قضيت فترة طويلة من العزلة الإجبارية، لا تعامل فيها سوى مع فئات محدودة وأشخاص معدودين، نكرر أنماطًا من السلوكيات اليومية في أجواء منفصلة تمامًا عمّا خارجها. لا، لم أسكن البحر، ولم أهاجر إلى جزر سليمان، ولم أعتكف تصوفًا في مرتفعات التبت، كل ما في الأمر أنني عايشت تجربة السجن لثلاثة أعوام ونصف بسبب عملي الصحفي، قبل أن يُفرج عنّي في شهر يوليو/ تموز 2021.
هذا رمضان الأول لي خارج الزنزانة. قاربت على قضاء عام كامل في الحرية، لا أدري كيف مرت هذه الأيام، ما أشعر به حقيقة أني حبيس الأمس.
لم أحاول إلى الآن أن أكتب عن تجربة السجن، وأعتقد أني لا زلت في حاجة إلى فترة أطول من الراحة والهدوء، لست مؤهلًا اليوم لاستدعاء الذكريات واسترجاع الآلام، وليس لدي يقين بقدرتي على تدوين هذه الفترة في وقت من الأوقات، حتى إن التفاصيل بدأت تتلاشى بالفعل. لا بأس في بعض من ألاعيب العقل بوضع الصور المؤلمة في مكان بعيد من الذاكرة كي استريح قليلًا، لذا لا تتوقع أن أكتب أدب سجون ولا شعارات ثورية، ولا خطبًا تضامنية، ولا جملًا استعطافية، ولا إدّعاءً للبطولة.
محاولات لكسر الحاجز
لم أندمج في أنشطة اجتماعية كثيرة منذ خروجي، حتى إن بعض الأصدقاء لم أقابلهم سوى مرة واحدة، وبعضهم لم نلتقِ بعد، ولكني أحاول الانغماس وسط الجموع دون الشعور بالغرابة، أحاول كسر حاجز الخوف.
اجتمع بعض الأصدقاء بمنزلي، بتدبير من أختي، في احتفال مفاجئ بيوم مولدي في شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، توترت عندما رأيت الجمع؛ "سنة حلوة يا جميل" لم أردد الكلمات، شعرت برغبة في إنهاء هذه الحالة فورًا، جلست مع الأصدقاء متصنعًا العادية، لم أصمد كثيرًا على هذه الحالة، تركت الضيوف بصالة المنزل وانصرفت إلى غرفتي، ولازمت سريري في حالة من العجز عن التفاعل الإنساني البسيط، كأني لا زلت طفلًا ولم أشيّد بجدران عقلي أية مهارات اجتماعية على مدار سنوات طويلة من الدراسة والعمل والتجارب الأصعب.
أقبل رمضان، وازدادت التجمعات، يومًا تلو الآخر يدعوني الأصدقاء من دوائر مختلفة إلى تجمع وإفطار جماعي، في المنزل، في الشركة، في مطعم بالخارج، في نقابة الصحفيين، في مركب بالنيل، وفي كل مرة أقبل الدعوة من باب الذوق والأدب.
في صميم نفسي أحب مرافقة الأصدقاء ورؤيتهم والحديث معهم في الجد والتافهة على السواء، في المرة الأخيرة تجمعنا معًا نتشارك الإفطار في مركب نيلي، الجميع سعداء أو هكذا يُظهرون، يتبادلون الطعام والشراب والحديث والنميمة والنكات البذيئة، البهجة تعم المكان والإضاءة الخافتة تُعطي انطباعًا بالهدوء والراحة، والموسيقى في الخلفية تُضفى شعورًا بالرغبة في الرقص والتمايل.
ها هم يتمايلون يتضاحكون فما بالي لا أشاركهم المشاعر ذاتها، اليوم ليس كعيد الميلاد، لست بمنزلي لأهرب إلى الغرفة، لا مكان أهرب إليه سوى قاع النيل، ولا أرغب في الخلاص بعد، لا زلت محبًا للحياة ببؤسها.
