لم يكن محمود يتصور أن حلم التصوير الصحفي والركض خلف اللقطات في شوارع وميادين القاهرة سينتهي، ليغير مساره من مصور صحفي، إلى محاسب في شركة بالمملكة العربية السعودية.
خلال السنوات الماضية، تعرضت مهنة البحث عن المتاعب لضربات عدّة، أوصلت بها إلى أن تكون إمّا طاردة لأبنائها أو تجبرهم على تقبل أوضاع مهنية واقتصادية صعبة، خاصة وأن مصر تعد من أسوأ الدول التي تنتهك حرية الصحافة في العالم، إذ تقبع في الترتيب 168 (من أصل 180 بلدًا) حسب التصنيف العالمي لحرية الصحافة، الذي تصدره مراسلون بلا حدود.
محمود الذي التحق بقطار التصوير الصحفي بعد شهور من اندلاع ثورة يناير 2011، وجد الشارع حينها ملتهبًا وكانت اللقطات الصحفية تنادي كتيبة المصورين الذين أصبحوا شهودًا على فترة مهمة من تاريخ مصر.
بدأ محمود، الذي تحفظ على ذكر اسمه كاملًا، مشوار التصوير الصحفي منذ العام 2012 حتى العام 2018، بدأ في موقع البديل وانتقل بعده إلى موقعي مبتدأ والبلاغ، لم يتوقف عند العمل تحت راية مؤسسة صحفية "أنا صورت في أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء بس ماكنتش وقتها شغال في مكان لسه"، ورغم الأحداث الكثيرة التي وثقها يعتبر توثيق مذبحة فض اعتصام رابعة وما تلاها بالصور منجزه الصحفي الأهم، على حد قوله خلال حديثه للمنصة.
"مش سكتي"
هجرة محمود للتصوير ارتبطت بتغير الظروف الاقتصادية والسياسية في العمل الصحفي، "مبقاش فيه مجال إني أكمل لا على مستوى الشغل في أماكن كويسة ولا حتى على مستوى الأمان في الشارع"، يستطرد "أنتِ أكيد عارفة ظهور كاميرا في الشارع بيعمل إيه؟".
ورغم عدم وجود نص قانوني واضح يجرم ممارسة التصوير الصحفي في اﻷماكن العامة، فإن قوات اﻷمن غالبًا ما تلاحق المصورين بتهمة "التصوير بدون تصريح"، وهي تهمة غير منصوص عليها في أي قانون، وتخالف الدستور الذي تكرس مواده نظريًا لحرية الصحافة وتعمل على ضمان استقلالها.
يسترجع محمود بعض المواقف التي جرت خلال فترة عمله في التصوير "في 2014 كنت أوثق مظاهرة في مصر الجديدة ضد قانون التظاهر، كلت علقة محترمة من المواطنين الشرفاء، وسلموني للشرطة كملت عليّ، ولولا أن زمايلي شافوني وأنا بتحط في المدرعة مكانوش عرفوا حصلي إيه”.
في ذلك الوقت لم يقض محمود وقتًا طويلًا في أيدي الشرطة "قعدوا يلفوا بينا شوية وبعدين رحت قسم مصر الجديدة وخرجت بعد كام ساعة". ولم يتوقف المصور الشاب أمام هذه الواقعة كثيرًا وحاول استكمال مسيرته، "حماس الشباب وقتها، وإني بكشف الحقيقة والكلام الجميل ده كله خلاني كملت"، يضحك محمد ويقول "ماكنتش أعرف اللي فيها والله".
هنا يوضح رئيس شعبة المصورين في نقابة الصحفيين مجدي إبراهيم، تراجع مساحات التصوير في الشارع بعد اشتراط السلطة الحصول على تصريح؛ ليصبح التصوير في الشارع مغامرة، "بعد ما كنا بننزل نصور أي وقت وأي مكان دون خوف أو رهبة، كنت عارف الجهة المسؤولة حتى لو شاكة فيَّ أو تحفظت عليَّ في النهاية يتأكدوا أني أؤدي عملي"، يضحك إبراهيم وهو يقول "ما فيش مصور خد تصريح علشان يصور حاجة".
