لو أن ويليام شكسبير بيننا اليوم، لربما صار كاتب مسلسلات تلفزيونية ناجح. التلفزيون سيوفّر له منصة جماهيرية مثالية، فيما سيتكفل نسق تسلسل الحلقات بتوفير "الفورمات" النموذجية لتشييد أحداثه وتصعيدها. يمكنه تحويل مآسيه وملاهيه المسرحية إلى سلاسل تلفزيونية قصيرة.
شخصيات شكسبير تعيش حياة ثلاثية الأبعاد: يحبّون ويكرهون بعضهم بعضًا، يخدعون أنفسهم والآخرين، يتّحدون معًا أو يموتون فرادى. لكن أكثر من الحب والكراهية، كان شكسبير مهتمًا بالسلطة وسياسات القوة بين الأفراد.
أبطاله يقتلون كما يليق بالانقلابيين والمتعطشين للسلطة، يصفّون خصومهم وينتصرون كملوك، يشنّون غزوات ويشعلون حروبًا أهلية. كان شكسبير مُحلّل ميكانيكا السلطة، إذ يعلّمنا أن كل مضطر للتعامل مع السلطة سياسيًا يجب عليه معرفة أنه يتعامل مع شياطين.
كان لديه كل الأسباب ليصبح كاتبًا تلفزيونيًا ناجحًا، تروج أعماله بين قطاعات واسعة من الجمهور وتنتشر مقاطعها على منصات التواصل الاجتماعي وتثير النقاشات بين أصحاب آراء متباينة. عاش الكاتب المسرحي الأعظم في زمنٍ مضطرب، تحيط فيه المؤامرات بالملكة إليزابيث، التي أدّى عدم إنجابها إلى إثارة مخاوف الناس من فراغ السلطة، وبالتالي احتمال اندلاع حرب أهلية جديدة. في عهد خليفة إليزابيث، الاسكتلندي الكالفيني جيمس الأول، حاول المتمردون الكاثوليك تفجير مبنى البرلمان في وستمنستر من أجل اغتصاب السلطة. أبحر الأسطول الإسباني قبالة الساحل الإنجليزي، وأدّى تمرُّد ضد قوات الاحتلال في أيرلندا إلى حرب السنوات التسع.
لم يستطع شكسبير التعليق على صراعات السلطة في عصره. كانت الرقابة تمنعه من القيام بذلك. لذلك قام برسم صراعات زمنه ونقلها إلى التاريخ، واقتفت موضوعاته آثار كل من يوليوس سيزار ومارك أنتوني وكوريولانوس، والدراما الملكيّة- الإنجليزية التي أدت إلى صعود أسرة تيودور، التي انحدرت منها إليزابيث. كان هذا مسموحًا به.
رصد شكسبير الناسَ مثلما فعل علماء النفس الأوائل. وصاغ ملاحظاته بلغة لا تزال قوّتها التفسيرية صالحة وقائمة حتى يومنا هذا، مثلما يظهر في فيلمٍ ومسلسلين تلفزيونيين يستخدمون شكسبير مترجمًا لحاضرنا.
هناك أفلمة جديدة زاهدة ومتقشفة لـماكبث بالأبيض والأسود الصارم والحاسم. وهناك الموسم الثالث من المسلسل الجماهيري خلافة (Succession)، حول إمبراطور إعلام أمريكي وأولاده الذين يتآمرون ضده وضد بعضهم بعضًا. وهناك المسلسل القصير اليوتوبي/الأبوكاليبتي المحطة الحادية عشر (Station Eleven)، المطبوع بآمال جيل "الصحوة" الأمريكية، حول فرقة تمثيلية في شيكاغو تقوم بجولة في البلاد بعد عشرين عامًا من جائحة مميتة، تؤدّي مسرحيات شكسبير كتعبير عن ما يدفع الناس للبقاء والتمسّك بالحياة.