تقاسم الذعر لا الطمأنينة
ولأن المصائب لا تأتي فرادى، انتابت صديقتي في نفس اللحظة نوبة ذعر، واجهت المياه كي تخفي وجهها وبدأت في البكاء. صديقتي التي تعاني من رهاب اجتماعي حاولنا معًا تجاوزه وهزيمته، بحاجة إلى عنايتي الآن، لكني عاجز عن التصرف مجددًا، لم أعرف كيف أساندها وأنا في اللحظة نفسها أجاهد نفسي كي أبدو عاديًا، كي أندمج مع الأصدقاء، أشاركهم الحديث والرقص دون خوف أو خجل، دون أن أشعر بالغرابة.
في خلفية رأسي يدور كطنين النحل سؤال مُلح "لم أكن خجولًا من قبل في مثل هذه المواقف، ما الذي حدث؟ هل فقدت مهاراتي الاجتماعية؟ هل انعقد لساني؟ ما الذي حدث؟ هل أبدو كأبله؟"، أرد "فلتتماسك قليلًا، تجمع عادي، لا أحد يهتم لأمرك، لا أحد يراقبك، لا أحد يسخر منك، لا أحد يطلق عليك الأحكام، ما الذي حدث؟ لا تتوتر رجاءً، لا تشطح بخيالك، ثق في نفسك، ثق في مهاراتك، ثق في أصدقائك، ما الذي حدث؟ كن عاديًا، كن طبيعيًا، توقف عن النظر في كل الاتجاهات في اللحظة نفسها، لا تبك الآن، يكفيك الصمت والمشاهدة، ما الذي حدث؟".
هل أفشل في التماسك؟ هل أخفق في أن أُخفي ما يدور داخلي؟ لا أعلم غير أن أصدقائي يكررون علي تلك الملاحظة في مقابلاتهم معي "هل كنت هادئًا هكذا من قبل أم أنه السجن؟".
يُقال لي هذا المعني بصياغات مختلفة "مالك ساكت ليه"، "ايه ياسطى، ما تيجي تقعد معانا"، "أعصر، ما تقوم ترقص"، "أيه مضايقك يا زميلي؟"، "أنت كنت هادي كده زمان ولا بقيت أهدى؟" لا أمتلك ردًا في أغلب الأحيان، أغمغم بكلمات محايدة ومكررة مع ابتسامة باردة تعطي انطباعًا بعدم الرغبة في الحديث أو المشاركة.
هل كنت هادئًا هكذا؟
كنت هادئًا طيلة حياتي مع القليل من لحظات الطيش والانطلاق، ولكن ما الذي يراه الأصدقاء متغيرًا؟ ربما أصبحت أكثر هدوءًا بالفعل، قد يكون نتاج فترة الحبس الطويلة، قد يكون نتاج التقدم في العمر، هل التغيير أمر إيجابي أم سلبي؟ ربما يُهيأ لهم ولم يحدث لي تغيير قط.. أين الصواب؟ أين كنت وكيف أصبحت؟ هذه الأسئلة والتعليقات على بساطتها تسبب لي التشويش والاضطراب والمزيد من الشرود والعزلة، أدرك قلق الأصدقاء ورغبتهم في مشاركتهم مشاعر البهجة والسعادة، إلا أن محاولاتهم تؤول إلى نتائج عكسية.
بكيت عندما خرجت من باب السجن تاركًا خلفي أصدقاء يقبعون في الزنازين، لست المذنب ولست السجّان لكني بكيت، لا خيار لي في حبس ولا رأي لي في إطلاق سراح، لكني بكيت، أحيانًا يكون الخلاص الفردي بمثابة الذنب واللعنة، أنا مطارد الآن بلعنات الأصدقاء المحبوسين، أنا مُذنب بحريتي، في كل مرة تتسرب البهجة إلى نفسي أتذكر معاناتهم، أخوض مع نفسي حربًا في الأشهر الحرم، أحزن لهم وأبكيهم، أنا حر الآن لكن جزءً من روحي لا زال عالقًا بأبواب الزنازين، فهل آن الأوان لتحريره؟.