في النصف الثاني من عام 1906، وفي أعقاب تنفيذ أحكام الإعدام والجلد على عدد من أهالي قرية دنشواي، شن الصحفي أحمد حلمي الذي زار القرية وعايش فجيعة أهلها حملة صحفية على سلطات الاحتلال الإنجليزي وعلى هيئة المحكمة التي أصدرت الأحكام الجائرة في جريدة اللواء، لسان حال الحزب الوطني الذي كان يرأسه الزعيم مصطفى كامل.
وتحت عنوان "يا دافع البلاء" كتب حلمي مجموعة تقارير وتحقيقات ومقالات صحفية تتبع فيها تفاصيل الواقعة وأبطالها والمحكمة الصورية التي ترأسها بطرس باشا غالي والأحكام المتعسفة التي صدرت عنها.
غمس الصحفي الرائد قلمه في دماء شهداء وجرحى الحادث ونقله على صفحات جريدته فوقع البلاء في بر مصر، واهتز وجدان وضمير العالم بعد أن تناقلت الصحف الأجنبية ما نشرته اللواء، فالتهبت المشاعر الوطنية وسقطت ورقة التوت عن عورات الاحتلال وأعوانه.
ترك حلمي اللواء بعد خلاف مع أصحابها، وأصدر جريدته الخاصة القطر المصري، وحولها إلى منبر للمطالبة بالاستقلال والدستور والهجوم على الأسرة العلوية والاحتلال الإنجليزي.
نشرت القطر المصري مقالًا مترجمًا عن جريدة العدل التركية اتهم أمراء أسرة محمد علي بالفساد، جاء فيه "الأمة المصرية قادرة على انتزاع السلطة ممن ينكر حقوقها.. وأن مصر لم تستفد من أسرة محمد علي إلى الآن غير الشقاء والبلاء والظلم والضنك والديون وضياع حقوقها في قناة السويس ووقوعها تحت الاحتلال.. وأن الأمة المصرية إن لم تأخذ الدستور عطاءً أخذته قسرًا".
خاض حلمي معركة ضد "المعية الخديوية" واتهم أمراء الأسرة العلوية ببيع الأوسمة والرتب للأعيان، وطالب الجيش بالدخول فى الحركة الوطنية، مما أثار قلق الخديوي والاحتلال فقامت عليه القيامة وتوالت الدعوى القضائية ضده.
لم يتوقف حلمي رغم تهديده بشكل مباشر من رجال السرايا، وبدأ حملة جديدة على حكومة بطرس غالي واتهمها بأنها "وصلت بالبلاد إلى منتهى الخراب والدمار والغلاء المستحكم"، مرجعًا ذلك إلى حكومة الفرد "وما أدراك ما حكومة الفرد فهي التي تهزأ بالشعب ولا تحترم إرادته.. وتسعى إلى قتل الناس قتلا أدبيًا حتى يصبحوا كلابها أو كالأنعام بل أضل، هي الحكومة التي تسلب الناس أكبر حق منحه الله فتغير على حرياتهم فتسرقها".
وكتب عن إعادة العمل بقانون المطبوعات في 25 مارس/ آذار عام 1909 وقال "إن ذلك البعث ما هو إلا للتضييق على الصحافة الوطنية التي بدأت ترشد وتنتقد أعمال الاحتلال وحكوماته"، ودعا إلى مظاهرة حاشدة للاحتجاج على هذا القانون الذي صدر عام 1881 شارك فيها نحو 25 ألفًا من المصريين.
استدعت النيابة العامة حلمي واتهمته بالتطاول على نظام حقوق الوراثة، والعيب في حقوق الحضرة الفخيمية الخديوية، والدعوة إلى قلب نظام الحكم والإخلال بالنظام العام وإثارة البلبلة، وأحيل إلى المحاكمة، وصدر ضده حكم بالحبس البسيط، أربعة أشهر، مع كفالة قدرها عشرة جنيهات، ثم صدر حكم آخر بحبسه ستة أشهر وتعطيل جريدته وإعدام كل ما يضبط من أعدادها، وأيدت محكمة الاستئناف تلك الأحكام، ليصبح حلمي أول مصري يحكم عليه بتهمة العيب في الذات الخديوية.
ليست الأولى
لم تكن واقعة محاكمة الصحفي أحمد حلمي هي الأولى التي يُستخدم فيها القانون لمعاقبة وحبس الصحفيين على ممارسة حقهم في الإخبار والتحليل والنقد، فقد سبقه الشيخ علي يوسف صاحب ورئيس تحرير جريدة المؤيد، الذي أحيل للمحاكمة بتهمة نشر أخبار عسكرية وإفشاء أسرار الجيش الإنجليزي لكنه حصل على البراءة من محكمة عابدين، ولحقه الشيخ عبد العزيز جاويش محرر جريدة اللواء، الذي حُكم عليه بالسجن بعد اتهامه بتكدير الأمن والسلم الاجتماعي وتأليب الرأي العام على الحكومة.
