ضربت آثار الحرب الروسية-الأوكرانية بظلالها على قطاعات عديدة من المواد الخام والزراعية، حيث تعد الدولتان من أكبر مصدّري القمح في العالم، وأيضًا تنتج روسيا الأسمدة الزراعية الكيماوية الضرورية للزراعة. تزداد المخاوف من حدوث أزمة غذائية جديدة، خاصة وأن الاقتصاد العالمي لم يتعافَ من آثار الإغلاق وتعطل سلاسل الإمداد المصاحبة لجائحة كورونا، التي لم تنتهِ لكن آثارها تشغل الآن مرتبة أقل من الاهتمام، ووطأتها أضعف على الاقتصاد العالمي.
حاليًا تتمحور النقاشات في مصر حول القمح (الخبز) والذرة الصفراء (العلف)، وتتسع أحيانًا إلى الأسمدة الزراعية التي تسيطر فيها روسيا علي حصة مؤثرة من الإنتاج العالمي، وتؤثر بدورها على أسعار الحبوب عالميًا. ورغم أهمية هذه النقاشات فإن اتساع نطاق الأزمة يتطلب أن نحلق بجناحيّ طائر لنرصد الصورة الكليّة للزراعة المصرية "استيراد وتصدير" وعلاقتها بروسيا وأوكرانيا وأزمة النظام الغذائي الزراعي.
في مصر تهيمن التنمية الزراعية المرتكزة على التصدير على السياسة الزراعية المصرية، وتعني هذه السياسة ببساطة أن هناك إمكانية لتأمين احتياجاتنا المحلية من القمح والذرة مثلًا عبر تصدير الأزهار والفاكهة واستيراد القمح والحبوب. ورغم أن المرونة النسبية للفاكهة والأزهار أقل كثيرًا من الحبوب نظرًا لإمكانات التخزين، بالإضافة إلى كونها سلعًا أكثر رفاهية وسهلة الاستبدال، أي عالية المرونة بدرجة أكبر من الحبوب تحديدًا فإن السياسات الزراعية تدعم هذا الاتجاه. وأثبتت أزمة الغذاء الأخيرة في 2007 فشل هذه السياسة لكننا مستمرون في تبنيها.
هنا، نعيد مساءلة كفاءة السياسة التصديرية التي لا زالت متبعة في مصر على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية، وهل يستطيع تصدير الفراولة والبرتقال أن ينجينا من أزمة شح وارتفاع أسعار القمح والأعلاف؟ نحاول أيضًا توسيع إطار فهمنا للسياسات الزراعية وربطها بالمسألة الغذائية لأنهما مترابطين، ويجب التعامل معهما على أنهما نظام غذائي-زراعي متكامل، ينعكس التأثير على أحد أطرافه على الأطراف الأخرى، ونطرح هنا فكرة السيادة الغذائية كإطار لإعادة بناء النظام الغذائي والزراعي المصري، ليهدف بالأساس لإنتاج غذاء صحي وملائم ثقافيًا، عن طريق أساليب سليمة بيئية ومستدامة، ليلبي احتياجات السوق المحلي، ويحسّن جودة حياة المُنتجين من الفلاحين والفلاحات، وكافة المواطنين في المدن والأرياف.
فقر النظام الغذائي: الخبز نموذج
عالميًا تحتل روسيا المركز الأول في تصدير القمح، بينما تأتي أوكرانيا في المركز الخامس، وبالنسبة لمصر يمثل كلا البلدين معًا 80% من وارداتنا من القمح. ومن بين 13 مليون طن تم استيرادها عام 2021 كان نصيب روسيا 7.56 مليون طن، وأوكرانيا 1.9 مليون طن.
ولا تذهب وارداتنا من القمح إلى الخبز وحده، فبحسب تقرير وزارة الزراعة الأمريكية USDA فإن من بين 13.2 مليون طن تم استيرادها عام 2020، فأن 5.46 مليون طن ذهبت لهيئة السلع التمويلية من أجل دقيق الخبز، 7.56 مليون طن ذهبت للقطاع الخاص من أجل المخبوزات والمعجنات والخبز غير المدعم.
القمح هو السلعة الأساسية لإنتاج الغذاء رقم 1 لعموم المصريين وهو الخبز المدعم الذي يستفيد منه ثلثا السكان تقريبًا، لكن الإشكالية أننا نستورد القمح ليس فقط لإنتاج الخبز المدعم، ولكن لكافة أشكال المخبوزات التي تمثل مصدرًا أساسيًا لمكونات غذاء المصريين.
