وكأن تيارًا كهربائيًا يسري في أنحاء متفرقة من جسدي، بالإضافة لشعوري المتواصل بالإرهاق وعدم الاتزان أثناء المشي. كان ذلك في 2007 حين داهمني مرض التصلب المتعدد.
هاجمني المرض في الجانب الأيمن من الجسم، كنت غير قادرة تمامًا علي تحريك ذراعي وقدمي اليمنى، ذهبت إلى أطباء من تخصصات مختلفة؛ عظام، علاج طبيعي، عيون، مخ وأعصاب، وكانت تشخيصاتهم تخفق دائمًا، أجريت العديد من الأشعات والتحاليل، ولم أصل إلى تشخيص واضح، أصبحت حياتي مليئة بالآلام المتصلة، وعشت على المسكنات.
بعد عام، هاجمني المرض ثانيةً، في عيني اليمنى تلك المرة، أصبحت أري الطريق مزدوجًا، ولم يستطع طبيب العيون تفسير حالتي، فطبقًا للفحص الظاهر "العين لا توجد بها مشكلة". ذهبت إلى قسم الطوارئ بمستشفى القصر العيني، ومن حُسن حظي قابلت طبيب المخ والأعصاب، الشاب آنذاك، أحمد عبد العليم، الذي ظل طبيبي المعالج حتي تاريخه، وكان على دراية واطلاع بهذا المرض حديث الاكتشاف، مقارنة بباقي أمراض المخ والأعصاب.
وصفت للطبيب ما عانيت من أعراض، وبعد الكشف طلب مني إجراء رنين مغناطيسي علي المخ وعمل بزل للنخاع الشوكي (إدخال إبرة بين عظمتين قطنيتين/ فقرتين) ، تم حجزي بمستشفى المنيل التخصصي لمدة خمسة أيام، أخذت خلالها خمسة حقن كورتيزون 1جم (سولو ميدرول)، وبظهور نتائج الأشعة ظهر التشخيص أخيرًا، أنه هو التصلب المتعدد (الإم إس)، فكانت أوجاعي السابق ذكرها، ما هي إلا أشكالًا مختلفةً من هجمات سأعيش معها تاليًا.
مرض مناعي
التصلب المتعدد المتناثر (Multiple Sclerosis)، ويُعرف اختصارًا بـ(MS)، هو مرض مناعي يصيب المخ والحبل الشوكي والأعصاب البصرية، وينتج عنه تآكل في الغشاء النخامي أو غلاف الميلين الحامي للألياف العصبية، مما يسبب خللًا في نقل الإشارات العصبية، يظهر في تباطؤ تلك الإشارات أو عدم نقلها، إذ يقوم الجهاز المناعي بمهاجمة غلاف الميلين، وهي مادة دهنية تغطي الألياف العصبية، ما يسبب مشكلات في التواصل بين العقل وباقي أعضاء الجسم.
وتختلف علامات التصلب المتعدد وأعراضه بشكل كبير، وتعتمد على مقدار الضرر وماهية الأعصاب المتضررة، إذ يمكن أن يفقد بعض المصابين بالتصلب المتعدد الشديد القدرةَ على السير بشكل مستقل أو على الإطلاق، بينما يمكن أن يشهد آخرون فترات طويلة من الاستقرار دون حدوث أي أعراض جديدة.
ويتميز مرض الإم إس، بفترات الانتكاسة والعودة، بمعنى أنه يتحسن لفترة من الوقت، ولكن يمكن أن يهاجم الشخص المريض من حين إلى آخر. والبعض لديهم نمط تقادمي، أي أن المرض يزداد سوءً بشكل ثابت مع مرور الوقت.
هل أقدر أن أصبح أمًا؟
عندما ظهر التشخيص بوضوح، هلعت، تملكني خوف مما هو قادم، ظللت أبحث عن ماهية المرض و الأعراض المتوقع حدوثها، صارحني طبيبي بأن هذا المرض لم يُكتشف علاج له بعد، لكن هناك أدوية تساهم في السيطرة على معدل وحدّة الهجمات، ويجب عليّ تناولها بانتظام، مع تعديل أسلوب حياتي؛ البعد عن كل ما هو ضاغط، والمداومة علي النوم مبكرًا، والحرص على النوم عدد ساعات كافٍ يوميًا.