ومع تطور الصحافة وانتشار الصحف الحزبية والمستقلة، ومع اشتباك الصحفيين مع قضايا وأزمات البلاد، بدأت الحكومات على مختلف توجهاتها عملية منظمة لحشر التشريعات المصرية بمواد تعاقب بالحبس في قضايا النشر، فلم يتوقف الأمر عند قانون المطبوعات أو العقوبات بل طال تشريعات أخرى سنتوقف أمامها لاحقًا.
تعاملت الحكومات المتعاقبة مع القوانين السالبة للحرية باعتبارها سيفًا تغمده حينًا وتشهره أحيانًا. اُستخدم هذا السيف ضد عشرات الصحفيين والكتّاب وأصحاب الرأي، فبعد علي يوسف وأحمد حلمي وعبد العزيز جاويش سُلط السيف على رقبة المفكر الكبير محمود عباس العقاد، الذي هدَّد تحت قبة البرلمان باعتباره نائبًا عن الأمة بـ"سحق أكبر رأس في البلاد في سبيل صيانة الدستور وحمايته"، فأحيل إلى المحاكمة التي قضت بحسبه سنة بتهمة إهانة الملك.
ثم تبعه إلى السجن صديقه رسام الكاريكاتير محمد عبد المنعم رخا الذي حُكم عليه بالتهمة نفسها، وأمين الرافعي وشقيقه عبد الرحمن مالكًا جريدة الشعب، ثم الأخبار، وتلاهما توفيق دياب رئيس تحرير جريدة الجهاد، حتى المحامي الوفدي الكبير مكرم عبيد لم يسلم من هذا السيف إذ صدر ضده حكم بالسجن بعد نشره الكتاب الأسود، الذي اتهم أنه شَّهر فيه برفيقه السابق ورئيس وزراء مصر وزعيم الوفد مصطفى النحاس. وسُجن العشرات غيرهم ممن لاحقتهم تهم السب والقذف والتشهير وإثارة البلبلة والإخلال بالنظام العام.. إلخ.
في نهاية تسعينيات القرن الماضي عادت غواية حبس الصحفيين وأصحاب الرأي إستنادًا إلى مواد القوانين سيئة السمعة.
بعد ثورة 23 يوليو 1952، توقف تقريبًا استخدام سيف الحبس في قضايا نشر بناء على نصوص القوانين السالبة للحرية، ليس لأن النظام الجمهوري الجديد الذي تعهد بإقامة حياة ديمقراطية سليمة أعاد النظر في تلك التشريعات، بل لأنه كان يمارس عادة اعتقال أصحاب الرأي استنادًا إلى قرارت إدارية ليست لها علاقة بالمنظومة التشريعية.
في نهاية تسعينيات القرن الماضي عادت غواية حبس الصحفيين وأصحاب الرأي إستنادًا إلى مواد القوانين سيئة السمعة، التي وضعت قبل ثورة يوليو أو استحدثت بعدها، وأحيل إلى المحاكم عشرات الصحفيين بناء على دعاوى رُفعت من مؤسسات السلطة أو شخصيات عامة أو من مواطنين شرفاء.
برأت المحاكم بعض هؤلاء وقضى البعض الآخر العقوبة، ومنهم جمال فهمي الكاتب الصحفي بجريدة العربي الناصري ووكيل نقابة الصحفيين السابق، ومجدي أحمد حسين رئيس تحرير جريدة الشعب وصلاح بديوي وعصام حنفي الصحفيَّين بالجريدة نفسها، فيما صدرت في المرحلة نفسها أحكام بالحبس ضد عدد من رؤساء التحرير لكنها لم تنفذ.
استمرار المسلسل
استمر مسلسل الحبس دون توقف إلى أن طال الزملاء أحمد ناجي وهشام فؤاد وحسام مؤنس الذين صدرت ضدهم أحكام سالبة للحرية في قضايا نشر، وقضى آخرون شهورًا في السجن على ذمة التحقيقات دون إحالة للمحاكمة محبوسين احتياطيًا، وهو الإجراء الاحترازي الذي تحول لعقوبة نزلت على عشرات الصحفيين وأصحاب الرأي مثل خالد داود وعادل صبري وهشام جعفر، الذين اُتهموا بنشر أخبار كاذبة والإخلال بالنظام العام ومقتضيات الأمن القومي.. إلخ.
