يعيش البشر في عالم مضغوط، وفي السنوات الأخيرة نسمع خفق جناحي نسر الفناء الأسود يضرب عاليًا فوقنا؛ أزمة مناخ، أوبئة، وأخيرًا حرب عالمية ثالثة يملك أطرافها الرؤوس النووية والقدرة على التلويح باستخدامها، فضلًا عن عالم رأسمالي، لا يرضى إلا بلهاث أفراده من أجل البقاء على قيد الحياة، أما في بلادنا ففوق السياسات الاقتصادية التي تجثم فوق صدورنا، ثمة إدراك أن لا قبل لنا بالمشاركة بالتغيير، فالسياسة قد تم احتكارها، النشاط الحقوقي شبه محاصر، أما الهزائم السابقة فما زالت غائرة في نفوسنا.
لذا تنتشر في العالم ما يمكن تسميته بفلسفة الرواقية الحديثة، والتي تتكئ على تعليمات الفلسفة الرواقية التي نشأت في اليونان على يد زينون، ثم تطورت على يد الفلاسفة الرومان المتأخرين كماركوس أوريليوس وسينيكا وإبكتيتوس.
خلال فترة الجائحة فقط، نمت شعبية الرواقية. فقد ارتفعت مبيعات التأملات لماركوس أوريليوس بنسبة 28% في النصف الأول من عام 2020 مقارنة بعام 2019، وزادت مبيعات كتاب سينيكا رسائل من رواقي بنسبة 42% لنسخته الورقية، بينما ارتفعت نسبة مبيعات نسخته الإلكترونية بنسبة 356%.
وصرحت دار Penguin Random House لصحيفة الجارديان أنها باعت 16,000 نسخة من التأملات في عام 2012، في حين باعت في 2019 أكثر أكثر من 100,000 نسخة. وقال ممثل بنجوين "لقد لاحظنا زيادةً طبيعيةً (غامضةً بعض الشيء) على مدار العام في مبيعاتنا للفلاسفة الرواقيين".
لكن هل تعني الفلسفة الرواقية اللامبالاة بالعالم أو الانسحاب منه، أن يدور كل شيء حول مصلحتنا، أن كل ما يهم هو رحلتنا الشخصية في الكون، أما كل ما عدا ذلك فليحترق، هل هي فقط أن تصير حياتنا أكثر إيجابية بأكثر السبل أنانية وسذاجة: إقناع أنفسنا بأننا أقوياء وإنكار هشاشتنا وتزييف مشاعرنا، أنه لا يمكن أن نلوم إلا أنفسنا على ما يحيط بنا من ظلم ومصائب، كما يخبرنا رجال الأعمال والساسة أننا المسؤولون عن فقرنا على سبيل المثال، أن نعتزل الناس لأنهم شر مطلق، هل يمكن اختزالها إلى مجرد قواعد للسلوك، منزوعة الحكمة لا يهمها في الأساس الاستناد أو امتلاك منظومة أخلاقية، بل تعزيز الانكباب على الذات، بوصف هدفها الوحيد هو النجاة الفردية.
وفق الصحفي وخبير الاقتصاد السياسي وائل جمال ، فإن واحدة من أهم القيم التي أرستها النيوليبرالية في حياة الناس اليومية، هي أنهم وحدهم وأن الآخرين محل شك دائم كمنافسين في العمل، مرشحين للقيام بسلوك مؤذ، كما أنها تبرر الفشل والنجاح بتحميل الأفراد مسؤولية تغيير أحوالهم، لذا فانتشار ثقافة اللجوء للتنمية البشرية وأنواع معينة من الميديتشين هو لجوء مبرر تمامًا بسبب هذا الضغط، لأنه يعيد خلق وتغذية الفردية والذاتية؛ أنت أولًا، لا ترهق نفسك بالآخرين.. لا أحد يستحق التضحية.
