تصميم: يوسف أيمن- المنصة

"الحوار الوطني" وقوانين "تكبيل الصحافة"

منشور الاثنين 20 يونيو 2022

 

الأصل أن تعمل البرلمانات المنتخبة التي تمثل الشعب تمثيلًا حقيقيًا على إصدار تشريعات تنظم وتسهل العمل الصحفي، وتحصن الصحفيين أثناء تأدية دورهم في إخبار الناس بما يدور ويجري في دهاليز وكواليس مؤسسات السلطة.

في الدول التي ترسخت فيها الديمقراطية، تتشارك المجالس النيابية والصحافة في الرقابة على السلطة نيابة عن الشعب، يُكلّف الناخبون ممثليهم في البرلمانات لأداء تلك المهمة، أما الصحفيون فيمارسون هذا الدور بحكم نصوص الدساتير والقوانين والمواثيق والعهود الدولية وعقود ثقة غير مكتوبة بينهم وبين مجتمعاتهم.

شرعنة القيود

في البلدان التي لم تعرف للديمقراطية طريقًا بعد، يتحول هذا الأصل إلى استثناء، فتعمل البرلمانات على تفصيل وتمرير قوانين تخدم السلطة وتشرعن لها ممارسات خنق وتقييد الصحافة وحصار حرية الرأي والتعبير، وتُسهل من عملية ملاحقة وكتم أصوات الصحفيين الذين لا يلتزمون بالسقف الذي تحدده أجهزتها.

باختصار يُقنن "نواب السلطة" عملية السيطرة والتحكم، التي تحد من ممارسة منصات الإعلام من دورها الحقيقي في الرقابة على مؤسسات الدولة نيابة عن المواطن.

أنظمة تلك الدول تتعامل مع حرية الصحافة واستقلالها باعتبارها ترفًا، وترى أن حق المواطن في الحصول على المعلومة والتحليل والرأي المخالف حق مؤجل، وتعتقد أن التنوع والتعدد والنقد وتداول الأفكار إما جزء من مؤامرة كونية تُحاك ضد الدولة، أو أن أصحاب هذه الأفكار والمبادئ حسنوا النية، من حيث لا يدرون يعملون على خلخلة الاستقرار وإثارة البلبلة وفتح الباب أمام تربص وشماتة "أعداء الوطن".

لا تخشى تلك الحكومات على الأوطان واستقرارها بقدر خشيتها على بقائها واستمرارها، فالمواطن الذي يعرف ويعلم هو مصدر قلق دائم، كلما تكشفت أمامه الحقائق والمعلومات والرؤى المختلفة، رفع من سقف مطالبه وتمسك أكثر بحقوقه الدستورية، لذا فمن الأفضل أن يتم تغييبه وتأميم حقه في المعرفة وإخراجه من المعادلة، ليس بالممارسات فقط بل بقوانين تُعد في المطابخ البرلمانية.

منذ أن عرفت مصر الصحافة قبل قرن ونصف تقريبًا، ومعظم القوانين ذات الصلة بالعمل الصحفي، صدرت لتُكبّل الصحف وتفرض القيود على الصحفيين، بدء من قانون المطبوعات الذي أصدرته حكومة شريف باشا عام 1881، ليجيز للحكومة "حجز وضبط جميع الرسومات والنقوشات والمطبوعات مهما كان نوعها متى وضح أنها مغايرة للنظام العمومي أو الدين"، وصولًا إلى قانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم 180 لعام 2018، الذي من المفارقات أن تتضمن مواده مفردات وتعبيرات تُستدعى من قانون المطبوعات الذي صيغ وصدر قبل نحو قرن ونصف، مرورًا بقانون تأميم الصحافة رقم 156 لسنة 1960، الذي آلت بموجبه ملكية الصحف إلى الاتحاد القومي ثم إلى الاتحاد الاشتراكي.

من المفارقات أيضًا، أن كل تلك التشريعات المقيِّدة للعمل الصحفي صدرت في ظل نصوص دستورية صريحة وواضحة، تُلزم الدولة بضمان استقلال وحرية الصحافة، وتحظر الرقابة على وسائل الإعلام إلا في حالتي الحرب والتعبئة العامة، وتُحصن الصحفيين وأصحاب الرأي من الملاحقة والحبس في قضايا النشر والعلانية، وتسهل ترخيص وإصدار الصحف والقنوات والمواقع.. إلخ.

آخر حلقة من حلقات مسلسل قوانين تقييد الصحافة، هو قانون تنظيم الإعلام رقم 180 لعام 2018، الذي أشرنا إليه. نصوص القانون ومواد لائحته التنفيذية ولائحة جزاءته شرعنت عمليات الحجب والمنع التي كانت تمارس في السنوات السابقة خارج نطاق القانون، ونقلت سلطات الرقيب الاستثنائي إلى المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، ليمارس دوره في حصار الصحافة استنادًا إلى قاعدة قانونية.