لم تكن الدساتير المصرية قبل ثورة 25 يناير تحظر الحبس في قضايا النشر والعلانية، لذا تراكمت مواد العقوبات السالبة للحرية في العديد من القوانين، تعاملت الحكومات مع مواد حبس الصحفيين في القوانين بانتقائية، تخرجها لمواجهة معارضيها في بعض المراحل وتحتفظ بها في الدرج فترات أخرى.
عزوف بعض الحكومات عن تحريك الدعاوى في كثير من الجرائم التي ترتكب عن طريق النشر، يدخل تحت بند "المنَّة"، وعلى الصحفيين أن يحمدوا أولياء النعم على فضلهم وتكرمهم، أما من يجحد الفضل ويتمادى في غيّه ويواصل نقده وهجومه، فتسلَّط عليه مواد الحبس وتلاحقه تهم السب والقذف والتشهير وتكدير النظام العام والتحريض والتحبيذ والإغراء والعيب والإهانة والإخلال بالمقام ونشر الأخبار الكاذبة، بل ونشر الأخبار الصحيحة المحظور نشرها.. إلخ.
الأساس أن تحترم الدولة الديمقراطية الدستور والقانون، وأن تضمن الحقوق العامة والواجبات العامة فلا تعاقب مواطنًا على ممارسة حق ولا تتهاون معه إذ أخل بواجباته أو أهدر حقوق غيره، وبالتالي فهي لا تعرف المنة والفضل ولا الترهيب والترغيب أو التعامل بالقطعة في مجال حرية الرأي والتعبير، وعليها أن تُعلي من شأن نصوصها الدستورية التي تحترم هذا الحق وتنقي منظومتها التشريعية من أي قوانين تقيد حق الصحافة في أن تكون عين المحكوم التي تراقب أداء السلطة العامة.
خلال المؤتمر الرابع للصحفين الذي عقد في فبراير/ شباط عام 2004، نقل الأستاذ جلال عارف وعدًا من الرئيس الأسبق حسني مبارك بإلغاء عقوبة الحبس في قضايا النشر، وهو المطلب الأساسي للجماعة الصحفية وأصحاب الرأي في مصر على مدار عقود.
وعد مبارك جرى التحايل عليه، وظلَّ سيف الحبس مسلطًا على رقبة كل صحفي حر أو صاحب رأي معارض.
"لن يحبس أي صحفي أو مواطن مصري بعد اليوم بسبب رأي منشور"، قال مبارك في رسالته أثناء الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الذي حضره صفوت الشريف أمين إعلام الحزب الوطني، مؤكدًا أن هذا القرار "خطوة على طريق الحرية والديمقراطية ستتبعها خطوات لتكون مصر نموذجًا للديمقراطية والحريات في المنطقة"، معلنًا رفضه لـ"أي تدخل يحد من استقلالية الصحافة أو يقيد حرية الرأي، حتى يكون الكاتب سيد قلمه بلا أدنى رقابة أو قيود".
وعد مبارك جرى التحايل عليه، وظلَّ سيف الحبس مسلطًا على رقبة كل صحفي حر أو صاحب رأي معارض، ولم يجد النقيب ومجلس النقابة طريقًا آخر إلا دعوة الجمعية العمومية للانعقاد في دورتها العادية فى مارس 2006، وعلى جدول أعمالها نقطتان، هما إلغاء الحبس فى قضايا النشر، وموضوع أجور الصحفيين.
ضغوط النقابة والرأي العام أسفرت عن تعديل قانون العقوبات وإلغاء مادة الحبس في مواد السب والقذف فقط، مع تغليظ العقوبة المالية، لكن المواد التي تقضي بالحبس في باقي جرائم النشر ظلت باقية في ذات القانون وقوانين أخرى قائمة منذ الاحتلال الإنجليزي، وغيرها من القوانين التي جرى استحداثها.
سقط مبارك فى 2011، وأقر المصريون بعده دستورين حظرًا صراحة الحبس في قضايا النشر والعلانية، الأول سقط بسقوط حكم الإخوان، أما الثاني وهو دستور 2014 ، الذي تضمن سبعة مواد تدعم حرية الرأي والتعبير واستقلال الصحافة والإعلام، وتحظر بشكل لا مواربة فيه الحبس في قضايا النشر وتضع أسس مرحلة جديدة للعمل الصحفي، فلم تفعَّل مواده ذات الصلة إلى الآن، وظلت مواد الحبس في قضايا النشر سارية ومسلطة على رقاب الصحفيين رغم مرور أكثر من ثماني سنوات على إقراره.
ماذا جرى؟ ولماذا تأجل إنفاذ النص الدستوري؟ وأين ذهب مشروع قانون إلغاء العقوبات السالبة للحرية في قضايا النشر؟ هذا هو موضوع المقال المقبل.