تصميم: يوسف أيمن- المنصة

هنا كولومبيا: صعود الكرة والكوكايين

منشور الاثنين 4 يوليو 2022 - آخر تحديث السبت 1 أكتوبر 2022

حتى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، كانت كولومبيا دولة فاشلة كرويًا، ولم يكن منتخبها ندًا لمنتخبات أمريكا اللاتينية، وجاءت مشاركته الوحيدة في نهائيات كأس العالم في تشيلي 1962، لكن تغير الحال تمامًا عندما تكلم المال، فدخلت استثمارات كبيرة للأندية ساعدتها على ضم النجوم والمديرين الفنيين رفيعي المستوى، فحدثت طفرة في الكرة. المشكلة هنا أن تلك الأموال كانت من تجارة المخدرات، التي اشتهرت بها كولومبيا حتى أنها سيطرت على 80% من الإنتاج العالمي من الكوكايين.

خلال تلك الفترة حدث ارتباط كبير بين الاتجار بالمخدرات وكرة القدم، عن طريق أشخاص يطلق عليهم الكارتلات، والكارتل هو تنظيم إجرامي يعمل في تجارة المخدرات.

مع نهاية السبعينيات كانت السيطرة علي صناعة الكوكايين وتوزيعه داخل كولومبيا في الولايات المتحدة حكرًا على عصابتين فقط، أولهما وأشهرهما مديلين كارتل بقيادة البارون الشهير بابلو إيميليو اسكوبا جافيريا، وهي واحدة من أقوى عصابات المخدرات وأكثرها دموية وعنف في كولومبيا والعالم، كذلك كالي كارتل بقيادة الأخوين ميجيل وجيلبيرتو رودريجيز أوريجويلا. وتطور الصراع بينهما على السوق إلى نزاعات مسلحة وحرب عصابات، ولم يكن يتصور أحد حينئذ أن تلك النزاعات ستمتد إلى كرة القدم.

في ذلك الوقت، عانت الأندية الكولومبية جراء الأزمة الاقتصادية، وكان من المستحيل أن تلتزم بدفع رواتب لاعبيها الأجانب، وهنا كانت الفرصة سانحة لأباطرة المخدرات، الذين وجدوا في تلك الأندية ضالتهم المنشودة لتكون واجهة لغسيل أموالهم القذرة، وكانت البداية باستثمار مجموعة من مهربي الماريجوانا في نادي سانتا مارتا، ولكن على استحياء، تلاه  مباشرة نادي انديبيندينتي دي مديلين الذي تناوبت علي ملكيته عدة كارتلات في سنوات قليلة، واستخدم كبديل للدين، فلم يحقق أي إنجاز يذكر.

أما النماذج الثلاثة الأنجح، فكان أولها استحواذ الأخوان رودريجيز من خلال كالي كارتل عام 1980 على أغلبية أسهم نادي طفولتهما أمريكا دي كالي، ما سمح لهما بالسيطرة على النادي حتى عام 1995، فدعما الفريق بالعديد من اللاعبين المميزين مثل الأرجنتيني الشهير ريكاردو جاريكا، والبارجوياني روبيرتو كاباناس، والعديد من اللاعبين المحليين المميزين، وكذلك تجديد الملعب والبنية التحتية، فتحول النادي إلى أحد أبرز المرشحين لتحقيق لقب كل بطولة ينافس عليها، حيث حقق ثماني بطولات محلية في ذلك الوقت، كما تأهل إلى نهائي كوبا لبيرتادوريس ثلاث مرات، وإن لم يحقق اللقب.

أما نادي ميليوناريوس في العاصمة بوجوتا، فكان مملوكًا لأحد تجار المخدارات، ويدعى هيرميس تامايو الذي سُجنَ وتوفي عام 1986، تاركًا مقاليد النادي في يد محاميه جييرمو جوميز، قبل أن يغتاله جونزالو رودريجيز جاتشا، أحد أعضاء مديلين كارتل ويستولي علي ملكية النادي. اتبع جاتشا نهج دعم النادي، ما مكّنه من تحقيق لقبين محليين خلال فترة قصيرة.

وأخيرًا كانت الحالة الأكثر شهرة ونجاحًا، حين صبت مديلين كارتل بقيادة بابلو إسكوبار اهتمامها علي فريقي المدينة، أتليتكو ناسيونال وإندبندينتي دي ميديلين وأصبح إسكوبار الممول والراعي لهما، غير أن اهتمامه بأتلتيكو ناسيونال كان له  نصيب الأسد، باعتباره الفريق المفضل لبابلو منذ طفولته.

