وأنا في سن صغيرة كنت أظن أن الكذب مرتبط على نحو ما بالخوف؛ يعني اللي بيكذب ده شخص خايف، من أهله أو من شيوخه، أو من أساتذته.. ثم بعد ذلك أَضَفْت سببًا آخر للكذب، وهو الخيال، من أبسط خيال لأبعد وأقصى خيال ممكن. ثمة حكمة قديمة تقول: "إن أعذب الشعر أكذبه"، أي أكثره خيالًا. ومعظم من يشتهرون بأنهم رواة حكايات ذوو خيال ما بعده خيال، شوف وصف أبو زيد الهلالي والزير سالم وحمزة البهلوان، طبعًا مش قصدي إنهم شخصيات حقيقية والخيال زوّد عليهم، لأ حتى باعتبارهم شخصيات خيالية والخيال زوّد - عبر العديد من الأجيال - فوق الخيال خيال.
وحتى في سيرة الأنبياء والرسل التي لا تعدم مثل هذه الزيادات، وحكايات الأمهات والجدات التي تستخدم خوف الأطفال وتختلق شخصيات من صنع الخيال، زي أمنا الغولة وأبو رجل مسلوخة. ثم بعد ذلك ومع تعقيدات الحياة، أضَفْت، أو تعلمت أن الكذب قد يكون بغرض الخداع، بالتأكيد ليس خداع الذات، لكن خداع الآخرين. وفي "أحلام اليقظة للمتجول الوحيد" يضيف جان جاك روسو، للدوافع التي ذكرتها وهي: الخوف والخيال والخداع، التدليس والافتراء وهذا أسوأها جميعا.
في أبريل 1997 ألقى جاك دريدا محاضرة في الكوليج الدولي للفلسفة، وكانت تلك المحاضرة هي صياغة مختصرة لمجموعة الدروس التي ألقاها من قبل على طلبته خلال الموسم الجامعي 1994-1995 بمدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية بباريس، وكانت بعنوان "مسائل المسؤولية IV. الشهود"، والتي ترجمها رشيد بازي في كتاب بعنوان "تاريخ الكذب". يطرح دريدا في المحاضرة تساؤلًا ممتدًا عن إمكانية كتابة ودراسة تاريخ خاص بالكذب. ثمة ضرورة للتمييز بين تاريخ الكذب كمفهوم و بين تاريخه في حد ذاته. فحتى تعريف الكذب له تاريخ، أو قل عدة تعاريف، ومن ثم ووفقًا لكل تعريف وحضارة وثقافة وتاريخ زمني، يتغير مفهوم الكذب، ويتداخل مع مفاهيم أخرى، وهذه إشكالية يتناولها الكتاب بمتعة وبساطة.
يقول كانط مثلًا إن الكذب، في التحليل الأخير، هو الحنث بالوعد؛ الوعد بغرض توجيه السلوك: "أنا هجيبلك هدية كبيرة لو نجحت" مثلًا، وبعدين تنجح إنت وأنا أقولّك "مفيش هدية". هنا توجد علاقة عضوية بين مفهوم الكذب ومفهوم الحنث بالوعد، وغيره أيضًا من المفاهيم التي يشرحها دريدا بالتفصيل.
يفرّق دريدا بصرامة بين الكذب والخطأ، "فالكذب لا يعني على العموم الخطأ والغلط، فبإمكاننا أن نخطئ أو نغلط دون أن نكون قد كذبنا". إن نقيض الكذب ليس هو الحقيقة، بل الصدق، كيف ذلك؟ يرى القديس أوغسطين أنه يمكن أن نقول قولًا خاطئًا دون أن نُعتبر كاذبين، وذلك لو كنا نعتقد، بحسن نية وبدون رغبة في خداع الآخرين، أننا صادقين. بل ويذهب إلى أننا قد نقول قولًا صحيحا لكننا نعتبر كاذبين لو كان القصد هو خداع الآخرين. وبالتالي فالكذب يترتب في تعريفه –وفقا لرسالة القديس أوغسطين والتي كانت بعنوان"في الكذب"- على القصدية. هذا التعريف يستبعد إمكانية أن يكذب الإنسان على نفسه أو أن يرتكب خطأ في حق نفسه. ثمة حالة واحدة يمكن أن يكذب فيها الإنسان على نفسه. ولكن لنعرّف أولا الكذب.
