لم يتمكن محمد العمدة، وهو رجل أعمال من محافظة أسيوط، من الطعن على حكم صدر ضده، بفسخ عقد شراء محل تجاري بقيمة 2 مليون و400 ألف جنيه، وإلزامه بدفع 400 ألف جنيه كشرط جزائي، رغم أن ذلك الطعن حق مكفول له، فحين ذهب محاميه لطلب نسخة من الحكم رفض سكرتير محكمة الاستئناف تسليمه الأوراق، وطالبه بدفع مبلغ 214 ألف جنيه مصاريف تقاضٍ، بقيمة 7.5% من مجمل المبلغ المتنازع عليه، وهو هنا قيمة عقد الشراء.
فجأة، وجد العمدة نفسه، أمام مزيدٍ من الأعباء المالية، وفشل في الحصول على صورة الحكم، حتى مضت مهلة الـ60 يومًا المخصصة لتقديم الطعن أمام محكمة النقض، وضاع حقه في اللجوء لدرجات التقاضي المختلفة. كان ذلك في 26 يوليو/ تموز من العام 2020، لكنه ليس المتضرر الأخير.
وبات رهن تسليم نسخة من أوراق الأحكام للمتقاضين حتى يتم سداد رسوم التقاضي، نهجًا تتبعه العديد من المحاكم بالمخالفة لقانون المرافعات، الذي ينص في المادة 255 منه على "إلزام الطاعن بأن يرفق بصحيفة طعنه المستندات التى تؤيد الطعن، كما يتوجب على موظفي المحكمة التى أصدرت الحكم المطعون فيه أو الحكم الابتدائي، بحسب الأحوال أن يسلم، ودون المطالبة برسوم، لمن يشاء من الخصوم، خلال سبعة أيام على الأكثر، ما يطلبه من صور الأحكام أو المستندات أو الأوراق مذيلة بعبارة صورة لتقديمها إلى محكمة النقض ".
ونتيجة لذلك النهج، استطاعت المحاكم زيادة محصلاتها المالية بل ومضاعفتها، ففي 23 فبراير/ شباط الماضي، أعلن مجلس الدولة (الجهة القضائية المختصة بنظر النزاعات الإدارية التي تقام ضد الحكومة) خلال احتفالية أطلق عليها "يوم الوفاء والإنجاز"، نجاح وحدة المطالبة ومتابعة تحصيل حقوق الدولة، التي أُنشئت في سبتمبر/ أيلول من العام 2019 ، في تحصيل نحو مليار و100 مليون جنيه، تحت بند الرسوم القضائية من حقوق الدولة خلال الأعوام القضائية من 2019 وحتى الآن.
وأوضح المجلس أن إجمالي الرسوم القضائية المحصلة خلال ستة أشهر من العام القضائي الجاري 2021/ 2022 بلغ أكثر من 250 مليون جنيه، وذلك مقارنة بمبلغ 92 مليون و627 ألف جنيه، حصلها المجلس خلال العام القضائي السابق على إنشاء الوحدة ( 2018/ 2019).
وهكذا يتضح أن ارتفاع المحصلات المالية للمحاكم، لا يتعلق بالزيادة المطردة في عدد الدعاوى، وتحقيق نسب عالية من الإنجاز القضائي، بحسب ما داومت وزارة العدل والجهات القضائية على إعلانه، بل أن الطريقة التي يتم التعامل بها لتحصيل هذه المبالغ الكبيرة ساهمت في ذلك أيضًا، بناءً على تعليمات إدارية تتبعها تلك الوحدات سواء في مجلس الدولة أو بعض محاكم القضاء العادي، تلزم خاسري الدعاوى بسداد الرسوم القضائية المقررة عليهم للحصول على صور ضوئية من الأحكام، حتى يتمكنوا من استئنافها أو الطعن عليها أمام محاكم الدرجة الثانية.
وأكد مصدر في وزارة العدل على درجة رئيس محكمة للمنصة، فضل عدم ذكر اسمه، وجود تلك التعليمات بالفعل والخاصة بتحصيل الرسوم، لكنه قال "ليست معممة في جميع محاكم الجمهورية، بعض المحاكم تطبقها والبعض الآخر لا يطبقها، نظراً لأنه لا توجد قواعد قانونية محددة تنظم تحصيل هذه الرسوم، وإنما متروكة لإدارات المحاكم لتحصيلها على الوجه الذي تراه".
المؤسسات الحكومية تتضرر أيضًا
تنطبق تلك الإجراءات على كافة خاسري الدعاوى، سواء الأفراد العاديين أو المؤسسات الحكومية. ففي سبتمبر/ أيلول 2020 تقدمت جامعة المنوفية بطلب للجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة، لإبداء الرأي القانوني بخصوص مدى مشروعية التعليمات الصادرة لموظفي مجلس الدولة، بحظر تسليم الجامعة صورًا طبق الأصل من الأحكام الصادرة عن المحكمة الإدارية بالمنوفية لصالح بعض العاملين لديها، قبل سدادها الرسوم القضائية المستحقة عليها بمقتضى هذه الأحكام.