الملك لير قطبًا إعلاميًا في القرن الحادي والعشرين
في مسرحيته الملك لير، يواجهنا شكسبير بمعضلة عائلية وسلطوية أزلية تتمثل فيها صورة مصغّرة لآلام واختبارات الجنس البشري، عبر حكاية ملك أسطوري تقدّم به العمر فقرّر تقسيم مملكته بين بناته الثلاث، جنريل وريجان وكوردليا، ثم طلب منهن التعبير عن حبّهن له، ما أفرز أحقادًا وضغائن بين أبناء البطن الواحدة، استتبعتها مروحة من المآسي والمكاشفات الإنسانية المعتادة في كلّ قرار مصيري ومرحلة انتقالية.
يصف مسلسل خلافة النظام الاستبدادي لإمبراطور إعلامي مسنّ، لوجان روي، مبتلى بثورات عنف تغذّيها آثار الشيخوخة، وروحٍ قلقة لا ترسو على مرفأ، وثقة مطلقة بانتصاره في كل معركة. يريد كل من أبنائه الأربعة وراثة مملكته. جميعهم يكرهون بعضهم البعض، وناقصي الكفاءة، ولا يستطيع أي منهم التخلص من الآخرين، فيما الأبّ يحكم قبضته عليهم جميعًا بسلطة مستبد ماكر.
يقع تحت مظلة الإمبراطورية الإعلامية العائلية العديد من الصحف والقنوات والمواقع، إلا أن أيًا من الأبطال لا يهتم بمحتوياتها. تصبح القوة غاية في حد ذاتها، وتستخدَم كل الوسائل تقريبًا لتحقيقها، بما في ذلك التنمُّر والخيانة والتهديد والتشهير والتملُّق. بريان كوكس، الذي يلعب دور الرجل العجوز، يتعلّم في تصويره للملك لير ما يعنيه أن تفقد عقلك أثناء استمساكك بالسلطة. شخصيته أقرب ما تكون إلى شخصيات شكسبير.
في إحدى المقابلات، قارن كوكس شخصيته التلفزيونية ليس فقط بالملك لير، وإنما أيضًا بيوليوس سيزار وتيتوس أندرونيكوس. في أحد مشاهد الموسم الثاني، وفي معرض تشجعيه منافِسةً تريد الاستحواذ على إمبراطوريته الإعلامية لقبول عرضه/صفقته، يسألها "هل ترغبين في سماع اقتباسي المفضّل من شكسبير؟"، ليتبعها بـ"خذي المال اللعين".
مشهد من مسلسل خلافة
لا يتوقف التأثير الشكسبيري هنا، وإنما يمدّ ظلاله إلى ما هو أبعد. "أين أنا؟"، هذا التساؤل الهويّاتي الذي يفتتح المسلسل في تترات بداية كل حلقة، يجد أصدائه في تيمة الحالة/المكانة والهوية المتكررة عبر كافة أعمال شكسبير، مثلما يحضر في تنقّلات الشخصيات، سواء في السلم الوظيفي للشركة أو داخل هيكل السلطة العائلية. يؤكّد على تلك الحيرة الوجودية في عشاء عيد الشكر الذي تحضره عائلة روي، عندما نكتشف أن حفيد لوجان، المتوحّد على ما يبدو، يعاني مشاكل في التحوّلات لأنها "صعبة عليه"، حسب قول أمه، وبينما يسخر لوجان ويصرخ ويضرب الطفل في النهاية، يمكنك رؤية رعبه من رؤية حفيده وقد انعكس الخوف عليه: التحولات صعبة عليه أيضًا.