تزوجت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، كنت مترددةً جدًا في أخذ قرار الحمل، لازمني الخوف علي الجنين من مرضي، والقلق مما إذا كنت سأقدر على القيام بكل مهامي كأم، أو ما إذا كان مرضي سيؤثر على طفلي وتكوينه بأي شكل. ارتحت قليلًا عندما قرأت دراسات عدة تؤكد أن هذا المرض ليس بالضرورة وراثي.
نصحني الطبيب بوقف تناول الدواء الموصوف لي البيتافيرون، والذي كنت استخدامه للعلاج قبل حوالي سنة من قرار الحمل. في بداية عام 2013 قررت أن أصبح جاهزة للحمل بنهاية العام، وأصررت على أن أسمع المعلومات بنفسي من متخصصين في أمراض الوراثة، كما سعيت إلى الاطمئنان إلي أن جرعات الكورتيزون التي كنت أتناولها قبل معرفتي بالحمل لن تؤثر على الجنين، وقيل لي إن ما نتناوله هو ما يسمي بهيدرا كورتيزون ويتميز بأنه لا يسبب أضرارًا للأجنة.
خلال فترة الحمل أوقفت الأدوية المتعلقة بالإم إس لخطورتها على الجنين، وكان المرض شبه كامن. بعد الولادة أخذت قرارًا أن تكون رضاعة ابنتي طبيعية من اللحظة الأولى، لأضمن لها مناعة قوية وغذاءسليم يساعدها علي النمو بسلام، ولهذا كان من المستحيل أن أعود لتناول أدوية الإم إس، كيلا تؤثر على الرضاعة.
بين ألمين: هجوم المرض وجوع صغيرتي
شهران فقط بعد الولادة، وحدثت أول هجمة للمرض، صار لزامًا عليّ أن أتوقف عن إرضاع ابنتي لتناول جرعات الدواء التي من شأنها إيقاف الهجمة.
مع الهجمة، بذلت جهودًا مضنيةً لأعوّد صغيرتي على الألبان الصناعية، لكنها رفضت بشكل قاطع أي بديل للرضاعة الطبيعية. علقت في تحدٍ صارخ ومؤلم، كيف لي أن أتوقف عن رضاعة ابنتي على الأقل لثماني ساعات حتي يختفي الكورتيزون من اللبن؟ كيف لصغيرتي ذات الشهرين أن تتضور جوعًا كل تلك الفترة.
والدتي حاولت أن تُهدئ من صرخات صغيرتي فيما يحترق قلبي، هي جائعة ولبني في هذه اللحظة يملؤه الكورتيزون. كان الخيار الوحيد المتاح إعطائها بعض الأعشاب أو اللبن الصناعي في ببرونة. بعد عدة ساعات، من حسن حظي، وضعت واحدة من صديقاتي المقربات مولودتها الأولى، فكانت كالنجدة بالنسبة لي، ما أن عرفت حتي هرعت إليها، وتولت هي إرضاع طفلتي، حتي أنهيت جرعات العلاج وتوقفت الهجمة.
بشكل عام، الأمومة على قدر إرهاقها تُعطي معنى للأيام، كنت سعيدة وأنا أرى طفلتي تكبر وتكتشف العالم من حولها، أستمتع بصحبتها، وعلى قدر المستطاع أبحث عن كل فرصة تشعرها بقضاء وقت مميز. كانت صحبتها تعطيني دفعة قوية للتغلب علي متاعب وإحباط الام إس.
أم للمرة الثانية
عندما أتمت ابنتي أربع سنوات، بدأت تُلح في أن يكون لها أخ أو أخت كي يلعبا سويًا، كمعظم الأطفال. كنت مترددة في أن أخوض التجربة مرة أخرى، لكني حسمت القرار لصالحها، من حق صغيرتي أن يكون لها ونس في الحياة.
