كان تاريخ مفهوم السعادة بمنزلة بحث عن شيء لا يمكن الحصول عليه. وفي ظني أن المشكلة ليست في التفكير في السعادة بعيدًا عن الأهداف التي تكون لدينا، لكن في أن تكون تلك الأهداف هي نفسها بعيدة عن قدراتنا وما نملكه، أو في التفكير في هذه الأهداف، حتى، دون عمل وجهد وإخلاص.
في إحدى الليالي البعيدة والصعبة، كنت أسير وحدي في شارع عماد الدين، عندما تكون الضغوط كبيرة أحاول أن أكسر الروتين المعتاد؛ أمشي مثلًا من وسط البلد حتى رمسيس، أضع السماعات في أذني وأسمع مزيكا وأنا ماشي. وفي أحد الأيام التي قررت فيها المشي، وجدت في الطريق "يافطة" على إحدى العمارات لبنسيون اسمه "بنسيون السعادة". دفعني الفضول والرغبة في المغامرة وكسر الروتين، وأيضًا الرغبة في تخفيف الأحمال زي بتوع شركة الكهرباء، إلى دخوله.
صعدت وسألت الرجل العجوز الذي وجدته، والذي بدا من هيئته أنه مات مرتين قبل كدا: "بكام الليلة هنا يا حاج؟"
أشار لي بيديه إشارة معناها أنه لا يسمع جيدا. قلت في عقلي ياسلام ولا كأننا في الأفلام بتاعة زمان بالظبط والله.. سألته مرة أخرى بصوت مرتفع فأجاب الرجل: "بكذا بس لازم تكون من خارج القاهرة، هذه هي تعليمات الداخلية".
"أنا أصلًا مش عايز أنزل عندك يا حاج والله وكتَر خير الداخلية".
ترددت لفترة ثم سألته مرة أخرى: "طب يا حاج ممكن أعرف هي إيه السعادة اللي في البنسيون هنا؟" بسبب التردد كان صوتي متوسطًا، لا منخفضًا ولا مرتفعًا. ولعل الرجل العجوز سمع وتعجب من السؤال ورفض تضييع وقته في الإجابة، هو لم يحرك يديه بإشارة عدم السمع، فسألته مرة أخرى بهزار وبصوت منخفض: "طب عندكم نسوان؟"
في أكتوبر/تشرين الأول عام 2013 نشرت سلسلة عالم المعرفة كتابًا بعنوان "السعادة موجز تاريخى". تذكرت البنسيون والرجل العجوز وتخفيف الأحمال، وشركة الكهرباء، ومونولوج "السعادة" لإسماعيل ياسين. فكرت في سؤال ما هى السعادة، وكيف تكون محل دراسة وهى تختلف من شخص لآخر ومن وقت لآخر. فالذى يسعدنا الآن قد لا يسعدنا غدا، ولله فى خلقه شئون. الكتابة عن معنى غير ثابت ومتغير باستمرار هى مغامرة، فماذا لو كان تأملًا من الناحية الفلسفية كما يفعل هذا الكتاب، لنكتشف هذا الأمر.
كان أرسطو يعتقد أن السعادة هى "الخير البشرى" وأن كل شخص يهدف إلى تلك السعادة من أجل مصلحته هو، وهو فقط، وكان يرى أن السعادة في فضيلة التأمل العقلي التي هي أكمل فضائل النفس الإنسانية. الكتاب يقدم عرضًا تاريخيًا، وبقدر لا بأس به من التشويق، لنظريات ومعنى السعادة منذ أرسطو وأفلاطون حتى العصر الحديث. هناك الكثير من الاختلافات في آراء الفلاسفة عن السعادة: هل السعادة تكون في اللذة؟ أم في الانسجام بين أهدافنا ورغباتنا؟ أم، كما يذهب الرواقيون، توجد السعادة في حالة السكينة الروحية؟ ويحاول الكتاب أن يثير، إلى جانب العرض التاريخي، بعض الأسئلة تجاه القناعات الراسخة لدينا حول السعادة.. فمن خلال استعراض الآراء عن معنى السعادة نجد أن هناك من الفلاسفة من كان يسأل، هل السعادة غاية بذاتها؟
فى مونولوج طويل كان الدكتور فاوست يندب حاله، فهو الذى تعلم ودرس الفلسفة والطب والقانون واللاهوت، وهو الأبرع من كل الأدعياء، والدكاترة والأساتذة والكتاب والكهان، ومع ذلك ليس لديه لقب تشريف وتبجيل، ولا أموال، ولا حبيبة. وينادي في الليل على البدر الساطع: "يا ليتك تشاهد عذابي لآخر مرة. كم مرة سهرت على هذا المكتب حتى منتصف الليل، فتجليت لي، أيها الصديق الحزين، وألقيت ضياءك على كتبي وأوراقي! آه! ليتنى كنت أستطيع أن أسير في ضوئك الحبيب فوق دورة الجبل، وأن أتخلص من كل عذابات المعرفة، وأن أستحم في نداك وأنا سليم معافى!".. وبقية الحكاية معروفة، فقد أسلم فاوست نفسه للسحر وللشيطان. وهناك أشخاص مثل فاوست، لكنهم يسلمون أنفسهم للحزن؛ لأنهم لا يجدون السعادة.
