"الألم والشر هما العنصران اللذين يحركان الحياة، المعاناة هو جوهرها وحقيقتها، كل موارد العالم لا تكفي لإشباع رغبة بشرية واحدة لهذا نحن في عجز دائم، لسنا سوى حملان في حقل تلهو تحت نظر جزار، ينقص منها واحدًا تلو آخر كفريسة، الحياة صفقة خاسرة لا تغطي تكاليفها، الحياة جحيم كل ما بإمكاننا فعله هو أن نبني غرفة مقاومة للحريق"، يخبرنا شوبنهاور.
لا تصدق هذا الرجل الذي كان كل شيء في حياته يدفعه للتشاؤم، كرهته أمه وانتحر والده وعاش حياته منعزلًا بغرفة، بل افهمه، ولا سبيل لفهمه في ظني إلا بعد إزالة غشاوة الظلمة الزائفة والتشاؤم المفرط في مبالغته، يمكن بقلب ذلك التشاؤم. أن نكتشف الأمل في جوهره، حتى وهو يدعي أنه امتلك حقيقة العالم، لم يفعل إلا ما فعله كل فيلسوف سبقه أو تلاه.
لو أن شيئا علينا تعلمه من تتابع الفلاسفة على مر العصور، أن كل فيلسوف يبني منهجه على هدم من سبقه، وهو سبب أدعى لكي نفهم أن الكامن في رحلة كل منهم في إدراك الحقيقة المطلقة هو أن لا وجود لها، وأنهم لم يروا سوى جانب واحد من جوانب هذا الوجود، ستكون قطعًا زاوية نظر أعمق من رؤانا، لكن نقدها، بل وإعادة إحيائها أمر ممكن.
هكذا لا تخضعنا فكرة، ولا نجعل منها قانونًا يحمل ختم الكهنوت، بل نستجيب لأجزاء منها، ونملك كل الحق في رفض ما لا يقنعنا أو ما لا يناسبنا.
يمكن لشوبنهاور وعبر التخلص من جاذبية تشاؤمه وسطوته الآسرة كفيلسوف، أن يعلمنا كيف نرى.
خطوة إلى الوراء مع نفس عميق
دعه أولًا يخبرنا بما يظنه "شجاعة النطق بالحقيقة"، سنتركه يتحدث كما شاء، ثم نفسر ونستجيب وننتخب ما نقبله وما ونرفضه، ونعيد التأويل.
يستند تشاؤم شوبنهاور إلى فكرتين؛ الأولى، لا ترى البشر من الداخل إلا كائنات تحركها الرغبة لا العقل، وبدلًا من سعيها لفهم العالم أو معرفته كل ما يهمها هو نهم لا يشبع للامتلاك.
أما الثانية، فإن ذلك العالم، على عكس ما يظن الفيلسوف جورج ليبنتيز ، ليس أفضل العوالم الممكنة، بل هو عالم شديد السوء، عمله هو أن يضاعف من الألم والمعاناة، الطبيعة فيه ساحة معركة مميتة لمخلوقات مميتة.
لا يمكن أن يكون هذا العالم، من وجهة نظره، مخلوقًا من قبل قوة عليا، بالغة الحكمة والخيرية أو قديرة، لسببين: البؤس الذي يزخر به هذ العالم، والنقص الجلي في أهم ثماره، الإنسان، الذي يبدو كأنه محاكاة ساخرة لما ينبغي عليه أن يكونه.
لا يرى شوبنهاور فقط أن المعاناة هي جوهر الحياة، بل أن الألم والشر هو محركها الضروري؛ حياة بلا ألم ومعاناة، خالية من الاحتياج والبلايا، أو إن كان كل ما نفعله لا يواجه أي عقبات ويتوج دائمًا بالنجاح، حياة بهذا الشكل، لن تترك لنا أي خيارات سوى الضجر أو الجنون أو الانتحار.
ما يحفزنا هو الألم، كألم العطش أو الجوع، الجنس، فما نظنه إشباعًا لمتعة هو مجرد تخفيف مؤقت للمعاناة، التي لا نغادر دائرتها أو ظلها الجاثم أبدًا، بل تعود أكثر إلحاحًا، بينما ترفع المتعة من مستوى متطلباتها، فيصعب إشباعها، بتحقق الآمال والأحلام تتلاشى المتعة ونختبر الخسارة.
لكن مصدر معاناة البشر الحقيقي، هو الوعي بالزمن. فكل الكائنات الحية تستشعر الآلام الجسدية والملذات، لكن وحده الإنسان هو من يعرف عذاب القلق، لأنه وحده من يفكر في الماضي والمستقبل.
يعرف الحيوان اللذة في حينها والخوف من الشر عند قدومه، لكن الإنسان يستهلك عمره في الخوف من قدومه، مما يزيد من عبئه أضعافًا، قارن مقدار الوقت الذي قضيته في الأمل والحلم بالحب أو الندم على موت أحدهم، بالوقت الذي نلت فيه ملذات ما حلمت به أو ما امتلكته.
كما أننا جميعًا نخضع لإرادة قوة عمياء، سطوتها تفوق قدرات ذواتنا، قوة في الأساس لا تأبه بنا، وتجعلنا معلقين في بندول متأرجح بين قطبين: الحاجة لإشباع المتعة، والضجر من إشباعها.
إذا كانت الرغبة إذن مصدر كل معاناة وألم، فاقتراح شوبنهاور للحد من المعاناة هو بالحد من رغباتنا، وهو الشيء عينه الذي نصح به الرواقيون.
لكن أفكار شوبنهاور لا تنتهي هنا، بل من ذلك الطريق المفضي إلى العدم يمكن استكشاف حلول لمواجهة رعب الوجود.
