جلس برنت كينر القاطن بمدينة كوفستيين النمساوية ليكتب رسالة إلى محرر موقع نيويورك تايمز، وبنبرة تتسم بالعقلانية قال "قد يكون التغاضي عن سلاطة اللسان أكثر فاعلية، لكن الصفعة جاءت في احتفالية خاصة بصناعة السينما، السينما التي قضت أكثر من قرن من الزمان وهي تروّج لوهم أن الرجل الصالح يدافع عن شرف زوجته بالعنف التعويضي. قوبل ويل سميث بحفاوة بالغة، فنحن شاهدنا هذا المشهد عدة مرات من قبل".
كانت رسالة برنت واحدة من بين الرسائل التي نشرتها نيويورك تايمز لتعليقات القراء على صفعة ويل سميث لكريس روك في حفل الأوسكار الأخير، وبين عشرات الرسائل التي تموج في التعاطف مع الصفعة جاءت رسالة برنت لتضع الحادث في سياق مختلف بعيدًا عن اعتبارها فعل بطولي ضد التنمر السام. يشير برنت إلى العنف الذكوري الذي ظلت السينما الهوليودية تروج له لسنوات وكأن الصفعة نتاج هذه الفكرة العنيفة. تتقاطع الأفكار مع الجملة التي قالها سميث في خطاب اعتذاره عن الصفعة على صفحته الرسمية على انستجرام "أنا مرتبك وأفعالي لا تدل على الرجل الذي أريد أن أكونه". استوقفني الجملة وسألت نفسي: ما هو الرجل الذي يريد أن يكونه إذن؟
صفعة مبكرة
في تحليله لصورة الرجال على الشاشة في سينما هوليوود يتحدث الكاتب ستيف نيل عن التماهي السينمائي كحالة تنشأ بين الجمهور وبين الشخصيات الدرامية في الأفلام، تماهي ليس إنساني بل مع البطل من نفس جنسه، وينتج عنه أن يسقط الرجال كل تطلعاتهم الذكورية على صورة البطل أمامهم لأنه يغذي الأنا بداخلهم، ويمنحهم صورة يتمنوها ويطمحوا لها لأنها أكثر كمالاً وقوة.
يمكننا التفكير في كل البطولات السينمائية التي يتصدر فيها الرجال أفيشات الأفلام، لنفهم كم نموذج ترسخ في أذهان الرجال كمثل أعلى يغذي ذكورتهم، ومن زاوية أخرى التفكير في الذكر كتجربة مشاهدة في حد ذاته؛ يرصد فيها المتفرج موقع البطل الذكر داخل أحداث الدراما، التاريخ، السياق الاجتماعي والسلطوي. إنها علاقة بنيت على مدار سنوات وتجارب مشاهدة مختلفة، علاقة تأسست بشكل لا واعٍ، وصورة الرجل فيها محور الانتباه الأول.
يعيدني تحليل ستيف نيل إلى مشهد شون ديدي كومز في حفل الأوسكار الذي قال فيه ساخرًا وعلى طريقة العائلة في فيلم الأب الروحي "ويل وكريس، سنحل المسألة بالتراضي كعائلة في الحفل التالي" والمفارقة أن فيلم الأب الروحي واحد من أهم أفلام السينما العالمية كُرم بالفعل في نفس الحفل بمناسبة مرور خمسين سنة على صدوره، يرسخ إلى أن الرجال لا يبكون في مصائبهم بل ينتقموا من أعدائهم بأيديهم.
بدا الحفل كتطبيق لنظرية أثر الفراشة، كل صفعة سينمائية وصلت بنا إلى صفعة ويل سميث لكريس روك، كأنه مشهد سينمائي متصل، لدرجة أن الحضور في القاعة ظنوا في البداية أنه مشهد تمثيلي متفق عليه. كل الحضور من الممثلين الرجال على الأغلب تلقوا صفعة أو بادروا بالصفع انتقامًا لذكورتهم في سياق درامي. لم تكن الصفعة غريبة إذن على الجمهور، كما أنها في هذا السياق تحيلنا إلى صفعات أخرى في حياة ويل سميث ربما لم يكن فيها بطلًا حقيقيًا.
ما يحدث كل عام في حفل الأوسكار أن النجوم يختلطون بشخصياتهم الخيالية، تمتزج الصورة أمامنا بين واقعهم والخيال الذي يجسدونه، يصعد الممثل الفائز بالأوسكار بمشاعر مرتبكة، ينتزع فوزه من الشخصية الخيالية التي جسدها في السينما.