استثمارات اسكوبار السخيّة تخطت أسوار النادي إلى إنشاء الملاعب في الأحياء الفقيرة، التي لا يزال بعضها شاخصًا بصورته الأولى حتي يومنا هذا، والبحث عن المواهب الواعدة لضمها إلى الفريق، ومنهم الحارس الشهير ريني هيجيتا، وكارلوس فالديراما، واسبريلا وأحد أفضل لاعبي ذلك الجيل فريدي رينكون.

https://www.youtube.com/watch?v=kFbH34tYHRs

لقطات لهيجيتا


صعود كرة القدم الكولومبية

مضخة الأموال ساهمت في وصول الأندية الكولومبية لمنصات التتويج فتمكن أتلتيكو ناسيونال في 1989 من الفوز بكوبا ليبرتادوريس محققًا البطولة القارية الأولى في تاريخ النادي والبلد بشكل عام، ليخرج بعددها فرانسيسكو ماتورانا مدرب ناسيونال والمنتخب الكولومبي فيما بعد معترفًا أن "أموال المخدرات بثت الحياة في كرة القدم الكولومبية من جديد".

وخلال عقد ذهبي استمر حتى أواخر التسعينيات تمكن مزارعو القهوة من الفوز بدستة ألقاب قارية، بما في ذلك كأس ليبرتادوريس وكوبا سود أمريكانا.

 بعد ذلك انتقل نجاح الأندية الكولومبية في المسابقات القارية إلى المنتخب الكولومبي، الذي وصل لنهائيات كأس العالم في ثلاث نسخ متتالية، ومر بواحدة من أزهى فتراته، حيث كان يضم العديد من المواهب أمثال هيجيتا، وفالديراما، وأندريس اسكوبار، وهيريرا، وذهبوا بعيدًا في التصفيات المؤهلة لمونديال 1994، حيث كان الفوز بخماسية نظيفة على الأرجنتين في ملعبها دليلًا قاطعًا على أن كولومبيا لن تكون لقمة سائغة للكبار.

الجانب المظلم لكرة القدم

لم تكن المسألة وردية تمامًا، بل تخضبت بالدم كثيرًا، وسط معاملات مشبوهة وعمليات الإرهاب والخطف والقتل والرشوة التي قام بها الكارتلز.

في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 1989، وعلى ملعب باسكوال جيريرو، معقل أمريكا دي كالي حيث كانت تجري مباراتهم ضد إنديبندينتي دي ميديلين، وكانت نتيجة المباراة تشير إلى تقدم كالي علي ميديلين 3-2، وقبل نهاية اللقاء بدقيقتين تمكن ميديلين من إدراك التعادل، ولكن الحكم الحكم ألفارو أورتيجا ألغى الهدف بحجة أنه جاء من لعبة خطرة، لتنتهي المباراة بفوز أمريكا دي كالي، وتنتهي بعدها بـ19 يومًا حياة الحكم بتسع رصاصات.

أصابع الاتهام وُجهت وقتئذ إلى الباترون سكوبار، حيث أثبتت تحقيقات الشرطة فيما بعد أنه من أمر شخصيًا بقتل الحكم، وكان الدافع خسارة أموال طائلة كانوا راهنوا بها علي فوز مديلين في مكاتب المراهنات.

بعدها بفترة اُختطف الحكم أرماندو بيريز، على يد مسلحين، وقبل أن يطلقوا سراحه أجبروه علي قراءة بيان جاء فيه أنه لا يمكن لفريقي سانتا ڤي، وأمريكا دي كالي، الفوز باللقب، وأن الحكم الذي سيطلق صافرة خاطئة سيُقتل.

تسببت حالة الإرهاب تلك في  هلع كبير للحكام، واستقال منهم كثيرون، واضطر الاتحاد الكولومبي لكرة القدم إلى اتخاذ إجراءات صارمة بدعم من الفيفا، فألغى المسابقة بعد بضعة أسابيع، وتركت دون بطل للمرة الأولى، كما قرر اتحاد أمريكا الجنوبية حظر مشاركة الأندية الكولومبية في البطولات القارية، باستثناء أتليتكو ناسيونال، باعتباره حامل اللقب، وتم حظر إقامة أي مباراة دولية في كولومبيا.