على مدار أربع سنوات استكمل خلالها محمود عمله وسط إشارات تقول بعدم استمراره كثيرًا، خاصة الظروف الاقتصادية وأثرها على وضع المهنة وحال الصحفيين عمومًا، كذلك فشلت محاولات العمل مع زملائه على مشروعات تصوير وإقامة معارض إمّا بسبب التمويل أو سوء الإدارة، ومع تكرار الإحباط، خاصة بعد تعرضه لحادث سرقة معداته كان عليه الاختيار "كل الحاجات انتهت لأن السكة دي مش سكتي".
يقرر محمود تغيير مساره الوظيفي ويعمل مع والده في تجارة الحديد نحو سنة ونصف، قبل أن ينتقل إلى السعودية للعمل محاسبًا في شركة استيراد عطور وأدوات تجميل. ولم يكن وحده من اتخذ قرار الابتعاد عن المهنة التي أحبها. آخرون سافروا إلى الخارج سواء للعمل في مجال مرتبط بالتصوير أو في مجالات أخرى، بخلاف آخرين بحثوا عن أعمال أخرى في مصر بعيدة تمامًا عن الصحافة.
لا مكان للمصورين
يربط رئيس شعبة المصورين بين الأحداث السياسية في مصر منذ منتصف العام 2013، وتردي أوضاع المصورين وتسريح عدد كبير منهم، أو انتقال بعضهم للعمل في مهن أخرى، "النظام في الوقت الحالي يرى أن الصورة تلعب دور كبير في تهييج الرأي العام أو السخط على الأوضاع"، على حد قوله.
إبراهيم في حديثه للمنصة يرى أنه على الرغم من الانتشار الهائل للمواقع الإلكترونية والأدوات الرقمية، فإن تأثيرها في تحسين صناعة الصحافة يكاد لا يذكر، فأغلب المواقع اﻵن لا تهمها الصورة، فقط يمكن أن تفتح هاتفك لتبث بثًا مباشرًا، ولا بأس أن تلعب مع الرائجة "التريند".
ويكشف رئيس شعبة المصورين الصحفيين أنه لا مكان للعاملين بالتصوير في المواقع الصحفية حاليًا، اﻷمر الذي دفع إلى هجرة الكثيرين للمهنة، خاصة في ظل تدني اﻷجور، وتراجع المعايير المهنية، وفي الوقت الذي أشار إلى وجود الكثيرين الذين غادروا بلاط صاحبة الجلالة، بيّن إبراهيم أن الشعبة ليس لديها حصر بالعدد الفعلي.
لا نشر ولا راتب
وعلى غرار المصورين لجأ عدد من المحررين الصحفيين إلى الرحيل عن صالات التحرير، والبحث عن مهن بديلة. أسماء مصطفى، التي عملت خمس سنوات متواصلة في العمل الصحفي، اتخذت قرارها وبدأت وظيفة جديدة، أخصائية سوشيال ميديا، بعيدًا عن الصحف والمواقع.
انضمت خريجة كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، إلى مهنة الصحافة في العام 2012، لتلتحق بجريدة كبيرة وتصبح محررة ملف المجتمع المدني، قبل أن تتلقى صدمتها الأولى عام 2014، إثر تقلُّص مساحات العمل وتقييد النشر في عدد من الموضوعات.
تتذكر أسماء قصة المحبوسين على ذمة قضية مرتبطة بفض اعتصام رابعة، وهي القضية ذاتها التي احتجز على ذمتها المصور الصحفي محمود أبو زيد "شوكان"، حينها نجحت أسماء في التواصل مع أحد المتهمين الذياتهم الشرطة بالقبض عليه دون أيّ جرم، فيما رفض مسؤولو الجريدة نشر الموضوع.
وكانت السلطات ألقت القبض على شوكان الذي كان يعمل لحساب وكالة ديموتيكس البريطانية، أثناء تغطيته عملية فض اعتصام رابعة 14 أغسطس/ آب 2013، قبل أن تطلق سراحه في الرابع من مارس/ آذار 2019، بشرط الخضوع لمراقبة الشرطة اليومية لخمس سنوات.
ومع تكرار حالات منع النشر، قررت أسماء الاشتغال في ملف الفن والمنوعات، ولم تكن مشكلة المسموح والممنوع العقبة الوحيدة لدى أسماء، فـ"الجرنال كان عنده أزمة مالية، المرتبات ناقصة ومتأخرة، بقيت لا بعمل شغل بحبه ولا بقبض، مجرد بقضي وقت في المكان"، أخيرًا بدأت المسار الجديد في التسويق الاليكتروني.