شاهدت مقطع خطاب ويل سميث عند استلامه للأوسكار فلم أعرف من الذي يتحدث، شخصية الأب ريتشارد ويليامز التي مثلها أم ويل سميث الذي صفع لتوه زميله؟ "كان ريتشارد ويليامز مدافعًا شرسًا عن عائلته" إنها الجملة التي بدأ بها سميث خطابه لكنها بدت لي استهلال يدافع به عن فعلته العنيفة التي أصبحت حديث العالم كله حتى الآن. يتكرر في خطاب سميث كلمة "الحماية" إلى جوار كلمة "الحب" في تبرير ضمني أن ما فعله دافعه الحب، ويختم قوله "أريد أن أكون سفيرًا لهذا النوع من الحب والرعاية والاهتمام، لكن الحب سيجعلكم تقومون بأشياء جنونية".
عندما تلقى سميث مزحة كريس روك ضحك في بداية الأمر، مثله مثل المئات في القاعة، وحدها زوجته جيدا لم تضحك على ما قاله كريس لها، أبدت ملامحها امتعاضًا من المزحة، وفي ثوانٍ أعتقد أنها مرت على سميث دهرًا، تغير رد فعله وقرر الانتقام لها. رغم أنه ضحك بالفعل، لكن هذه الثوانِ تلخص الكثير عن علاقة ويل وجيدا، بل وعلاقته بالرجل الذي لا يريد أن يكونه.
لحظة الصفعة في حفل الأوسكار
في السطور الأولى من سيرته الذاتية، يصارح ويل جمهوره أن ويل سميث، هذا النجم السينمائي الذي تعرفوه "شخصية متقنة الصنع مصممة لحماية نفسي، لأخفي نفسي من العالم. لإخفاء الجبان" ثم يكشف سميث جرحًا غائرًا ليحكي عن الصدمة التي زرعت بداخله عندما تكرر أمامه مشهد التعنيف الجسدي الذي مارسه أبوه على أمه، بينما ويل يقف منزويًا، يختبر هشاشته لأول مرة دون أن يعرف ما الذي يتوجب عليه فعله لحمايتها، لا حيلة سوى الصمت، إنها لحظة خذي مؤلمة، لا بسبب العنف بل الشعور العميق بالجبن أمامه وعدم القدرة على ردعه. هذا الثقل يحمله سميث كحجر سيزيف، لا يعرف كيف الخلاص منه، ولسنوات سيولّد بداخله شعورًا دائمًا بالتقصير والذنب، سيحمله معه إلى حفل الأوسكار. هذا الجبان لا يريد ويل سميث أن يكونه.
ريتشارد المثالي
في عالم موازٍ في فيلم King Richard، الذي نال عنه ويل سميث أوسكار أفضل ممثل، نرى صورة لا تختلف كثيرًا، حيث ريتشارد ويليامز، الشخصية الحقيقية لوالد لاعبتي التنس سيرينا وفينوس ويليامز . يتعرض ريتشارد بشكل متكرر إلى إهانات وعدم تقدير من الناس الذين لا يثقون في نجاح ابنتيه، كما يتعرض أيضًا لصفعات ولكمات من غرباء في الشارع أمامهن لكنه لا يقوى على الدفاع عن نفسه لأنه يؤثر المسالمة، إنه انكسار مهين لذكورته رغم أنه لا يتماشى مع صورة الأب الذي يحاول أن يحمي عائلته ويقودها للنجاح.