لكن ربما ليس هناك مشهد شكسبيري يلائم المسلسل أوضح من المشهد الثاني في الفصل الثالث لمسرحية هنري الرابع، حين يوبّخ الملك ابنه وولي عهده هال لكونه وريثًا لا يستحق العرش. هنري الرابع، الذي مثل هنري بولينجبروك في مسرحية أخرى (ريتشارد الثاني)، تولّى العرش من ريتشارد الثاني واضطر إلى إثبات جدارته لجذب الحلفاء، يوبّخ ابنه الأمير هال بسبب "الامتياز الأميري" الذي أفسده وجعله أقل قدرة على الحكم من المتمرد هنري بيرسي، الذي "يقود اللوردات القدامى والأساقفة المبجلين في/وإلى معارك دامية".
هنري الرابع ولوجان روي كلاهما رجال عصاميون لم يُختبر أبناؤهم المرفّهين ولم يتعبوا في الدنيا، لكن في الوقت ذاته يشعرون باستحقاقهم ميراثًا هم في أمس الحاجة إليه رغم أنهم لم يكتسبوه بأيديهم. والشبه موجود أيضًا في اقتباسٍ من الجزء الثاني من المسرحية إياها يقول "مضطرب هو الرأس الذي يلبس تاجًا"، وما أشدّ الاضطراب حين تكون بحاجة للدفاع عن عرشك من أبناء غير أكفاء لكن طامعين فيه.
بالعودة إلى المشهد الثاني من الفصل الثالث للجزء الأول، يخبر هنري ابنه أن بيرسي أكثر استحقاقًا للعرش منه، هو الذي مجرد "ظلّ خلافة"، أي محاكاة باهتة لملك. الفارق بين هنري ولوجان، أن الأول يريد لابنه أن يكبر ويتحمّل مسؤولياته؛ بينما الآخر يتنمّر ويستصغر أبنائه البالغين بلا أي رغبة حقيقة في التخلّي عن عرشه، فيما أولئك الخلفاء المحتملون مندوبون عاطفيًا ونفسيًا وعمليًا وغير جاهزين للاستحقاق، لدرجة أنه من الصعب حقًا معرفة من يجب أن يخلفه.
فلماذا نشاهد هؤلاء الجديرين بالازدراء؟ إنه نفس السؤال الذي نطرحه حول إبداعات شكسبير الأكثر رعبًا، مثل ريتشارد الثالث أو كوريولانوس، والإجابة أيضًا هي نفسها: نشاهد خلافة، ونقرأ شكسبير، لأن الشخصيات، رغم فظاظتها وبشاعتها، مقنعة ومثيرة للاهتمام والانتباه، فيما الكتابة مسلية وممتعة بشكل رائع، وتتخلّلها دعابات حادة، تمامًا كما في أعمال شكسبير الكوميدية. يملك المؤلف الرئيسي للمسلسل جيسي أرمسترونج أيضًا لمسة من رومانسية شكسبير، فقد كتب حلقة رائجة من مسلسل الخيال العلمي بلاك ميرور، بعنوان "تاريخك الكامل"، وهي قصة مأساوية عن الغيرة المدمّرة في عالم مستقبلي، تتماس في روحها العامة مع مسرحية رومانسية/كوميدية مغمورة لشكسبير بعنوان حكاية الشتاء.
دليل آخر على أن خلافة عمل كوميدي؟ لا تظهر الأشباح، تمامًا كما لا تظهر الأشباح في أعمال شكسبير الكوميدية. رغم أنه يمكن تقديم الحجة القائلة بأن القطة غير المرئية إلا للوجان في الحلقة الخامسة من الموسم الثالث هي نسخة المسلسل من شبح بانكو (ماكبث)، والتي، إذا صحّ التطابق، تكشف شيئًا فظيعًا عن لوجان.
القتل كمناورة
كما الحال مع مسرحية ريتشارد الثالث لشكسبير، والتي استند إليها مسلسل بيت من ورق، أول مسلسلات نتفليكس الرائجة عالميًا؛ نحن الجالسون أمام الشاشة نسرّ في داخلنا رغبة بفوز الرجل السيئ لأنه يجرؤ على فعل ما نخجل منه. شكسبير نفسه ينجح في هذا التماثل مع البطل الباغي بمأساته الدموية ماكبث.