إن السعادة التى يفتقدها البعض، كما يقول نيتشه، أقرب إلى أن تكون عقارًا طبيا مهدئًا وطريقة فى التفكير.. كأنها إجازة يوم السبت، إذا استخدمنا فصاحة القديس أوغسطين. إن التوتر يظهر حين تتجاوز أحلامنا لموهبتنا. وحتى هذا التوتر لا ينبغي أن يدفعك للحزن، بل للفهم وإعادة المحاولة.
ثمة فصل في الكتاب يتناول التضارب الذي قد يحدث بين السعادة والواجب أو الأخلاق، إن كانط يرى أن "السعادة" ليست مفهومًا متماسكًا، وبالتالي ينبغي أن تكون التقييمات العقلانية مرتبطة بالسمات الأخلاقية.. وبعيدا عن فكرة كانط الحادة تلك، فإننا فعلا ينبغي أن نقف أمام المخاطر المحتملة للشمولية التامة لمفهوم السعادة كبُعد واحد للتقييم. على كل حال يبدو كانط أخف حدة من نيتشه الذى كان يزدري أحيانًا أن يجعل المرء هدفه من الحياة هو السعادة وفقط.
يقول محمود درويش: "لا أشياءَ أملكُها لتملكني"، شخصيًا يجعلنى هذا البيت أشعر بالرضا دائمًا. إن السعادة هى مفهومنا عنها، وبالتالى ينتج الحزن أيضا كمفهوم، كما يقول نيتشه. لأ أقصد أن كل الأمور على ما يرام في هذه الحياة، لكني أقصد التعاطي مع الأمور بصبر ورضا وأمل، ومقاومة اليأس والحزن "لست مهزومًا ما دمت تقاوم". يكمل فاوست الحديث: "ومع ذلك لا تزال تسائل نفسك لماذا يخفق قلبك فى صدرك بالضيق والقلق، ولماذا يعترض ألم غامض كل نشاط لك فى الحياة؟ ذلك أنك بدلا من الطبيعة البسيطة التى خلق الله الناس عليها، أحطت نفسك بين الدخان والعفن، بهياكل وعظام الموتى. اهرب! اهرب! إلى الأرض الواسعة!". غير أن فاوست لم يهرب بل تورط أكثر فى البحث عن ذلك الوهم المخدر الذى كان يظن أنه "السعادة". فى النهاية يقول مؤلف كتاب "السعادة موجز تاريخى إن المشكلة تكمن في أننا "ننشئ تصورًا عما تكون عليه السعادة بمنأى عن الأهداف التي تكون لدينا". ومن ثم فإن تاريخ مفهوم السعادة كان بمنزلة بحث عن شيء لا يمكن الحصول عليه. وفي ظني أن المشكلة ليست في التفكير في السعادة بعيدًا عن الأهداف التي تكون لدينا كما يختم المؤلف، لكن في أن تكون تلك الأهداف هي نفسها بعيدة عن قدراتنا وما نملكه، أو في التفكير في هذه الأهداف، حتى، دون عمل وجهد وإخلاص.
في كتاب "مع أبي العلاء في سجنه" يقول لنا الدكتور طه حسين إن محنة وشقاء أبي العلاء كانت في التناقض بين قوة عقله الجبارة وقدرته المحدودة على الفعل، "أظن أن العلة الحقيقية التي شقي بها أبو العلاء خمسين عامًا إنما هي الكبرياء. الكبرياء التي دفعته إلى محاولة ما لا يطيق وإلى الطمع فيما لا مطمع منه، وإلى الطموح إلى ما لا مطمح إليه. أسرف أبو العلاء في الإيمان بعقله.. ولو قد عرف أبو العلاء لعقله حده ووقف به عند طاقته كما عرف لجسمه حده وكما وقف بجسمه عند طاقته، لجُنِّبَ من هذه المحنة شرًا كثيرًا، ولاستراح من عذاب أليم.. لو فعل هذا لاستراح وأراح".
شخصيًا، بالإضافة لما سبق، ومع الزمن والتجارب والحياة والقراءة والسياسة والليالي الصعبة والأيام المُجهدة، تعلمت وأتعلم أن السعادة أو الرضا وعدم الضجر، كلها معان تأتي أولًا من داخلنا. وتعلمت وأتعلم ألا أبحث عن السعادة باعتبارها غاية بحد ذاتها. وتعلمت وأتعلم من المحنة العلائية الحقيقية، ومحنة فاوست الخيالية، وما ينتجه دائمًا التناقض والتفاوت بين العقل والعمل، بين الفكر والفعل، وأنه لا معنى هنا وفي هذا السياق، للطمع فيما لا مطمع منه ولا إلى الطموح إلى ما لا مطمح إليه.
***
كتاب: السعادة.. موجز تاريخي
تأليف: نيكوﻻس وايت
ترجمة: سعيد توفيق
دار النشر: عالم المعرفة (2013)