الوضع الحالي للمهنة يدفع أسماء للشعور كما لو كانت نجت من كارثة، وحين تتأمل مشهد الصحافة تحمد الله، ﻷنها لا تمتلك قدرة على تحمُّل ما يسمى بصحافة البث المباشر، وغيرها من السياقات المرتبطة بأجواء العمل والمواد الصحفية.
مع القانون ذلك أفضل
ربما لا يتخيل أحد أن يغادر صحفي مهنته بعد أن يقضي نحو 12 عامًا فيها، هذا ما حدث مع الصحفي والمحامي هيثم رضوان، الذي قرر أن يلجأ إلى العمل كمحامي شركات ويلتحق بالجامعة لحصول على درجة الماجستير في القانون الدولي.
"أزعم أني كنت موفقًا في عملي لكن الاستمرار أصبح صعبًا"، ويربط رضوان قراره بغياب القيم المهنية والمعايير الصحفية، خاصة بعد أن تولى زمام اﻷمور في المؤسسات "وشوش وعقول أخرى تلهث وراء الترافيك والتريند".
ورغم أن العمل في المحاماة ليس أفضل كثيرًا ولم يُحدث طفرة مادية بالنسبة لرضوان، فإنه يعتبر نفسه في حالة أفضل من تلك التي عاشها خلال السنوات الأخيرة من عمله الصحفي الذي غادره في 2020.
نقابة "بالتمرير"
مع كل ما تشهده أحوال الصحفيين المصريين فإن النقابة المعنية باﻷمر تبدو أنها مشغولة بأمور أخرى، رغم الوعد الذي قطعه نقيب الصحفيين ضياء رشوان على نفسه خلال انتخابات مجلس النقابة في ربيع العام الماضي، والسعي نحو إنقاذ الصحفيين والصحف معًا.
من جهته، قال عضو مجلس نقابة الصحفيين محمود كامل للمنصة إن النقابة لم تفتح ملف تدهور أوضاع المهنة التي أصبحت طاردة للعاملين فيها، مشيرًا إلى أن المرة اﻷخيرة التي ناقشت الجمعية العمومية للصحفيين اﻷوضاع الاقتصادية ومستقبل المهنة كانت خلال احتفال أبناء صاحبة الجلالة باليوبيل الماسي لتأسيس النقابة في العام 2016، وقبل حادث اقتحام النقابة من قبل قوات اﻷمن.
في اﻷول مايو/ أيار 2016 اقتحمت عناصر اﻷمن نقابة الصحفيين في سابقة تاريخية، وألقت القبض على الصحفييَّن عمرو بدر ومحمود السقا، أثناء اعتصامهما بالنقابة، واقتيادهما وقتها إلى جهة غير معلومة.
يستطرد كامل "بعد اقتحام النقابة انتهى كل ده، من وقتها أنا ما شفتش مجلس يعمل لصالح الصحفيين"، وذلك في الوقت الذي يتوجب على النقابة اتخاذ إجراءات واضحة لحماية أعضائها، لكن المجلس لا ينعقد وفقًا للقانون على نحو شهري، "نقدر نقول إن خلال آخر سنتين المجلس يعمل لتسيير الأعمال، والقرارات تصدر بالتمرير، ومافيش مجلس نقابة أصلًا بفرض الأمر الواقع وكل محاولاتنا باءت بالفشل"، على حد قوله.
ووافق مجلس النقابة في أبريل/ نيسان من العام الماضي على الاقتراح المقدم من ضياء رشوان، بتنظيم وتوسيع استفادة اﻷعضاء المتعطلين عن العمل من إعانة البطالة التي تقدمها النقابة، ليرتفع إلى 1200 جنيهًا بدلًا من ألف جنيه.
هنا يكشف كامل أن المستفيدين من إعانة البطالة حاليًا 212 صحفيًا فقط، وهم من الصحف الحزبية المغلقة وجريدتي العالم اليوم والخميس، مشيرًا إلى أن النقابة تلقت نحو 500 طلب، ولم تبت في أيّ منها.
بالعودة إلى محمود، المصور الصحفي الذي سافر إلى السعودية، فيؤكد أنه رغم مرور السنوات على هجرته للكاميرا فثمة حنين يغزوه للعودة إلى مصر والتصوير أيضًا، خاصة وأن بعض اﻷحداث تثير شغفه فيتمنى لو استطاع إلى توثيقها سبيلا.