تروي المسرحية صعود وسقوط جنرال اسكتلندي توقعت الساحرات أنه سيصبح ملكًا في يوم من الأيام. مدفوعًا بزوجته، الساخرة من تردّده؛ يطعن ماكبث الملكَ وأتباعه، ويصفّي صديقه القديم بانكو، ويذبح النساء والأطفال، قبل أن يلقى هو الآخر حتفه مقتولًا. ربما تكون ماكبث أكثر تراجيديات شكسبير وحشية ودموية، بالليدي ماكبث الرهيبة، والساحرات المخيفات، والطموحات السياسية، والخيانات الإجرامية، وفداحة الشعور بالذنب التي لم يوقفها سوى الموت.
في أفلمته الجديدة للمسرحية، يعود جويل كوين إلى الأصول المسرحية دون التخلي عن الإمكانيات السردية والشكلية التي لا يستطيع سوى السينما تقديمها. فيلم لا يشبه أيًا من أفلام الأخوين كوين (هذا هو أول الأفلام المنفردة للشقيق الأكبر)، مغمور في بردٍ وجهامة ويأس، ومصوَّر بأبيض وأسود شديد التباين مستعار من السينما التعبيرية الألمانية، بشاشة مربعة تقريبًا ترجع إلى بدايات الأفلام الناطقة، مع أصداء من نسخة أورسون ويلز من العام 1948.
الفيديو الترويجي لـ مأساة ماكبث
يصوّر عنف السلطة كمناورة تستلزم جرائم قتل جديدة لضمان بقائها. يلعب دينزل واشنطن دور البطل المشؤوم المنذور لقدره المميت، ممتثلًا لقضائه ومعميًا بزعم استحقاقه العرش، لكنه يظل جبانًا في أعمق أعماقه. يتناقض تردّده هذا بمواجهة إصرار وحسم زوجته الليدي ماكبث، التي تؤدي دورها فرانسيس مكدورماند برباطة جأش وفاعلية واضحين. تفكيرها الشرير لا يخلو من ملمح نسوي، فبالنسبة لها، بصفتها امرأة بعيدة عن إمكانية اعتلاء السلطة، تغدو جرائم زوجها شرطًا أساسيًا لوجودها المأمول.
عبر اختياره ممثلين أميركيين من أصل أفريقي في عدة أدوار، يشير جويل كوين إلى النقاش حول حراك "حياة السود مهمة" الذي كان محتدمًا في وطنه أثناء التصوير. المعركة على رئاسة الولايات المتحدة بعد انقضاء ولاية دونالد ترامب، لها صدى أيضًا، مع قناعة ماكبث المتعصّبة بأنه منذور ليصبح ملكًا.
في أحاديثه الصحفية، اشتهر جويل كوين بمراوغته وتوتره عند الإجابة على الأسئلة، فقد عرّف فيلمه، في مقابلة مع صحيفة الجارديان، بأنه "ماكبث بعد انقطاع الطمث. عائلة ماكبث هنا زوجان أكبر سنًا، تجاوزا سن الإنجاب. الوقت والفناء والمستقبل مواضيع حيوية". أما فيما يتعلق باهتمامه المستغرب بتكييف إحدى المسرحيات الخالدة لشكسبير، قال المخرج إن زوجته فرانسيس مكدورماند كانت مسؤولة تمامًا.
"في مرحلة ما من حياتها المهنية، اعتبر المجتمع المسرحي في نيويورك أن فران غير مؤهلة للعب أدوار شكسبير. تغيّر ذلك في النهاية وعندها سألتني إذا كان بإمكاني إدارتها في نسخة لماكبث على المسارح، لكن ردّي كان أنني لا أملك فكرة كيفية القيام بذلك. لذلك فعلت ذلك بمفردها. كان ذلك قبل حوالي سبع أو ثماني سنوات، في سان فرانسيسكو، عندما لعبت دور السيدة ماكبث أمام كونليث هيل".