هذا يعيدنا إلى التفكير في إشكالية النظام الغذائي ككل، وفقر العادات ومحدودية الخيارات الغذائية لدي المصريين، وأوضحت دراسة أن المصريين يحصلون على أكثر من ثلث السعرات الحرارية اليومية و45% من البروتين اليومي من القمح، خاصة في شكل خبز. هذا الخلل في النظام الغذائي تظهر ملامحه فيما يعرف بـ العبء المزدوج للجوع، في شكل انتشار مشكلات التقزيم والسمنة بين الأطفال والنساء في مصر وفقًا للمعهد الدولي لأبحاث سياسات الغذاء.
لا اكتفاء حتى في العلف
بالإضافة إلى القمح، فأن مصر تستورد الذرة الصفراء كعلف أساسي من أجل مزارع الدواجن والأسماك، حيث إنها تمثل 70 % من تركيبة علف الدواجن و20 إلى 25% من تركيبة أعلاف الأسماك. في عام 2021 استوردت مصر 10.3 مليون طن ذرة صفراء وكانت أوكرانيا أكبر الموردين بكمية 3.15 مليون طن، بينما تحقق مصر اكتفاءً ذاتيًا قدره 35 % مما تحتاج إليه من الذرة الصفراء.
يتقاطع نمو استيراد الذرة الصفراء مع تطور وتحول وتمركز صناعة الدواجن في مصر. وبحسب تقرير وزارة الزراعة الأمريكية المشار إليه سابقًا، تضم صناعة الدواجن في مصر 25 ألف مزرعة مرخصة، باستثمارات تصل إلى 90 مليار جنيه مصري (4.15 مليار دولار). وفي عام 2020، أنتجت صناعة الدواجن 1.4 مليار دجاجة تسمين، و13 مليار بيضة مائدة.
خلال العقود الثلاثة الأخيرة تطورت وتمركزت مزارع الدواجن، وأصبح هناك نمط إنتاج عالي التحكم من شركات متكاملة تستحوذ على كل مراحل سلاسل القيمة: دجاج اللحم، الأمهات، الكتاكيت. وهذا يزيد من قدرتها على التحكم في السوق. لكن لعب هذا أيضًا دورًا أساسيًا في تقلص أهمية الأصناف المحلية من الدواجن، حيث إن الأصناف الأنسب لـ "صناعة الدواجن" في شكلها الآلي والمتحكم فيه تمامًا ليست بالضرورة الأصناف التي تفضل الأماكن المفتوحة والتغذية البطيئة، وليس التربية في بطاريات والتغذية المكثفة.
من جهة أخرى، قطاع المزارع السمكية يشهد هو الآخر طفرة كبيرة بدأت منذ الثمانينيات وبعد أن كانت البحيرات والبحار والنيل المصدر الأساسي لإنتاجنا السمكي، أصبح إنتاج المصائد الطبيعية يمثل 20% بينما يوفر إنتاج المزارع السمكية 80% من استهلاكنا. وتحتاج هذه الصناعة إلى مساحات كبيرة من الأراضي وأيضا تحتاج إلى أعلاف تعتمد بنسبة الربع على الذرة الصفراء كما أسلفنا.
هل زراعة الموالح أولوية؟
خلال سنوات تصدرت الموالح عناوين أخبار الاقتصاد المتعلقة بصادرات مصر، وبحسب تقرير حديث عن تطور صادرات البرتقال في مصر يتضح أنه منذ عام 2018 تعد مصر أكبر مصدِّر برتقال طازج في العالم، وشهد هذا القطاع نموًا واهتمامًا كبيرين من الدولة، وكذلك من لجنة الزراعة بمجالس النواب ومجلس تصدير الحاصلات البستانية.
هذا القطاع ينمو بشكل كبير، ففي 2020/ 2021 شهد إنتاج البرتقال في مصر زيادة بنسبة 6.25% عن الموسم السابق، ليصل إلى 3.4 مليون طن، كما أن المساحة المنزرعة زادت بنسبة 3.57% لتصل إلى 400 ألف فدان. وتُعد روسيا أكبر مستورد للبرتقال المصري بنسبة 18.5% من صادرات البرتقال المصري. في السنة المالية الماضية صدّرت مصر 257 ألف و196 طنًا، بقيمة 120 مليون دولار. بالنسبة لروسيا، تعد مصر المورد الرئيسي والأكبر للبرتقال الطازج بنسبة 43.5% من وارداتها من البرتقال.
تمثل الفراولة أيضًا "قصة نجاح" أخرى للصادرات المصرية وترتبط بالسوق الروسي، وفقًا لدراسة منشورة في سبتمبر/ أيلول 2021 تستورد روسيا 10% من الفراولة الطازجة و57% من الفراولة المجمدة، بالإضافة إلى حوالي 2% من الفراولة المصنعة (معلبات وما شابه).