وتكررت نفس التجربة مع ابنتي الثانية، يتوارى المرض وقت الحمل ويعد لهجمة شرسة بعد الولادة، ولحسن الحظ مجددًا، كانت إحدى صديقاتي المقربات وضعت مولودتها للتو، فتكفلت بإرضاع ابنتي حتي أنهيت جرعات العلاج اللازمة.
تلازمني أحيانًا مشاعر خوف من الموت والعجز بسبب المرض، كما تتسرب أحيانًا مشاعر سلبية بأنني غير نافعة في الحياة، ولكني قررت ألا أترك مساحة لتلك المشاعر للسيطرة علي حياتي، أخذت قرارًا ألا يعطل المرض حياتي، وألا أجعله يؤثر علي جودة الحياة التي أستحقها و تستحقها أسرتي.
كيف تعلمت أن أصادق مرضي؟
وفي حضرة الإم إس (التوأم الخفي) الذي لا يراه أحد، وأنا فقط من تشعر بآلامه، تواجهني صعوبات عدة بالقطع في ممارسة التفاصيل اليومية، ما بين عملي، وتفاصيل المنزل، وطفلتيّ، واحتياجاتهما التي لا تنتهي، ولكني تعلمت كيف أدير اليوم، وأرتب المهام، وأتنازل عن الوصول للحد النموذجي دومًا، في كل شيء، كما كنت أفعل، فلا بأس في أن يكون المنزل غير مرتب قليلًا، في مقابل أن أدخر الوقت للاسترخاء في حال شعرت بالتعب، ولأرتبه في وقت لاحق. تعلمت ألا بأس في طلب المساعدة من المقربين، وتعلمت كيف أشرك أطفالي منذ الصغر في إنجاز بعد الأعمال المنزلية في إطار من اللعب.
تعلمت أيضًا أن أثمن كل اللحظات السعيدة التي تمر عليّ، أن أُعطي لنفسي وقتًا كافيًا للاستمتاع وحيدة، والبعد عن منغصات الحياة كلما استطعت، أن أحضر حفلةً لمطربي المفضل، أو أقضي وقتًا مع أصدقائي، أو أن أشرب فنجانًا من القهوة في مكان أحبه، أو أقرأ كتابًا.
تلك الأوقات تعطيني دفعة لإكمال اليوم، تعلمت أنه لا ضرورة للإحساس بتأنيب الضمير تجاه مرضي، طالما أنني أقدم أقصى ما أستطيع في حدود قدراتي، فكفى. ولولا دعم أسرتي والمحيطين بي، لم أكن لأقوم بكافة الوظائف اليومية التي تخص أسرتي. تعلمت أيضاً ألا أتعالى على المرض، أن أظل حريصةً علي المتابعة بشكل دقيق لما يظهر من أعراض والرجوع للطبيب.
لست وحدك
أحيانًا يجعلك الألم تشعر كما لو كان حكرًا عليك وحدك، لكن خلال رحلتي للحصول علي أدوية الأم إس، تيقنت أنني لست الوحيدة المصابة بهذا المرض كما كنت أتخيل، هناك آخرون يعيشون نفس حالتي، كل منهم لديه قصة مختلفة في التعامل مع المرض، ومدى تأثيره علي حياته اليومية، وأنا شخصيًا لدي مئات من القصص التي قد أرويها في وقت لاحق.
من المفيد للغاية ألا يشعر الإنسان أنه وحيد، ومن المفيد لمرضى الإم إس أن يكونوا جزءً من جمعية رعاية للتصلب المتعدد على سبيل المثال، هناك مرضى مثلك وأطباء من تخصصات مختلفة يقدموا الدعم والمشورة دومًا.
مرض الإم إس من الممكن أن يكون مرضًا صديقًا، بشرط الالتزام بالعلاج، والمتابعة الدورية، والنوم مبكرًا، ولفترة كافية، واتباع نظام غذائي صحي، وبالقطع محاولة خلق لحظات سعيدة قدر الإمكان.