بالمناسبة، هيل هو الممثل الأيرلندي الذي لعب دور لورد فاريس في لعبة العروش، وهو مسلسل مدين، من نواح كثيرة، إلى هيكل ماكبث وثيماتها حول السلطة وهواجس السلالة.
أكثر من ماكبث
بالطبع، ماكبث هنا أسود البشرة، ولكن على عكس النسخة المسرحية لأورسون ويلز من العام 1936، التي أدّى أدوارها بالكامل ممثلون من أصل أفريقي، لا يتعلق الأمر هنا بإعادة تقديم النصّ الأصلي انطلاقًا من تمرُّد إبداعي (فضلًا عن منظور الصوابية السياسية)، بل انغماسًا في استدعاء واقع "تاريخي" مفترَض. ربما، والحال كذلك، يجدر تذّكر أنه في الأصل، في زمن شكسبير نفسه، لم يكن مسموحًا للنساء بلعب أدوار النساء على خشبة المسرح.
في ماكبث كوين، تخلص الكلمات للنصّ المطبوع، وما من نيّة صريحة "لتحديثها"، بالرغم من نجاح المخرج في جعل الممثلين يقرأون خطوط الحوار (والمونولوجات) بطريقة "مسرحية"، فيما تبنّت التعبيرات وحركات الجسد أوضاعًا أكثر طبيعية. عكس نسخة بولانسكي، الذي قام بتطبيع الأداءات والنصوص تمامًا وأرفق المناجاة في عقل ماكبث المحموم بفضل استخدام التعليق الصوتي voice-over. كما أنه لا يمكن مقارنته مع الاقتباس الفضفاض والتوفيقي لكوروساوا، عرش الدم، والذي على الرغم من نقله الأحداث من اسكتلندا في العصور الوسطى إلى اليابان في القرن الخامس عشر، يظلّ واحدًا من أكثر الاقتباسات نجاحًا عندما يتعلق الأمر باحترام جوهر الحبكة الأصلية.
الملمح الأكثر مفارقة يتمثّل في كون الفيلم الجديد المقتبس عن ماكبث يعتبر سينما ممسرحة، بينما ماكبث تعدّ واحدة من أكثر مسرحيات شكسبير سينمائية، خاصة قرب نهايتها، عندما تتسارع نحو خاتمتها بمشاهد قصيرة بشكل متزايد تبدو وكأنها مشاهد فيلمية ممنتجة. تحدّث كوين حول كيفية بناءه على أوجه التشابه هذه باستخدام "التحرير المتوازي"، الذي يقطع ذهابًا وإيابًا بين مشاهد تحدث في نفس الوقت. يقول "كم كان شكسبير بارعًا ككاتب مسرحي، سبق غيره باستعمال هذا النوع من السرد القصصي [المرئي]".
بوجهة نظره القوية، والأداء التمثيلي الممتاز لبطليه، وطاقم ممثليه متنوعي الأعراق والجنسيات، يمكن أن يصبح ماكبث جويل كوين بمثابة مدخل جديد ومعاصر لطلاب المسرح أو للمبتدئين في معرفة شكسبير، مع الأخذ في الاعتبار أن النسخة السينمائية ليست كاملة بأي حال من الأحوال. المشاهد بين مالكولم وماكداف قُطعت كلها تقريبًا، بينما أعيد تخيُّل دور روس بمهارة. كما لا يقضي الفيلم الكثير من الوقت في توضيح بعض نقاط قصة المسرحية، أو شرح هوية كل شخصية، أو تصوُّر الشرح المنطوق. وبعض اللحظات تترك مفتوحة للتأويل.