وأوضحت الجامعة في طلبها أن بعض العاملين صدرت لصالحهم أحكامًا من المحكمة الإدارية بالمنوفية، بأحقيتهم في صرف علاوة الحد الأدنى المقررة بقرار رئيس مجلس الوزراء رقم 22 لسنة 2014 بنسبة 400 % من الأجر الأساسي، اعتبارًا من يناير/ كانون الثاني 2014، ولدى شروع الجامعة في اتخاذ إجراءات الطعن فوجئت برفض تسليمها صورة طبق الأصل إلا بعد سداد الرسوم.
وقالت الجامعة إن هذه التعليما يترتب عليها "إهدار المال العام باعتبار أن الصادرة لصالحهم الأحكام يتقاضون بالفعل المبالغ ذاتها المقضي لهم بها".
وإذا كانت المؤسسات الحكومية نفسها تشتكي من الطريقة التي يتم التعامل بها في المحاكم، وتعجز عن الاستفادة بدرجات التقاضي، بما تملكه من مخصصات مالية وقانونيين، فإن ذلك يعكس مدى العجز والضرر الذي يلحق بالمواطن العادي جراء تلك التعاملات.
ولقد عجزت جامعة المنوفية نفسها، تغيير هذا "الأمر الواقع" إذ قوبل طلبها بالتفسير من مجلس الدولة بالرفض، على اعتبار أنها "غير ذات صفة". وأصدرت الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة فتواها في 16 فبراير الماضي بـ "عدم قبول طلب الرأي، استنادًا لوروده من رئيس الجامعة، وهو بالنسبة للجمعية غير ذي صفة"، ولفتت الجمعية إلى ذوي الاختصاص وهم "رئيس الجمهورية، ورئيس الهيئة التشريعية، ورئيس مجلس الوزراء، أو من أحد الوزراء، أو من رئيس مجلس الدولة".
وعلمت المنصة أن جامعة المنوفية ليست الوحيدة التي أبدت تضررها من تلك التعليمات، التي كانت محل شكاوى وتظلمات عديدة من الجهات الحكومية والأفراد على حد سواء، بوصفها مخالفة للقوانين، أو لكونها تمس حق التقاضي المكفول دستوريًا.
لي الذراع: استسهال يخالف القانون
في غضون ذلك، قال أحد المحامين المتخصصين في المنازعات الضريبية أمام مجلس الدولة، فضل عدم ذكر اسمه، إن هذه التعليمات تخالف الدستور والقوانين على حد سواء، متسائلًا عن السبب والمبرر الذي يجعل الجهات القضائية تصدر تعليمات إدارية تخالف القوانين، في ظل وجود إجراءات قانونية تكفل تحصيل الدولة لهذه الرسوم من المكلف بها، بعد حسم النزاع، بحكم بات غير قابل للطعن.
وتعجب المحامي في تصريحه للمنصة، من اتباع ذلك الأسلوب في التحصيل، قائلًا "لا سبيل هنا للحديث عن عجز الدولة في اقتضاء حقوقها، للحد الذي يجبر الجهات القضائية على مخالفة القانون لتحصيل تلك الحقوق"، مضيفًأ "الدولة غير الأفراد، ولها من السلطات ما يمكنها من توقيع الحجز الإداري على ممتلكات المدين بتلك الرسوم لحين سدادها".
وبحسب المحامي، فإن قانون الرسوم القضائية نظم مسألة تحصيل هذه الرسوم؛ بأن منح المكلف بأدئها مهلة 90 يومًا لسدادها، من وقت إعلانه بخسارته للدعوى المقامة منه أو عليه، وقرر إعفائه من ثلث قيمة الرسم حال سداده له في غضون المهلة المقررة.
وتابع "بما أن القانون يمنح المتقاضين سواء كانوا جهات أو أشخاص مهلة تفوق مهلة الـ60 يومًا المقررة للطعن على الأحكام أمام النقض، كفترة سماح لسداد هذه الرسوم، فما الداعي وراء ليّ ذراع المتقاضين وتعليق حقهم في الطعن والتقاضي على سداد هذه الرسوم".
ولم يفت على المصدر التنويه إلى حالة الغلاء غير المبررة للرسوم القضائية الخاصة باستخراج شهادات أو إقامة الدعاوى أمام المحاكم، لافتًا إلى أن الشهادات التي تستخرج من المحاكم والتي كانت قيمتها تترواح من جنيهين إلى خمسة جنيهات، ارتفع سعرها مؤخرًا لـ45 جنيهًا، مقسمة ما بين 40 جنيهًا قيمة الشهادة وخمسة جنيهات تبرع إجباري لصندوق تكريم أسر الشهداء.
