"لم يكن يستشف أبدية خارج انحناءة الأيام. كانت السعادة بشرية والأبدية يومية. وكان كل شيء يكمن في أن يعرف الإنسان أن يتواضع وأن ينظم قلبه مع إيقاع الأيام، بدلا من أن يحني إيقاعهما وفق انحناءة أمله".
الموت السعيد، ألبير كامو.
هذه الفقرة من الرواية تلخص فلسفة كامو بأكملها، فعبر تواضع القلب وانحنائه مع تغيرات العالم وتكيفه الدائم مع التقلبات، لن ينكسر أبدًا. فليس صحيحًا "أن القلب يبلى، لكن الجسد يخلق هذا الوهم".
على عكس الكثير من الفلاسفة، وما نتخيله عن ألبير كامو، لم تكن النقطة الأخيرة التي تؤول لها فلسفته عن عالم عبثي، فوضوي بلا جدوى أو معنى، هي التشاؤم. بل بقبوله لغياب المعنى، ينتهي إلى إجابات عن كيف يصير المرء حرًا، أكثر أصالة وشجاعة في تحمل مسؤوليته عن أفعاله، وأن بلوغ السعادة أقرب ما يكون إلى واجب أخلاقي على الإنسان.
البعض يملك رؤية شديدة الوضوح عما يرغب في فعله، لكن البعض الآخر لا يملك تلك القدرة، يربكه التساؤل عن المعنى وراء الأفعال الميكانيكية التي يفعلها كل يوم؛ كالاستيقاظ، الذهاب إلى العمل، النوم، وتكرار تلك الدورة يوميًا. نحن مثل سيزيف، نحمل كل يوم صخرة ثقيلة إلى قمة تل، رغم وعينا أن مصير تلك الصخرة هو السقوط.
بداية العبث
بالتساؤل يبدأ الضجر، وحيث يبدأ الضجر، يبدأ التفكير وإدراك التناقض. تنشأ العبثية أو اللاجدوى وفق كامو من التناقض بين شيئين؛ سعي الإنسان إلى فهم الكون، واستحالة تحقيق ذلك.
وفق كامو، فإن كل جهودنا لإيجاد المعنى تكون مدفوعة بإيجاد نظام موحد للفهم وللمعرفة ينطبق على جميع البشر، وهناك فجوة لا مفر منها بين ما نتخيل أننا نعرفه وما نعرفه حقًا، ما يعني استحالة المعرفة أو اليقين، وبدلًا من أن ندرك حدود العقل نسعى وراء شيء مستحيل لا يمكن تحقيقه.
من تلك النقطة بالضبط، من إدراك العبث الكامن في رفع صخرة سيزيف كل يوم إلى أعلى، من اليأس المطلق من إيجاد المعنى، يسعى كامو في عمله الفكري أسطورة سيزيف ورواية الموت السعيد، إلى تحديد طريقة بسيطة وسهلة للعيش، لا تعتمد على تضليل الذات أو العزاءات الكامنة في خداعها عبر أوهام من اختراعنا.
وفق كامو ما أن يدرك الإنسان عبثية المعنى يكون أمامه أحد ثلاثة حلول؛ الإيمان أو القبول أو الانتحار.
يساوي كامو بين الانتحار والإيمان ويستبعد كليهما، كحلين غير عقلانيين للهروب من معالجة التناقض بين رغبة الإنسان في إيجاد المعنى ولا مبالاة الكون بأفعاله، لأنه بالانتحار يزيل الشخص وجوده المادي الذي كان مسؤولًا عن إيجاد معنى للحياة، والذي لا يمكن أن يوجد بدون العقل البشري. يقول "لا يمكن أن يوجد معنى في الموت أكثر من الحياة". أما الإيمان بفكرة أو معتقد فيعده كامو "انتحارًا فلسفيًا"، فكل المعاني التي يصل المرء إليها عبره هي أوهام لا عقلانية تتحدى العقل وحدوده.
بعد أن استبعد الإيمان والانتحار، كطرق مقبولة لعلاج عبثية الحياة، فإن الخيار الوحيد العقلاني المتبقي هو: القبول بأن السعادة والعبثية "ابنان لا ينفصلان لنفس الأرض".