إن التعريف "التقليدي" للكذب والذي يقدمه دريدا في البداية، يذهب إلى أنه فعل مقصود؛ وبالتالي بدلًا من الحديث عن الكذب يجب الحديث عن "فعل الكذب"؛ الكذب يعني أننا نتوجه بالكلام للآخرين لكي نُسمِعهُم مجموعة من الادعاءات، ونعرف بوعي بيّن أنها ادعاءات خاطئة جزئيًا أو كليًا. القصد والوعي بعملية الخداع هو العنصر الجوهري في تحديد الكذب، وليس محتوى ما قيل. بالعودة لأوغسطين "نحن لا نكذب عندما نزعم أشياء خاطئة نعتقد أنها صحيحة. ونكون كاذبين عندما نزعم أشياء صحيحة، نعتقد أنها خاطئة. وذلك لأنه لا يمكن الحكم على مدى مطابقة الأفعال للأخلاق إلا من خلال المقاصد". لكن هل يمكن أن يخدع الإنسان نفسه بقصد ووعي للإضرار بها؟ نعم يحدث في حال فصلها واعتبارها بمثابة شخص آخر.
ورغم هذا المدخل والمقاربات الممتدة لتعريف الكذب على امتداد الكتاب، فإن دريدا يقول بصعوبة أو باستحالة الوصول لتعريف للكذب؛ فرغم السهولة الظاهرية للتعريفات السابقة، وحتى اللاحقة؛ فإن الاستحالة تأتي من أن العوامل المحيطة والمساهمة في تحديد مفهوم أو فعل الكذب قد تتكاثر إلى ما لا نهاية، فالتطرق إلى جوهر الإرادة والقصدية والوعي القصدي سوف يكون بمثابة الدخول في متاهة قد تجعلنا نضل طريقنا في أية لحظة. ويذكر دريدا قول مونتاني "لو كان للكذب، كما هو الشأن بالنسبة إلى الحقيقة، وجه واحد لكانت العلاقات بيننا أحسن مما هي عليه، فيكفي أن نحمل على محمل صدق نقيض ما ينطق به الكاذب منا، إلا أن نقيض الحقيقة له مائة ألف وجه ولا يمكن الإلمام كليا بالحقل الذي يشغله".
يطرح دريدا بعد ذلك أسئلة مثل، هل يجب اعتبار الابتسامات المتكلفة من باب حسن اللياقة على إنها أكاذيب؟ هل الأدبيات التي تتحدث عن هزة الجماع المفتعلة (fake orgasm) أدبيات كاذبة؟ ثم ينتقل إلى مناقشة الكذب في مجال السياسة، فالسياسة - كما تشير حنا آرندت في أكثر من مناسبة، خصوصا دراستها: "السياسة والحقيقة" - تعتبر مجالًا خصبًا للكذب. ولا يكتفي دريدا بمناقشة الكذب في مجال السياسة لكنه أيضا يناقش هذ الكذب من خلال نقد مفهوم "الكذب المطلق" الذي تتحدث عنه آرندت في كتاباتها، باعتباره مفهوم مهدد بأن يكون بمثابة الوجه الآخر للمعرفة المطلقة. ويربط دريدا بين دراسات آرندت وبين دراسة ألكسندر كواري عن الاستعمال المنهجي للكذب من قبل الأنظمة الشمولية.
يختم دريدا دراسته بأن "تاريخ الكذب لا يمكن له أن يتحول إلى موضوع نظري بإمكان المعرفة الإلمام به. بالطبع إنه موضوع يستدعي المعرفة، أقصى ما يمكن من المعرفة، إلا أنه - مع ذلك - يبقى مغايرًا بنيويًا لها؛ وبالتالي فإن كل ما يمكننا الحديث عنه، هو الشكل الذي قد يتخذه أو يجب أن يتخذه، ما وراء المعرفة، تاريخ الكذب، هذا في حالة إذا كان وجوده ممكنًا".
***
كتاب: تاريخ الكذب
تأليف: جاك دريدا
ترجمة: رشيد بازي
دار النشر: المركز الثقافي العربي (2016)