ميكنة القضاء: نحو تأخير ورسوم أكبر
ولفت المصدر ذاته إلى أن مضاعفة أسعار الشهادات على هذا النحو، تحصله الجهات القضائية تحت بند "رسوم الخدمة المميكنة"، علمًا بأن الشهادة لم يطرأ عليها أي تغيير يكسبها صفة الميكنة، سواء من حيث الشكل أو المضمون، كما لم تشهد طريقة إصدارها تغييرًا من حيث السرعة وتوفير الوقت، حيث لا تزال المحاكم تصدرها بالنظام القديم الذي يعتمد على تقديم المحامي للطلب صباحًا، ثم ينتظر تسلم الشهادة في آخر يوم العمل، وبالتحديد في الساعة الثانية ظهرًا.
وأضاف "بل على العكس بعد الميكنة أصبح استخراج تلك الشهادة يستغرق في بعض الأحيان يومي عمل، حيث تحظر التعليمات الإدارية على موظفي الخزينة تحصيل أية مبالغ مهما كانت إلا إلكترونيًا، ومن خلال بطاقة بنكية، في الوقت الذي يتواجد في كل المحاكم موظف واحد بجهاز تحصيل واحد في خزينتها.
وتابع أن العادة جرت على أن تحصيل الرسوم نقدًا هو الأنسب مع هذا النموذج، حيث تتسبب إجراءات التحصيل الإلكتروني في التكدس أمام مكاتب الخزينة بمختلف المحاكم، قائلًا "مع مطلق احترامنا لمساعي التحول التكنولوجي لمنظومة العدالة وما تسمح به للمحاكم من وقف توريد أموالها نقدًا لوزارة المالية، إلا أن تبني تطوير مكاتب الخزينة بالمحاكم تكنولوجيًا يستلزم تكليف 5 موظفين على الأقل بإتمام عمليات التحصيل الإلكتروني لا الاعتماد على موظف واحد، حتى يتم إنجاز ذات العدد من الشهادات التي كانت تنجزها المحاكم وقت التحصيل النقدي".
وارتباطًا بالحديث عن ارتفاع أسعار الرسوم، قال محام آخر ممارس للمحاماة إلى جانب عمله بالإدارة القانونية لإحدى الجهات الرسمية، إن مكتبه الخاص بات يرفض العديد من القضايا والدعاوى المدنية، بالنظر لهذه التعليمات من جهة، ولارتفاع قيمة الرسوم القضائية التي تستلزمها من جهة أخرى، خشية عجز أصحابها عن سداد تلك الرسوم، وحتى لا يؤثر خسارتها على اسمه كمحامٍ.
وأكد المحامي الذي فضل عدم نشر اسمه، أن هذه التعليمات لازالت سارية حتى اﻵن، وأنه فوجئ بصدورها، قبل أسبوعين، لدى رغبته في الطعن على أحد الأحكام أمام المحكمة الإدارية العليا، حيث طالبه سكرتير الدائرة التي أصدرت حكم أول درجة، بضرورة التوجه إلى قسم المطالبة المالية بمجلس الدولة، لسداد الرسوم القضائية المترتبة على خسارته للنزاع في محكمة القضاء الإداري، حتى يتم التصريح له بالحصول على صورة من الحكم، ويتمكن من الطعن عليه أمام المحكمة الإدارية العليا.
المحاكم سيدة رسومها
وشدد المصدر على أن منظومة الرسوم القضائية باتت صعبةً للغاية، موضحًا أن ما يزيد من صعوبة الأمر عدم وجود معيار محدد بشأن الرسوم يتم العمل به في جميع المحاكم، حيث يُسمح لكل محكمة بإعمال سلطتها التقديرية في هذا الأمر، قائلًا "فمحكمة شمال القاهرة بالعباسية على سبيل المثال تفرض رسومًا على قيد الدعاوى، واستخراج الشهادات لصالح صندوق النيابات بواقع 50 جنيهًا للدعوى الواحدة، وفي المقابل تمنح المحامين أوراقًا بيضاء لا تخص وزارة المالية، ولا يظهر منها أية بيانات تخص المدعي أو الغرض من التحصيل".
ولفت المحامي إلى أن أكثر الدعاوى التي ستتأثر تكلفتها بالنظر لهذه التعليمات هي الدعاوى التي ترتبط باسترداد أو النزاع على قيم مالية، حيث يتم احتساب الرسوم بناء على تلك القيم، ويأتي على رأسها "الدعاوى العمالية التي يطالب فيها العمال بصرف رصيد إجازاتهم أو رواتبهم ومستحقاتهم المالية لدى جهات عملهم"، وذلك على الرغم من أن القضايا العمالية معفية بنص قانون العمل من سداد هذه الرسوم، إلا أن معظم المحاكم تحصلها منهم.
وأضاف "كذلك الحال بالنسبة لقضايا الأسرة المثارة حول النفقة والحقوق المالية، وأخيرًا قضايا الضرائب التي ستتضرر أشد الضرر من هذه التعليمات بوصفها تتضمن على الدوام التنازع حول مبالغ مالية كبيرة خاصة في حالات الشركات الاستثمارية". وهكذا فإن القائمة التي تضم رجل الأعمال محمد العمدة بعدماخسر المحل التجاري ودفع الشرط الجزائي، تطول وتتسع للكثيرين، فيما تزدا أموال "المحصلات القضائية".