وفي مقالها "اللامبالاة السياسية.. يأس أم إعادة إحياء للرواقية القديمة"، تقول الكاتبة رباب كمال "ولعلّ أبرز أنماط اللّامبالاة هي تلك التي تُصيب أولئك الذين يتبنّون قضايا حقوقية، بدون تحقيق إنجاز يُذكر بعد سنوات من النضال، بل قد يتعرّضون لمشاكل اجتماعية وقانونية، لذلك فإنّ اللّامبالاة التي تصيبهم قد تكون ناتجة عمّا يُعرف في الطب النفسي بال Burn Out أو إنهاك القوى، وعدم القدرة على ممارسة الجدال نفسه وتكراره، والدفاع عمّا يبدو بديهيًا".
تلك الحالة هي التي جعلت كثيرًا من المتطوعين وبعض الحقوقيين والنشطاء يؤثرون الانسحاب، أو ترشيد المجهود بعد أعوام من النضال في المجال العام، ويتبنّون خطابًا يبدو أقرب إلى خطابات التنمية البشرية، كما حدث بعد سلسلة الاحتجاجات في المنطقة العربية في العقد الأخير.
لكنّ المثير للاهتمام في بعض هذه الحالات الشخصية، هو أنّ اللّامبالاة ليست مصحوبة بالحزن أو الانفصال عن الواقع، وإنما قد تتجلى في صورة عدم تكرار تجارب ماضوية مؤلمة، ويتحوّل اهتمام الفرد إلى الاعتناء بنفسه بدنيًا ونفسيًا، مع ترشيد الطاقة في العمل لا تركه تمامًا. أي قد تضفي اللّامبالاة الظاهرية صفة العقلانية والتوازن على أصحابها، وتعيدهم إلى الاهتمام بأنفسهم بقدر ما يهتمّون بالعالم ومصيره"
تعليب الفلسفة الرواقية القديمة، هو ما فعلته كتب الرواقية الحديثة، التي انتزعت من الرواقية دسامة عناصرها، لصالح خلطة من الأفكار هي أقرب للتنمية البشرية، والتي تبدو جاذبة أكثر لعالم القادة والمديرين التنفيذين ورواد وادي السيليكون، ليست تلك هي الرواقية التي ألهمت مفكرين كبار أمثال مونتين وديكارت وباسكال أو نيتشه وشوبنهاور، كما ينتبه إلى ذلك المفكر المغربي عبد السلام بنعبد العالي، في مقاله "رواقيون بلا رواقية" الذي ينتهي فيه إلى التشكيك في قدرة الرواقية على أن تلائم حياتنا المعاصرة، حيث كان الرواقي القديم "يشعر بمكانته في العالم، عندما كان يشعر بانتمائه لكل عظيم لا يشكل هو إلا عنصرًا صغيرًا منه، فذلك كان ضمن عالم متناغم محدود".
ما يتم تجاهله في الرواقية الحديثة على سبيل المثال هو عدم إيمان الرواقيين بالجسد، يواصل صاحب الفلسفة فنًا للعيش، بينما لا يعتبر الرواقيون الجدد الجسد عدوًا بل يؤمنون بطاقته وروحانيته وليست مجرد لحظات من الطاقة الإيجابية، بينما الرواقية تطمح إلى أن تجعل من الحياة محنة، وامتحانًا لا يتوقف، يغدو فيه الجسد برغباته وأهوائه عدونا الأكبر.
وبدلًا من أن تكون الرواقية مرتبطة بمنظومة أخلاق ومبادئ، تتحول إلى دليل عملي وسلوك يدرب صاحبه على التعويل على نفسه أكثر مما يعول على ما هو خارج عنه، وبدلًا من تغيير العالم، عليه أن يكتفي بتغيير ما بيده، أو كما تؤكد نانسي شيرمان أستاذ الفلسفة في جامعة جورج تاون في كتابها Stoic Wisdom: Ancient Lessons for Modern Resilience، أن الرواقية تهدف إلى نظام أخلاقي منضبط يساعدنا على التعامل مع بعضنا البعض بحسن نية وكرامة، الغاية النهائية ليست الخير بل خيرنا جميعا، وإنها ليست مجرد نظام تشغيل شخصي حيث ترتبط الذات بالجماعة محليًا وجماعيًا.