اكتشاف عبثية الوجود يؤهلك للاعتراف والقبول بالحدود البشرية، وحقيقة أنه ليس بإمكاننا أن تجاوز ما هو ممكن، وأن تلك هي الحياة بلا أوهام. لكن خلف تلك المأساة، يمكن الحل الذي يؤهلنا للانتصار على عبثية صخرة سيزيف، فكون الحياة بلا معنى، ذلك بالضبط ما يجعلنا أحرارًا في أن نمنحها أي معنى نريد. ستتوقف عن التفكير في أن هناك شروطًا معيارية للسعادة، وترفع عن عاتقك الضغوط التي يضعها المجتمع كي يصنفك كشخص سعيد.
لا يعني إذن القبول لدى كامو، الخضوع والتسليم بالأمر بالواقع، بل التمرد والمواجهة، فما أن تقرر قبول المعنى الذي اخترته لحياتك بعيدًا عن معايير المجتمع حتى تبدأ في عيش حياة أكثر أصالة وشجاعة.
إرادة السعادة
"يجب أن نتخيل سيزيف سعيدًا"، يقول كامو، الذي يختلف مع وجهة نظر أرسطو إن السعادة كامنة فقط في تراكم الإنجاز وتحقيق الهدف. أي أنها شيء نعمل طيلة حياتنا من أجل تحقيقه، لكن ذلك لا يحدث إلا لقلة ويدين في أغلب الحالات لتقلبات الحظ.
يرتكب المرء خطأً عندما يضع شروطًا للسعادة، كل ما يهم هو إرادة السعادة، أما أشكالها (كالمال، النفوذ، النجاح...) فليست إلا أعذارًا كي نعطل إحساسنا بها. السعادة الأبدية ليست هدفًا واقعيًا، فنحن لا نشعر بالرضا من الأشياء التي حصلنا عليها، وسنسعى دائمًا لما هو أكثر، مطاردة لا تنتهي، لن تجلب سوى التعاسة.
سر سيزيف، ما يحول الأمر كله رأسًا على عقب، هو أنه عندما يعود ليرفع الصخرة مرة أخرى عقب سقوطها، فإنه يصير أقوى من صخرته، إدراكه لعبثية اللعبة هو انتصاره، يصير سيد مصيره، بإيجاد معنى لتلك العملية، دون أن يخشى أبدًا سقوط الصخرة، بل أنه لن يصنع من المعنى الذي سبغه عليها سجنًا، بل شيئا بإمكانه دومًا أن يعيد تشكيله ليبدأ من جديد.
توازن الحرية والعدالة
اعتبر سارتر الحرية أمرًا أساسيًا في حياة البشر وأنهم محكومون بأن يعيشوا أحرارًا وأن من الممكن تحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية في الآن نفسه، أما كامو فرأى أن الحرية المطلقة يجب أن تتوازن مع العدالة المطلقة، فالأولى تؤدي إلى وضع يقمع فيه القوي الضعيف، أما العدل المفرط فإنه يقتل الحرية.
جزء من أسباب عذابنا، وفقًا لكامو، هو رغبتنا في فكرة موحدة تسود العالم نسعى لفرضها الجميع، إنها جزء من الأوهام والعزاءات التي نظن بها أننا نجد معنىً واحدًا للعالم، ونظن أننا سنحصل عليه بفرض فكرتنا عن الراحة بدلًا من تحمّل عناء فهمه.
يعتقد كامو أن القيم الإنسانية التي نعتنقها داخلنا، والتي تدفعنا إلى خلق المعنى، أقوى من فكرة شوبنهاور عن إرادة عمياء تدفعنا من قبل قوى مجهولة بلا رحمة دون أن نملك القدرة على السيطرة عليها، فـ"هناك في تعلق الإنسان بالحياة، شيء أقوى من كل شرور العالم".
أخيرًا "ما يسمى سببا للعيش هو سبب ممتاز للموت"، إن كان لا مفر من الموت في النهاية فجد شيئًا يستحق الموت لأجله.