مواد القانون السيئ الذكر تصطدم بنصوص الدستور، وبمواد الاتفاقيات الدولية المعنية بالحقوق المدنية والسياسية التي وقعت عليها مصر، وبأحكام المحكمة الدستورية العليا التي أكدت أن "حرية التعبير وتفاعل الآراء التي تتولد عنها لا يجوز تقييدها بأغلال تعوق ممارستها".

"اعتبارات الأمن القومي"

المادتان 4 و5 من القانون كفلتا للمجلس الأعلى ولـ"الاعتبارت التي يقتضيها الأمن القومي" أن يمنع صحفًا أو موادَ إعلامية من التداول، بدعوى أنها تتعرض للأديان والمذاهب أو تكدر السلم العام أو تمارس نشاطًا معاديًا لمبادئ الديمقراطية أو تحرض على الإباحية... إلخ.

ومنح القانون في المادة 19 للمجلس ذات الصلاحيات على "المواقع والمدونات والحسابات الشخصية متى بلغ عدد متابعيها خمسة آلاف متابع أو أكثر، وله في سبيل ذلك أن يوقف أو يحجب الموقع أو المدونة أو الحساب المشار إليه بقرار منه"، وهو ما يعني مد سلطة "المجلس الأعلى" إلى مساحات التنفيس الاجتماعي ليظل رقاب أصحاب الرأي تحت سيف وسطوة الرقيب.

أما المادة 12 فضربت أسس وقواعد مهنة الصحافة في مقتل، إذ فرضت على الصحفي الذي يمارس مهام وظيفته في تغطية أي فعالية، الحصول على تصريح قبل القيام بتلك المهمة، وهنا أصبح وجود الصحفي بصفته المهنية في محل أي حدث دون تصريح مسبق مخالف للقانون وجريمة تستوجب الملاحقة والمساءلة والعقاب.

في نهاية 2019، تم مصادرة إحدى أعداد جريدة الأهالي، لسان حال حزب التجمع، وأصدرت مؤسسة حرية الفكر والتعبير ورقة موقف تُحلل فيها واقعة المصادرة، وأشارت الورقة إلى أن قانون تنظيم الإعلام يتعارض مع نصوص الدستور، "على الرغم من أن الدستور المصري أعطى الصحافة بأنواعها المختلفة حرية مطلقة، إذ يحظر بأي وجه فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها، ويجوز استثناء فرض رقابة محددة عليها في زمن الحرب أو التعبئة العامة، لكن القانون 180 لسنة 2018 وضع قيودًا مكبِّلة لحرية الصحافة في مخالفةٍ ﻷحكام الدستور".

ورقة مؤسسة حرية الفكر والتعبير ذهبت إلى أن القانون المذكور توسّع في منح المجلس الأعلى للإعلام صلاحيات الحجب والمنع والمصادرة للصحف والوسائل الإعلامية المصرية، وفقًا لـ"معايير فضفاضة قابلة للتأويل مثل اﻵداب العامة والنظام العام واﻷمن القومي".

وأشارت الورقة إلى نص المادة الرابعة من الباب اﻷول في القانون التي نصت على أنه "يُحظر على المؤسسة الصحفية والوسيلة الإعلامية والموقع الإلكتروني نشر أو بث أي مادة أو إعلان يتعارض محتواه مع أحكام الدستور، أو تدعو إلى مخالفة القانون، أو تخالف الالتزامات الواردة في ميثاق الشرف المهني، أو تخالف النظام العام والآداب العامة، أو يحض على التمييز أو العنف أو العنصرية أو الكراهية. وللمجلس الأعلى، للاعتبارات التي يقتضيها الأمن القومي، أن يمنع مطبوعات، أو صحفًا، أو مواد إعلامية أو إعلانية، صدرت أو جرى بثها من الخارج، من الدخول إلى مصر أو التداول أو العرض".

ودللت الورقة بذكرها لتلك المادة على أن القانون "أطاح بالحرية الممنوحة للصحافة وفقًا للدستور، ونصَّب من المجلس اﻷعلى للإعلام رقيبًا على الصحف يتدخل بالقص والحذف والتعديل والمنع والمصادرة إذا تراءى له ذلك".