**
بعض أفكار الرواقية الحديثة، ليست إلا انحرافات نحو تبلد المشاعر تجاه الغير، ففيما تحث الرواقية مثلًا على أن نرى بشكل شخصي في مرورنا بالأزمات، نقطة نور نحاول الانطلاق منها نحو فرص وأفكار أفضل لتطوير أنفسنا، قد تفسر أنه لا يسمح لك بالشعور بالحزن أو بالشكوى من مصيبة قد حلت بك، في اللحظة التي تنتظر فيها عزاءً ما، لن يحاول المتأثر بالرواقية الحديثة أن يشاطرك مشاعرك أو يمنحك شيئًا من العزاء، لأن ذلك تحديدًا هو ما تحتاجه في تلك اللحظة، وبدلًا من ذلك سيسعى كي يصدمك بحقيقة ما حدث وأن يبصرك فورًا بالنقاط الإيجابية التي نجمت عن الكارثة، لأن ما رآه في الأمر هو أسطورة "الرجل الصلب"، بالمعنى النيتشوي أحيانًا.
تقول نانسي شيرمان إن إحدى الأساطير المتعلقة بالرواقية هي مقاومة الهشاشة، وأن ما يعطينا إياه الرواقيون هي دروس لنصبح أقوياء بما يكفي لتجاهل الكوارث أو التعامل مع الخسارات على أنها مصممة لتجعلنا أقوى بحيث لا ننكسر بسهولة.
لا يعد الرواقيون بعالم خال من الكوارث أو سوء الحظ، وهم إن أرادوا تسلحينا ضدها، فهم يصرون على أننا نفقد إنسانيتنا إذا ما حاولنا أن نصبح غير معرضين للخطر، يقول الفيلسوف الرواقي سينيكا في إحدى رسائله إنه "طبيب يقدم العلاج ولكنه دائمًا مريض في غرفة المرض" لأن لا أحد قادر على تقديم المشورة السليمة إذا ما لم يكن يعاني ويعرف الهشاشة، وتظهر تعليقات سينكا حزنه الكبير على وفاة أحد أصدقائه.
ما أراده الرواقيون هو إدارة المشاعر المستهلكة، لا قمعها، كالخوف والغضب، ويحثون على إظهار المشاعر الطيبة كالامتنان والتعاطف، أما النسخة المحدثة فتميل إلى فكرة ذكورية سامة عن أن السيطرة على العواطف هي علامة على التفوق الأخلاقي لجنس الرجال على النساء، مثال على ذلك الكاتب الكندي جوردان بيترسون الذي يعتقد أن الحضارة الغربية قائمة على النظام الأبوي، ويدعي أن الروح الذكورية تتعرض للهجوم، ويدعو إلى العودة إلى الأدوار الجنسانية التي كانت سائدة في خمسينيات القرن الماضي، وغالبًا ما يستشهد بكتاباته باعتباره أحد الحكماء الصادقين اللذين توصف كتاباتهم بأنها عودة إلى الرواقيين.
وترى شيرمان أن هذا الشكل المشوه من الرواقية هو رد فعل على النسوية الحديثة، نسخة من الذكورة تفتخر بالقوة الجسدية وانعدام الشعور بالعاطفة.
