تصميم: أحمد بلال- المنصة عند قدمي أم عزيز رؤى_ أحمد الطنطاوي منشور الخميس 7 يوليو 2022 - آخر تحديث الخميس 7 يوليو 2022 "خرجت من فلسطين غصب عني أمشي على رجلي ونفسي أرجع لها أحبو على ركبي"، هكذا اختصرت أم عزيز خلاصة رحلتها منذ عام 1948 حتى اليوم، وهو عمر مديد قضته في مخيم برج البراجنة، أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في بيروت، في رحلة إنسانية مؤلمة وآسرة تعكس جوانب عديدة من مأساة الشعب الفلسطيني المقاتل الذي تواطأ عليه -في مراحل تاريخية عدة وإلى اليوم- أعداؤه بمعاونة كثير من أشقائه. أم الشهداء الأربعة التي تجاوزت التسعين من العمر مازالت تحتفظ بالذكريات والأمنيات، ومفتاح بيتها القديم الذي طُردت منه ليحتله المستوطنين المغتصبين الذين تنكرهم تلك الأرض المقدسة وإن دان لهم بالولاء وأحيانًا الطاعة كثير من الحكام الذين استعذبوا الحياة المدنسة. كم هي مُشرفة الجِلسة عند قدمي أم عزيز، وكم هو شافٍ تقبيل رأسها ويدها وطلب العفو منها وأنا أستمع لدروسها عالية القيمة في الصبر والعزم وحب الحياة والاعتصام بالأمل. وبينما خرجتُ- الأسبوع الماضي- من بيتها أحمل بعض الإجابات وكثير من الأسئلة وكل التبجيل والتوقير، تجولت بالمخيم رفقة صديقي الشاب المصري الرائع محمود الشربيني وجمع من المضيفين الفلسطينيين الكرام الذين لم يكن لهم سوى طلب وحيد "إحكوا عنّا"، وها أنا أحاول الوفاء بشيء من وعدي لهم بمقالي الأول في المنصة. في المخيم تجولنا بالأزقة التي بالكاد يتسع بعضها لمرور فرد واحد، شاهدًة على موهبة استثنائية في الانتصار على كل عوامل اليأس، تحاورنا مع شابات وشباب في معسكر الكشافة، زرنا المستشفى والنصب التذكاري ومقبرة الشهداء ومركزًا للخدمة المجتمعية، ورأينا بأعيننا كيف يُبخل بالمال العربي على دعم صمود الشرف العربي بينما يُهدر في طلب الملذات وشراء الولاءات، وغيرهما من الصغائر والموبقات. تجري على قدم وساق ترتيبات مُشينة لصياغة مستقبل جديد للمنطقة يرسمه بعض أعدائها ويتنافس على تنفيذه عصبةٌ ممن يُحسبون على أبنائها، طلبًا للأمان الذليل وثمنًا للكراسي الزائلة التقينا بالعديد من أبناء الشعب الفلسطيني العظيم بأجياله المتعاقبة، بين من عاصروا التهجير ومن وُلدوا في الشتات لآباء لم يعودوا يومًا لوطنهم ولم يغادر هو قلوبهم. لم يكن صعبًا أن أفهم ما تُظهره عيونهم وإن لم تنطق به ألسنتهم، وكان سهلًا أن أشعر بالعجز الكريه وأنا أشهد مظالمهم، بينما كان مستحبًا للنفس أن تمتلئ بالإعجاب البالغ بهم والتقدير الكامل لهم. قاسية وضيقة هي الحياة في المخيم، وكريمة ورحبة أرواح سكانه الذين يعكسون أكبر خيباتنا ويدفعون ثمنًا باهظًا لأفدح خطايانا، لا يكرهون ولا يتهمون- ولو فعلوا لكان لهم كل الحق- ولكن يرحبون ويسامحون في ارتقاء يليق بهم ويستوجب منا أن نرتفع لمستواه وندرك معناه عسى أن نتصرف بمقتضاه. وكأن المخيم المكدس بالبشر وبالأحلام الوطنية الكبرى والإنسانية الصغرى أبى أن يكون مرآة لنكبتنا التاريخية في فلسطين وفقط، إذ انضم إلى ساكنوه أشقائهم السوريون الذين عرفوا هم أيضًا حياة اللجوء والتشرد بالمنافي في زمن العجز العربي الذي بلغ قاع الهوان، في حين تجري على قدم وساق ترتيبات مُشينة لصياغة مستقبل جديد للمنطقة يرسمه بعض أعدائها ويتنافس على تنفيذه عصبةٌ ممن يُحسبون على أبنائها، طلبًا للأمان الذليل وثمنًا للكراسي الزائلة. أستحضر الفارق الكبير بموازين القوة الغاشمة في هذه اللحظة العابرة من عمر التاريخ الذي وُلد هنا، ثم أتذكر ابتسامة أم عزيز الهادئة وكلمات أطفال معسكر الكشافة الهادرة وأغمض عيني مطمئنًا مستبشرًا بنصر آتٍ لا محالة، في يوم يرونه بعيدًا ونراه قريبًا، وما ذلك على الله بعزيز يا "أم عزيز". مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.