مقلوب اليأس
حسنا، الحياة معاناة. فليكن.
ألا يجعلنا وعينا بتلك الحقيقة أقل هشاشة في مواجهة شرور الحياة وآلامها، أن نرى في الألم والجزع سببًا لحياة أكثر صلابة ورسوخًا واستقامة، إذا ما رأينا، مثله، أن ما تنطوي عليه الحياة ليس سوى خيبة أمل وخداع، ألا يحمينا خفض سقف توقعاتنا من السقوط في اليأس.
فكرة كالتخلي عن الرغبة، قد تتحول إلى شيء أكثر منطقية وقابلية للتنفيذ كاستبعاد الرغبات الزائفة، وتركيزها في أهداف أكثر وضوحًا ومنطقية، أن نتخلى عن النهم إلى كل شيء، لصالح ما هو مشبع ومفيد في حياتنا فعلًا، بمعنى آخر: استعادة أصالة تلك الرغبة، بل والاتصال بما هو جوهري حقا في الحياة، بحقيقة شعورنا.
يسلك شوبنهاور الذي استمد كثيرًا من أفكاره من الفلسفات الشرقية كالبوذية والبراهمة، نفس الطريق الذي سلكته الصوفية، يصل شوبنهاور إلى العدم والصوفية إلى الله، لكن الاثنين يشيران إلى الأمر عينه ويحركهما في الجوهر إحساس عميق باليأس واللا جدوى، بطلبهما أن نتخلى عن الرغبة، أن الحياة لا شيء، بفهمهما للسعادة والتعاسة كمظهرين للوهم، وأنه كلما زاد التطلع قل الرضا.
يطلب الاثنان، أن نحيا اللحظة الحاضرة بكثافة، مع اختلاف التشبيه، يجد شوبنهاور في الحيوان ضالته، فكاهله غير مثقل بندم الماضي أو قلق المستقبل، بينما يخبرنا المتصوفة أن الصوفي هو "ابن وقته"، لا ينشغل عن الله في اللحظة الحاضرة، لكنه أيضًا مرن في التقلب من حال إلى حال، لا يغريه الاغتباط ولا تدفعه اللحظات السيئة إلى أغوار اليأس. ما يجعل لكل لحظة قيمتها فنعيشها بأقل قدر من الكدر والشعور بالبلوى، ألا يخدعنا وابل الصور الذي نعيش تحت حصاره عن الرؤية، فنصل إلى سكينة الذهن والثبات أمام تقلبات الزمن، اعتصار كل ما في اللحظة من مباهج.
إذا كان الإنسان مخلوقًا أقل مما ينبغي أن يكون عليه، وفق شوبنهاور، إذًا فتلك هي المسافة التي ينبغي أن نقطعها لسد الهوة. إذا كان البؤس هو حقيقة العالم، فتلك هي الخطة: تغييره.
إن كانت النهاية الحتمية هي الموت، فلا بديل عن أن نحيا كل لحظة بكثافة. إن كانت سجنا، فالهدف هو أن نتحرر.
إذا كان هذا العالم ليس مخلوقًا من قبل قوة عليا، بل إرادة عمياء لا تملك خطة ولا تكترث، وأن كل ما يحدث فيه هو ثمرة أخطائنا، فذلك يعني أن علينا تحمل مسؤولية أفعالنا. وأن لخياراتنا معنى مؤثر أمام الإرادة العمياء التي لا تأبه بنا، وبدلا من توجيه طاقة عداء وسخرية لاتهام خالق صنع الكون كخطأ ينبغي التكفير عنه، يمكن لنا أن نوجه تلك الطاقة لتغيير أفعالنا وتحمل نتائج خياراتنا.
ما يشير إليه شوبنهاور والصوفية في التأكيد على أن جوهر الحياة هو المعاناة، هو ألا نعتبر الشرور أمرًا شاذًا أو غريبًا، وما يقصده كلاهما أن نحيا متحررين إلا من اللحظة الحاضرة، ليس البلادة.
الغفران كوعد للجميع
في مقاله الشهير عن المعاناة في العالم، يخبرنا شوبنهاور، أنه"في الواقع، إن القناعة بأن العالم والإنسان شيء كان يفضل ألا يوجد، لها تأثير يملؤنا بالتسامح نحو بعضنا بعضاً. بل إنه من وجهة النظر هذه لا ينبغي أن نعتبر صيغة الخطاب المهذبة لمخاطبة الآخر هي (سيدي) بل (رفيقي في المعاناة).
يبدو هذا غريبًا، ولكنه متوافق مع الحقائق فهو يرينا الآخرين في المظهر الصحيح، ويذكرنا بذلك الذي هو في آخر المطاف الشئ الأكثر ضرورة في الحياة ، أي التحمل والصبر والتأني وحب الآخرين، وهي أشياء يحتاجها الجميع، وبالتالي يدين بها كل إنسان لأخيه الإنسان".
هل نجح كاتب تلك السطور في تنفيذ ذلك كله؟ هل أطالبك بحياة القديسين؟
لا.. ما يتطلبه مقلوب شوبنهاور، أرضًا يكاد أن يكون خوضها بأكملها مستحيلة علينا في حيواتنا تلك، ما بإمكاننا فعله أن نقطع خطوات، أن نقترب من جوهر حياة أكثر أصالة، أن نكون أكثر قدرة على الجلد في مواجهة شرور الحياة، والأهم أن نكبح ولو قليلًا من ذلك الأناني الذي يكبل العالم إلى ذاته الضيقة، كمن يحاول أن يحشر الكون بغزارته وتنوعه ولانهائيته في قارورة.