**
أحد الكتب ذائعة الصيت، في مجال الرواقية الحديثة هو كتاب ريان هوليداي العقبة هي الطريق، والذي يعتمد على إحدى أفكار ماركوس أوريليوس في كتابه التأملات، أن ما نملك تغييره هو موقفنا من العالم وليس العالم، وهو ما يتم تفسيره بأن اللوم كله يقع داخلنا وليس على المشكلات الخارجية، ما يجعلنا أكثر سلبية وانكبابًا على ذواتنا، وهو ما تحاول شيرمان تفنيده، بأن ما يقصده الرواقيون هنا هو أننا نرى العالم من خلال انحيازات شخصية ولا ندرك ذلك، لذا حاولوا تقديم تقنية للتفكير يمكن أن تساعدنا على إبطاء إطلاق الأحكام أو التوصل إلى نتائج وقرارات ناتجة عن تلك التحيزات، المقصود هنا هو تسهيل انخراطنا في العالم وليس الانسحاب منه من خلال تغيير طريقة إدراكنا له، يمكنا لنا أن نغير ما لا نقبله فيه لا في أنفسنا فقط.
العالم وفق الرواقيين هو منزلنا الكبير، لا يمكننا أن نزدهر فيه بمعزل عن الكل، السياسي والاجتماعي.
أو كما يقول ماركوس أوريليوس في كتاب التأملات "إذا سبق لك وأن رأيت يدًا أو رأسًا مفصولًا عن باقي الجسد، فهذا ما يصنعه الإنسان بنفسه، عندما يعزل نفسه عن باقي البشر".
**
تتساءل شايلا لوف في مقالها "إحياء الرواقية في العالم الحديث" عن الذي ستقوم به الرواقية الحديثة. السلام الداخلي والصفاء العقلي؟ أم الإنتاجية وإنشاء الـ 500 شركة الأكثر إيرادًا؟ أم مُكافحة تغير المناخ والعدالة الاجتماعية؟ فمهما كان مقصود الرواقيين القدامى، فإن الرواقية مفتوحةٌ للتفسير اليوم؛ لدرجة أنّ أولئك المُتكاسلين يمكنهم استخدامها كذريعةٍ لتخاذلهم، سواءٌ بوعيٍ أم بغير وعيٍ، قد ينظر المرء إلى تقسيم إبيكتيتوس للسيطرة والفكر "إذا كان تغير المُناخ أو وحشية الشرطة خارجتين عن سيطرتي، فليس لي أن أقلق بشأنهما".
بينما ترى آدا بالمر المؤرخة في جامعة شيكاغو أنه ليس من المستغرب أن يحب أصحاب المليارات فلسفة لا تتطلب منهم التخلي عن ثرواتهم، لكن الاكتفاء بتقديم المشورة للأقل حظًا ألا يقلقوا كثيرًا بشأن ظروفهم وأن يتقبلوا نصيبهم، كما فعل زينون الرواقي عندما فقد كل ممتلكاته، يحذر الفيلسوف جول إيفانز وأحد رواد الرواقية الحديثة، من خطر سعي كبار الأثرياء إلى فلسفات تعطي شرعية لهم ولأنماط حياتهم، بدلا من تبصيرهم بالتزاماتهم تجاه إخوانهم.
يقول آلان باديو في كتابه ميتافيزيقا السعادة الحقيقية إن "العالم المعاصر لا يمنحنا غير سعادة مغلوطة هي إشباع الرغبات الفرديّة، الفيلسوف مطالب بالكشف عن زيف هذه السعادة وتوجيهنا نحو مفهوم مغاير عن السعادة الحقيقيّة، ولأنّك أيضًا من أجل أن تكون سعيدًا، ينبغي أن ترفض مجرّد الاكتفاء بما لديك".
إعادة إبداع الذات كما يراه عبد السلام بنعبد بنعالي في كتابه الفلسفة كفن للعيش، لا يرد إلى نزعة فردانية متجاوزة ولا يدل على هجر أو إنكار للبعد السياسي للحياة البشرية، ليس مجرد لا مبالاة، إنما شكل مقاومة لا تنفك تنتزع حريتها وتفعل قوتها، ذلك التفعيل، الذي يرى فيه دولوز بعد سبينوزا ونيتشه، تفعيلًا للفرح، باعتبار أن الحزن هو الحيلولة بين الإنسان وبين ما في مكنته من قوة وما في استطاعته من جهد.