هناك من سيسأل عما إذا كان هذا الفيلم يمثل نسخة شكسبير من ماكبث كما أرادها. وهنا يمكننا الإفتاء بأنه طالما أن شكسبير كتب مسرحياته لتؤدّى، لا لتُقرأ، ففي الواقع لا مجال لما يسمّى "ماكبث شكسبير"، حتى يتقدّم ممثل ويلعب دوره. في النقاش الذي تلا عرض الفيلم في النسخة 59 لمهرجان نيويورك السينمائي، قالت مكدورماند للجمهور مشيرة إلى زميلها في البطولة: "أنت لا تعدّ قوائم لماكبث يخصّ جيل بعينه. يولَد المرء ثم يلعب الدور". دينزل واشنطن هو ماكبث للجميع، أقلّه لأيامنا، وعلى الأرجح "غدًا وغدًا وغدًا".
المحطة الحادية عشر
الخطر الوحيد في عصره، والذي تناوله شكسبير في مسرحياته لأنه بدا كغضب إلهي، وبالتالي ميؤوس منه، كان الأكثر فتكًا على الإطلاق: الطاعون. هذا الوباء يقدّم المنطلق الدرامي لـ المحطة الحادية عشر، وهو مسلسل تلفزيوني قصير من فئة دراما الخيال العلمي، عُرض أواخر العام الماضي، استنادًا إلى رواية من العام 2014 للكاتبة الكندية إميلي سانت جون ماندل، حيث يأخذ الوباء شكل جائحة صحّية تقضي على 99% من سكان الأرض خلال فترة زمنية قصيرة.
بعد عشرين عامًا، تسافر مجموعة صغيرة من الناجين من مستوطنة إلى أخرى في منطقة البحيرات العظمى لتأدية الموسيقى وعرض مسرحيات شكسبير على بقية الناجين ممن تركّزوا في جيتوهات البرية الأمريكية الشاسعة. كُتبت الرواية قبل تفشّي الجائحة الحالية، وتُقرأ اليوم باعتبارها تمتلك بصيرة مخيفة وتبعث على الأمل على نحو غريب، ليس فقط لأن ويليام شكسبير هو أحد الأضواء الإرشادية في الرواية، وإنما أيضًا لرهانها على قدرة الإبداع الإنساني، بكافة أشكاله المتنوعة، في تقديم يد العون لرسم مسارات النجاة في مرحلة إعادة إعمار العالم بعد خرابه.
يروي المسلسل قصته في أكثر من مستوى زمني، مع شخصيات منفصلة متصلة، مراوحًا أحداثه بين فترة الوباء وقبلها وبعدها. يبدأ كل من الرواية والمسلسل بمشهد من الملك لير (ملحمة أخرى عن الانهيار المجتمعي) في أحد مسارح شيكاغو. في الفصل الرابع، يعاني الممثل الرئيسي (جايل جارثيا بِرنال) من نوبة قلبية. يندفع أحد المتفرجين، جيفان (هيمش باتيل)، إلى خشبة المسرح، لكنه لا يستطع مساعدة الرجل المحتضر (في الرواية كان جيفان مسعفًا طبيًا). بدلاً من ذلك، يتكفّل برعاية الممثلة الصغيرة كيرستن (ماتيلدا ليندر) ذات الـ 8 سنوات التي كانت تلعب دور إحدى بنات لير في المسرحية، وكان يفترض بالممثل الرئيسي (الراحل لتوّه) إيصالها إلى منزلها. يندلع الفيروس في شيكاغو، والذعر في المستشفيات، والجهل في الشوارع. يلجأ كريستن وجيفان إلى شقة شقيقه، الموظّف في وادي السيليكون، حيث يعيشان معًا طيلة فصل الشتاء.