رغم ترشح الفيلم للأوسكار، أراه ضعيفًا فنيًا، يقدم شخصيات لا تتطور ولا تخضع لتحولات درامية قوية، كما أنه يرسخ لنموذج الأب الداعم لابنتيه، يؤمن بموهبتهما في التنس، يدفعهما للسعي خلف هذا الحلم الكبير، ويجلس معهما لمشاهدة أفلام تعلمهما الشجاعة والمثابرة والتواضع؛ إنها صورة أبوية مغرقة في مثالية مزيفة، لدرجة تصل إلى المسالمة التامة والسير بموازاة الحائط، يتلقى الصفعات في صمت ويعلمهما قوة الإيمان والحلم. لكن، هل ينشد ويل سميث هذه المثالية في حياته؟ أم أنها القناع الذي يتناقض مع حقيقته؟
ثمة سلسلة طويلة من التقاعس عن ردع العنف تعرض لها سميث في حياته، وهو ما خلف بداخله رغبة دائمة في الانتقام. ذكر سميث في كتابه أنه في مرحلة مرض والده الأخيرة تمنى أن يقتله بيديه، ولم يخجل من الاعتراف بأنه عندما كان طفلًا قال لنفسه "في يوم من الأيام سأنتقم لأمي"، الغربة في الانتقام العنيف تصاحبه منذ الطفولة، وتبدو جلية في صفعه لكريس روك ونبرته عندما هدده بألا يذكر اسم زوجته على لسانه، قفزة من الوقار إلى الانفجار، غضب مفخخ لا يخص روك بل يشتبك مع صورة الضعف والجبن التي تلاحق سميث حتى من الجمهور الذي سخر من تقبله لخيانة زوجته له؛ بالأحرى لا يروه رجلاً حقيقيًا. من أين جاء هذا الاتهام بالضعف؟ من تفشي الذكورة السامة كفكرة وثقافة بين الجمهور مصدرها الرئيس الصورة التي يرى بها المجتمع الرجال بصورة معينة، والفنانين الذين يتماهى الجمهور مع ذكورتهم باعتبارها جزء من تكوينهم الشخصي.
الذكورة الجريحة
الناقد السينمائي والطبيب النفسي أحمد عزت، قال إن ثمة علامات يمكن قراءتها بوضوح من الخارج في شخصية ويل سميث وعلاقته بزوجته، أولها تبدأ من الصفعة نفسها "فالتحول الغريب في رد فعله من الضحك إلى الغضب الذي أدى إلى الصفعة له علاقة مباشرة بنظرتها له، وبالصورة التي تصدرها له زوجته جيدا عن نفسه كأنه رجل ضعيف مثلًا. أكثر الأشياء وضوحًا في الأمر بالنسبة لي أن ويل سميث في علاقة سامة بالفعل، بل هو الضلع الأضعف فيها، لذلك يتم الإساءة له والتلاعب به".
كل الإشارات تقودنا إلى نفس النقطة، الأمر لا يخص كريس روك، ولا التنمر اللفظي الذي أصبحنا نصده باللكمات، نحن أمام رجل يعاني من اهتزاز صورته كرجل أمام نفسه، بالأحرى يعاني من الذكورة الجريحة كما يصف عزت "إنه شخص يجاهد ليظهر، خاصة أمام الطرف الذي يستغل ضعفه، أنه يستطيع حماية شريكته حتى لو كانت الطريقة هستيرية وعنيفة". استوقفتني جملة عزت خاصة وأنها تتوافق بالفعل ما قاله سميث في خطاب الأوسكار الارتجالي "الحب سيجعلكم تقومون بأشياء جنونية".
يخوض سميث صراعًا نفسيًا بين ما يكونه وما يريد أن يكونه، يجاهد ليتخلى عن ذكورته الجرحية التي تجعله في نظر المقربين مقصرًا في دوره كذكر، فجاءت الصفعة لتحطم صورته الضعيفة لتخلق صورة الرجل الذي يريد أن يكونه، شرسًا، مقاتلًا، هكذا يعيد تعريف معنى "الحب والحماية". يقول عزت خاتمًا حديثه "سميث راجل لطيف زي ما بنشوفه في الأفلام، وعاطفي جدًا، والتصرف ده مش بيعبر عنه قد ما بيعبر عن اللي بيحاول يظهر بيه قصاد مراته".
أعيد تشغيل مشهد الصفعة مرارًا، وفي كل مرة أتأمل ملامح وجهه وهو يسير مختالًا عائدًا إلى مقعده بعد أن انتصر لذكورته، لم ينظر إلى أحد، يعرف جيدًا أن كل العيون تلاحقه، كانت لحظة انتصار خاصة لتاريخ طويل من الإيذاء العاطفي، لحظة تخصه وحده ودفع ثمنها إقصائًا من حفل الأوسكار لعشرة سنوات واستقالته من عضوية الأكاديمية، لكن ويل سميث يقف الآن أمام مرآته محاولًا العثور على الرجل الذي يريد أن يكونه، لكن المرآة تعكس أمامه صورة ضبابية.
تعلمنا الذكورة الجريحة درسًا في التعامل مع الرجال يتناقض مع الصورة الذكورية، التي نشاهدها طيلة الوقت في الأفلام السينمائية: ببساطة لا يمكننا تعليم الرجال كيف يكونوا رجالًا.