أن تدفع حياتك ثمنًا لهدف

واحدة من أكثر الحوادث دموية، كانت في 1994. وقتها وقعت كولومبيا مع الولايات المتحدة ورومانيا وسويسرا. وخسرت مباراتها الأولى 3-أمام رومانيا، ليتلقى المدرب فرانشيسكو ماتورانا تهديدًا "في الولايات المتحدة كنا نعيش في فندق، وخسرنا مباراة وظهرت التهديدات، حيث عليك إشراك هذا، وتضع الآخر على دكة البدلاء".

بل وصلت التهديدات "إذا لعب لاعب الوسط جابرييل باراباس جوميز (شقيق هيرنان داريو جوميز مساعده في الجهاز الفني آنذاك) ستكون هناك أعمال انتقامية ضد عائلته، هنا سنقتلهم جميعًا". لذا رضخ ماتورانا للتهديد " لا يمكنني تعريض حياة شخص آخر للخطر"  باراباس لم يلعب في المونديال مرة أخرى بفرمان من الكارتلز.بعد خسارة المباراة الأولى أمام رومانيا، والفوز علي سويسرا بثنائية.

كان لزاما علي الكولومبيين الفوز في المباراة الثالثة إذا أرادوا الزحف نحو دور الـ16، لكن الخصم كان الولايات المتحدة صاحبة الأرض. قبل المباراة بساعات تلقى ماتورانا مكالمة من مجهول يهددهم بقتله واللاعبين إذا لم يفوزوا بالمباراة.

هدف أندريس اسكوبار العكسي


لسوء الحظ سجل أندريس إسكوبار هدفًا في مرمى فريقه، لتخسر كولومبيا المباراة ويخسر إثرها اللاعب حياته، حيث اغتيل اسكوبار في مديلين، بستة رصاصات، وكان الجناة يصيحون مع كل طلقة "جول"، وهم من رجال مديلين كارتل، بحسب تقارير الشرطة الفيدرالية.

نهاية كرة القدم المخدّرة

 في ديسمبر/ كانون الأول 1993، وقع بابلو اسكوبار في كمين محكم، نصبته له الشرطة الكولومبية بالتعاون مع عناصر من الاستخبارات الامريكية بأحد الأحياء الشعبية في مديلين، ودارات معركة بالأسلحة النارية قُتل فيها اسكوبار برصاصة في الرأس أثناء محاولته الهروب عبر سطح أحد المنازل، ودُفن ملفوفًا بعلم أتليتكو ناسيونال في جنازة شعبية.

في تلك الفترة وبعد سقوط إمبراطورية اسكوبار وجدت إدارة أتليتكو ناسيونال نفسها في ورطة كبيرة، فلم يكن هناك من يدفع الرواتب المرتفعة التي تم الاتفاق عليها في عقود اللاعبين، ودخل النادي في أزمة، إلى أن قامت بتمكين مالك جديد من النادي كأحد إجراءات القضاء على الكارتلز.

مقتل اسكوبار كان له تأثير الدومينو، حيث انهارت من بعده إمبراطوريات الكارتلز الواحدة تلو الأخرى، وأعلنت الدولة الحرب على قادة الكارتلز عام 1995 حيث كانت البداية بالقبض علي جلبيرتو رودريجيز بعد مداهمة مخبأ سري كان يختبئ فيه بمدينة كالي بعد العديد من المحاولات التي بائت بالفشل للقبض عليه، وحكم عليه بالسجن لمدة 15 سنة، غير أنه أُفرج عنه لفترة قصيرة عام 2002، قبل أن يقبض عليه مجددًا عام 2003 ويسلّم إلى أمريكا.

كذلك قُبض على أخيه ميجيل في حجرة سرية في حمام منزله، وقضي مع أخيه عقوبة 30 سنة في سجون الولايات المتحدة.

أما جونزالو جاتشا فمات بعد مقتل ابنه علي يد الشرطة الكولومبية، وبذلك تخلصت كولومبيا من أباطرة المخدرات الذين عاثوا في الأرض فسادًا، وبعدها دخلت كرة القدم الكولومبية في نفق مظلم، إلى أن تمكنت في العقد الماضي فقط من التعافي والعودة إلى أعلى مستوياتها، من خلال ظهور رائع في مونديال البرازيل 2014، كذلك عاد أتليتكو ناسيونال إلى منصات التتويج القارية بتحقيق كوبا ليبرتادوريس 2016، وكذلك كوبا سود أمريكانا مناصفة مع فريق شابيكوينسي البرازيلي، بعد تحطم طائرة الأخير في الحادثة الشهيرة عام 2017.