نعرف أن الممثل المحكوم عليه بالموت (آرثر لياندر) مرتبط بالعديد من أبطال القصة المركزيين، بدءًا من زوجته السابقة ميراندا، والتي هي أيضًا (إذا لم يكن اسمها مرتبطًا بدرجة كافية بمسرحية شكسبير المعنونة بـ العاصفة) ابنة جزيرة؛ تمامًا كما آرثر الذي نشأ في كولومبيا البريطانية. جيفان، مصور فوتوغرافي سابق ومنشئ محتوى افتراضي، بلا هدف أو طموح، فاشل بالمعايير الأمريكية، وظيفيًا وعاطفيًا، توقعه الأقدار في طريق كريستن لتمنحه الفرصة أخيرًا ليكون بطلًا.
"جيفان رجل يريد مساعدة الآخرين دون معرفة كيفية القيام بذلك"، كما يقول باتريك سومرفيل (الكاتب الرئيسي للمسلسل) في مقابلة مع لوس أنجلوس تايمز، مضيفًا "اعتقدت أن التغيير مهم لأنه يسمح للجمهور برؤية بداية رحلته، اللحظة التي قرر فيها التدخل فيما يراه لا الاكتفاء بكونه متفرجًا".
بعد عشرين عامًا، كبرت كيرستن لتصبح امرأة مقاتلة (ماكنزي ديفيس). جنبًا إلى جانب فرقة من الممثلين الهواة، تتجوّل حول بحيرة ميشيغان. معًا، يقومون بعرض مسرحيات شكسبير للناجين. تقول رئيسة الفرقة، "من خلال القيام بذلك، نحاول أن نمنح المعنى للعالم ولو لفترة قصيرة".
المسرح كبروفة للحياة
في المسلسل، تتناوب الأوقات بطريقة معقدة وذات مغزى، وهو أمر أساسي للهيكل المتطلَّب لعمل طموح يرنو تشييد قصة كورالية، تظهر فيها الشخصيات وتختفي اعتمادًا على الفترة التي نحن فيها.
لا نشهد فقط عشية عيد الميلاد 2020 عندما انتشرت العدوى الهائلة، ولكننا نسافر أيضًا إلى الأزمنة السابقة للشخصيات، عندما بدت الحياة مستقرة ومملة، عندما كانوا سعداء دون هموم كبيرة، وأيضًا بعد عشرين عامًا، عندما تغيّر مشهد الأرض إلى الأبد. في هذا البورتريه الديستوبي، تركّز القصة على مجتمع فنّي رحّال (السيمفونية الجوّالة)، قوامه فنّانون عابرون لحدود الميل الجنسي، مكرسّ لعرض مسرحيات شكسبير. تسمح كل مسرحية، سواء كانت هاملت أو ماكبث، للممثلين بالتفاوض مع ذكرى ذلك الوقت المنقرض، وتحويل الكلمات المكتوبة منذ قرون إلى شهادة مثالية عن حاضرهم. نرى كريستن البالغة على جوادها، بعدما أضحت نجمة ذلك المجتمع الجديد الذي أحال المأساة المسرحية فرصة للنجاة والبقاء.
كما في The Leftovers، المسلسل السابق لسومرفيل القريب في ثيماته ومواضيعه من مسلسلنا، فكل هذا الحاضر مطبوع بذكرى الذين سقطوا، بمحاولة المضي قدمًا دون الاستسلام للنسيان والإهمال. "أتذكر الضرر"، جملة تتكرّر كثيرًا بطول المسلسل، كما الرواية، مأخوذة في الأصل من رواية مصوّرة كتبتها ميراندا، وأعطت الرواية والمسلسل عنوانهما. تكتب ميراندا في روايتها عن بطل فضائي خيالي وومضات عالم بعيد لكنه مدمّر أيضًا.
"أتذكر الضرر" تأتي وسط أنقاض عالم ضائع وثقل آلام الانفصال وصعوبات التأقلم، لتجد وجهتها في قراءات كريستن الانفرادية، حين كانت لا تزال طفلة، متروكة لوحدها في عالم منهار، وتلك الرواية-الخريطة التي قدّمها لها معلمها وحاميها آرثر لياندر تصبح هي الخريطة الوحيدة لحطام سفينتها.
