعيش محاصرًا بالألم، بالعار وبالذنبِ، في محاولة دائمة لأن تمحو عن روحك شبهة القتلِ؛ أمر أغلظ من الموت
كلما عدتُ بالزمنِ للوراء، وجدتُ الأمومة والأبوة يأخذان أشكالًا أكثر بدائية ووحشية. في التاريخ كانت أضاحي الأطفال تقدم قرابين للآلهة، وسبقت في ذلك أضاحي الحيوانات. فكانت بعض الشعوب تلجأ إلى التضحية بأبكار مواليدها تقربًا من آلهتهم، وخاصة في أزمان الفواجع والكوارث، وعرفته قبل خمسة آلاف سنة حضارات الشرق الأدنى القديم.
أصبح لي "طفل" في السماء..
أن تعيش محاصرًا بالألم، بالعار وبالذنبِ، في محاولة دائمة لأن تمحو عن روحك شُبهة القتلِ؛ أمر أغلظ من الموت. لم أتصالح معه كُليًا، وجع يتجدد كلما رمقني أحدهم بنظرة"لِمَ فعلتِ هذا؟" سنوات من العلاج النفسي لم تمحو ذنبي. لكن ماذا لو كان الطفل أُجهضَ تلقائيًا دون تدخل مني، هل كُنتُ سأعذب روحي بالذنب ذاته؟
في مرحلة التكوين يمكن لجسد الأم أو جسد طفلها أن يقتل أي منهما الآخر، بشكلٍ طبيعي؛ بين 10 و 20% من حالات الحمل تنتهي بالإجهاض التلقائي، وفي مطلع القرن العشرين كانت الولادة هي سبب الوفاة الأول للنساء، وأطلقوا عليها وفيات الأمومة. لكننا كـ "نساء" لم نتربَّ على "حق التصرف في الجسد"، تكبر الأنثى وتتعامل مع جسدها كأنه ليس لها. هي تحفظه دائمًا كأمانة؛ تحت تصرف ومسؤولية آخر ؛ غريب عنها. لذا ما أن تبدأ في التصرف بجسدها؛ ينتابها شعور بالغربة مختلط بالذنب.
سنوات مرت، قبل أن أدرك أننا نقتل أبناءنا لحظة ولادتهم. نمنحهم الحياة بيدٍ والفناء بالأخرى. بالولادة أصبحوا قابلين للموتِ. وإذا كانت الولادة خلقًا من عدم، يبدأ بالتحام جسدين مكونين معًا إله، وإذا كانت تجعلنا بالغريزة نستثمر في أجسادنا وأنفسنا، بأن تنقسم أحماضنا النووية وتمتزج وتخلق أجنة جديدة من نطفٍ؛ فإننا نمنحهم مع بصمتنا الوراثية جزءًا من أنفسنا وذاكرتنا الجينية.
ما حملناه من أمراض السكري والضغط والقلب وأحيانًا أنواع مختلفة من السرطان. ومعهم ما أخفيناه من الاضطرابات النفسية، قلق وتوتر ورهاب الأماكن المغلقة. ومن ثم، تقطع الأم حبلها السُري. بإمكانك الآن أن ترى إكسير الخلود الوحيد المتبقي، رضيع يقف على قدمين.
في تلك اللحظة لا يبدو الإنجاب رغبةً ملحة في منح الحياة بقدر ما يبدو حيلة فطرية، أملًا أبديًا بالبقاءِ. وحيث نمنح الحياة، نمنح معها القواعد، نخلق ثواب وعقاب، تصرفات حسنة وأخرى سيئة. هنا، نصبح السلطة العليا على مخلوقٍ أدنى. نُعلم أولادنا طقوس الحياة كما نورثهم طقوس الموت والدفن. ونهبهم أقدارًا ومصائر.
وأنا أكتب صباح اليوم اعترافي، نظرتُ إلى أمي وكانت سعيدة؛ ابتسمتُ كمن أدركَ للتو سرًا. عرفتُ الإجابة عن سؤالي القديم. بمرورِ الوقت سنصبح أنا وأمي صديقتين قديمتين. وكما فهمت لمَ أنجبتني لتجد سعادتها؛ ستفهم هي الأخرى لما أجهضت على الرغمِ من أنني أردتُ الأمومة بشدة.