لائحة جزاءات القانون 180 لسنة 2018، التي صدرت في 2019، عمقت من أزمة الصحافة وحريتها، إذ توسعت في الإجراءات العقابية التي تستهدف الصحف والصحفيين بالملاحقة والغرامات المالية الباهظة، ومنحت المجلس الأعلى للإعلام سلطة العقاب التأديبي إلى جانب سلطة الرقابة التي حصل عليها بموجب القانون، رغم أن المادة 211 من الدستور حملته مسؤولية ضمان حرية واستقلال الصحافة وحماية تعددها وتنوعها.

أعطت المادة 5 من تلك اللائحة المجلس الأعلى الإعلام الحق في "منع نشر المادّة الإعلاميّة في حالة مخالفتها للقانون واللوائح"، ومنحت له المادة 6 الحقّ في "حجب الموقع الإلكترونيّ وسحب تراخيص مزاولة البثّ الفضائيّ من الوسيلة الإعلاميّة في حالة بثّ مادّة إعلاميّة سبق وأقرّ المجلس منعها"، إضافة إلى غرامات تصل إلى 250 ألف جنيه حال المخالفات الإعلاميّة، و5 ملايين جنيه إذا تمّ الاعتداء على حقوق الملكيّة الفكريّة، وفق المادّة 26 من اللائحة.

الأسوأ أن اللائحة منحت رئيس المجلس الحق في توقيع الجزاءات والتدابير، في حالات "الضرورة والاستعجال ومقتضيات الأمن القومي، على أن تعرض على أعضاء المجلس خلال 15 يومًا لتقرير استمرارها أو إلغائها"، وهي صلاحيات لم تُمنح لأي مسؤول عن مجالس تنظيم العمل الصحفي من قبل في مصر اللهم إدارة الرقابة على المطبوعات التابعة لوزارة الداخلية في زمن الاحتلال الإنجليزي.


اقرأ أيضًا| الحوار الوطني: حتى لا يظل الاستبداد جاثمًا فوق الصدور

 

صورة تندد بالقيود على الصحافة: أحمد محمد- فليكر. برخصة المشاع الإبداعي

لا يمكن لأي دولة أن تحقق استقرارًا سياسيًا أو نموًا اقتصاديًا بدون صحافة حرة تتدفق فيها المعلومات إلى الجمهور من دون قيود أو رقابة، وإذا أرادت دولة ما أن تحقق نقلة نوعية في أي ملف من الملفات، فعليها احترام مبادئ المكاشفة والشفافية والمحاسبة، وإخضاع مؤسسات الحكومة بالقانون إلى رقابة الصحافة باعتبارها عين المواطن التي تتتبع وتساءل وتحاسب عنه المسؤولين، ولن يحدث ذلك في ظل وجود مناخ ضاغط وبنية تشريعية ترسخ حصار وتقييد وحجب منصات الإعلام.

عن "الحوار الوطني"

خلال الأسبوع الأول من يوليو/ تموز ستنطلق أولى جلسات الحوار الوطني الذي دعا إليه الرئيس عبد الفتاح السيسي، وفق بيان صدر قبل أيام عن الأكاديمية الوطنية للتدريب التي عُهد إليها بتنظيم وتنسيق فعاليات الحوار.

نقيب الصحفيين ضياء رشوان الذي تم التوافق عليه كمنسق للحوار الوطني، عرض في إحدى حلقات برنامجه التلفزيوني قبل أيام قائمة مرتبة بالمحاور التي من المفترض أن تطرح للمناقشة في الحوار المرتقب، التي اقترحتها أحزاب وقوى وشخصيات، وجاء على رأس تلك القائمة المحور السياسي وتلاه الاقتصادي ثم التعليمي فالإعلامي.. إلخ.

السياسة والإعلام، متلازمان، فلا سياسة بدون صحافة تنقل قرارات وتوجهات القائمين على العمل العام، وتعرض وجهات النظر والبرامج والرؤى المتفاعلة معها، وتقيس ردود فعل الجماهير على كل ذلك، ما يمنح صانع القرار خيارات متعددة ومتنوعة، ويرفع من وعي المواطن ويساعده على اختيار الأصلح في الاستحقاقات الانتخابية التالية.

وكما يحتاج قانون تنظيم الصحافة والإعلام الصادر عام 2018، لإعادة نظر حتى تتناسب مواده مع نصوص الدستور، تحتاج مصر إلى إعادة النظر في ترسانة القوانين المكبلة للحريات، التي تتصادم مع الدستور والعهود والمواثيق الدولية التي وقعنا عليها قبل عقود، كي نبدأ طريق بناء الدولة الديمقراطية المدنية الحديثة.

وسنتتبع في مقالات لاحقة عددًا من التشريعات التي يجب أن تطرح للنقاش العام تمهيدًا لتعديلها، والمتعلقة بحبس الصحفيين وتقييد حقهم في ممارسة مهام عملهم.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.