ترسم ماندل صلات واضحة بين مسرحيات شكسبير، وزمنها المطبوع بالطاعون المكتوبة أثنائه، وعالم ما بعد الوباء الذي تؤدي فيه "السيمفونية الجوّالة" تلك المسرحيات. كان شكسبير "مسكونًا بالطاعون"، وفقًا لإحدى الشخصيات، عاش حياة "حدّدتها الأوبئة التي اجتاحت إنجلترا"، ومع ذلك، فإن كيرستن "لم تشعر أبدًا بأنها أكثر حياة" مما تكون عليه عندما تنطق بسطوره. "عندما تكون على خشبة المسرح لا تخشى شيئًا".
وينطبق الشيء نفسه على العديد من الشخصيات، ممن يجدون عزاء وراحة ومجتمعًا في فنَّهم. ليس من قبيل المصادفة أن مركز هذه العصبة من الشخصيات يحمل اسمًا شكسبيريًا بامتياز (آرثر)، إذ تبدأ العديد من خطوط الحبكة من أشخاص يقومون حرفيًا بأشياء خالصة لوجه الفن. كل شخصية في الرواية تقريبًا تشتغل بصنعة إبداعية ما: رسامة، مصمّم، كاتبة، مصور، أمين معارض، مؤرخ، موسيقية، ملحن، ممثل، حتى إن هناك دجّالًا دينيًا.
في ذلك يقدّم المسلسل سردًا عاطفيًا وذكيًا، وتائهًا أحياناً، لكن رهانه على صبر المتفرج وعلى الفنّ كوسيلة للتفاوض مع الحاضر والصراع مع ذكرى الماضي، يرجّح كفّته كلعبة سردية متكاثرة محورها الإبداع الفني في جميع جوانبه ووعوده وإمكاناته: الرواية المصورة التي تصبح رمزًا للبقاء، وكتابة ماندل التي تتوسّع في مادة ذلك العالم المتخيَّل/الحقيقي، وكذلك تفسير سيناريو المستقبل، حيث يعيد الناجون تكوين ذاكرة الزمن المنقرض لفهم ألغاز حاضرهم الغريب.
وبعيدًا من أسلوبه المتطلّب وطريقته للخوض في موضوعاته، فإن ما يقترحه المسلسل هو رؤية متفائلة لأفظع مستقبل يمكن تخيُّله. إذ يبدأ بأسوأ كابوس محتمل، لا سيما في لحظة الوباء التي يبدو فيها شيء مثل دمار الجنس البشري كما نعرفه أمرًا معقولًا، ولكن ينتهي الأمر بخلق فكرة نبيلة وإنسانية لإعادة الإعمار والتعايش، حيث نستعيد فنّ وأدب "الماضي" ليكون مفتاحًا لتجنُّب تكرار التواريخ الدموية في المستقبل وتجنُّب الصراعات الوحشية وربما غير الضرورية.
إنه يعطي الانطباع بأن الجنس البشري يُظهر وجهه الأكثر دناءة وانحطاطًا في أكثر لحظات الدمار العالمي إثارة للجدل والتوتر، ولكن في فلسفة الأمل التي يعتمدها المسلسل، ربما يكون الفن هو مداوي الجروح والمنقذ من تكرار أخطاء الماضي.
ينتهي المسلسل المكون من عشر حلقات بإيماءة عاطفية تبعث على الأمل باستمرار الحياة حتى بعد انتهاء العالم، بأداء لمسرحية هاملت حيث تلعب العديد من الشخصيات في المسلسل أدوارًا انعكاسية لذواتهم وصراعاتهم، في عرضٍ أخير يُهدف من خلاله رتق آخر الجروح المفتوحة ومعالجة الصدمات الرابضة.
المسرح كغرفة بروفة للحياة، هذا ما لم يفهمه أحد مثل ويليام شكسبير. فعل ذلك منذ أكثر من 400 عام، ولا يزال.