تبلغ المساحة الإجمالية الحالية للفراولة المزروعة في مصر حوالي 33 ألفًا و750 فدانًا، وتزيد بمعدلات كبيرة جدًا تصل إلى نحو 4.6%. ويجري استيراد الأصناف المزروعة من الولايات المتحدة وإسبانيا. وبلغت الحصة السوقية لأصناف UF / IFAS الأمريكية اعتبارًا من عام 2019 حوالي 97 % من المساحة المزروعة بالفراولة في مصر. إشكالية الفراولة إذًا لا تتوقف عن كونها محصول تصديري منخفض المرونة، ولكن أيضًا في أننا نزرع أصنافًا أجنبية.
احتفى الإعلام المحلي، بقصة تصدُّر مصر العالم كأكبر منتِج للبرتقال وكونها واحدة من أكبر منتجي الفراولة الطازجة والمجمدة، رغم أزمة سلاسل الإمداد الغذائي، وتقلص سبل عيش المصريين، وصعوبة وصولهم للغذاء، وكأن المصريين سيستبدلون الخبز والسلع الأساسية بالبرتقال والفراولة.
وبحسب تقرير لجهاز التعبئة العام والإحصاء، أوضح أن نسبة الأسر التي لجأت لأنواع منخفضة من الغذاء من جراء أزمة كورونا وصلت 92.5% من حجم العينة، فيما لجأت 89.8% من الأسر إلى خفض استهلاكها للطيور والأسماك، بينما اعتمدت 50% على المساعدات، و لجأت 36.5% من الأسر إلى تقليل الوجبات اليومية، والنسب أعلى في الريف منها في الحضر، وفقًا للدراسة.
كيف ندفع ثمن "خلل الأولويات"؟
الخلل في السياسات الزراعية والغذائية التي لا تتمحور حول بناء نظام زراعي وغذائي متمركز حول الداخل، وعادل اجتماعيًا ومستدام بيئيًا، هو الذي يجعلنا نتجاهل الجوع محليًا، ونستمر في تصدير الفراولة والبرتقال وهي سلع مرنة، ونستورد القمح والذرة الصفراء وهي سلع أقل مرونة، وسنضطر إلى إيجاد دول بديلة لنستورد منها القمح والذرة الصفراء، والقبول بأي ارتفاع في الأسواق العالمية للحبوب، في حين سنجد صعوبة في إيجاد أسواق بديلة للبرتقال والفراولة ونقبل بعروض أقل سعرًا حتى لا تتلف المنتجات الطازجة.
المشكلة ليست فقط، كما يحاول البعض تصويرها، على أنها نتاج اعتماد الشعب على القمح أو الخبز كغذاء رئيسي، ولكن في شكل سياساتنا الزراعية والغذائية؛ تلك التي تدعم الصادرات للفاكهة الطازجة، وتحوّل الإنتاج الداجني إلى صناعة ترتكز على مدخلات إنتاج خارجية في شكل ليس فقط مرهونًا بأسعار المواد عالميًا، ولكنه أيضًا نمط كبير مهدد بالأوبئة وانتشار الأمراض وتوطنها، كما هو الحال مع إنفلونزا الطيور والخنازير، وفي الوقت نفسه تهمّش الفلاحين وصغار المنتِجين وتعوق التحول نحو السيادة الغذائية.
وتعني السيادة الغذائية، إعطاء الأولوية للاقتصادات والأسواق المحلية والوطنية. وهي تدعم إعداد الأغذية وتوزيعها واستهلاكها على أساس الاستدامة البيئية والاجتماعية والاقتصادية، وتتبنى أنظمة إنتاج وتوزيع تحمي الموارد الطبيعية وتحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وتجنب الأساليب الصناعية كثيفة الاستخدام للمبيدات والأسمدة والطاقة التي تضر بالبيئة، وصحة المنتجين والمستهلكين.
نحتاج إلى إعادة تأهيل نظم الإنتاج والاستهلاك المحليين على أساس الإدارة المستدامة، بيئيًا للتربة والمياه والبحار والبذور والثروة الحيوانية، وجميع أنواع التنوع البيولوجي الأخرى، فالهدف هو تطوير الزراعة والتغذية المحلية، من خلال دعم برنامج طموح للتغيير في بنية السياسات الزراعية، نحو دعم الزراعة البيئية والإنتاج المحلي وإعادة التوازن للوجبة الغذائية، بدعم زراعة البقوليات والخضروات وتسهيل نفاذ المُنتجين للسوق المحلي للأراضي والمياه، بدلًا من تسهيل الإجراءات للمصدرين والمنتجين من أجل السوق العالمي.
مرة أخرى، تخبرنا الأزمة أن السياسات الزراعية الموجهة للتصدير غير مجدية، ويجب إعادة بناء نظم بديلة منحازة للمتطلبات والاحتياجات المحلية، لكن يتم تجاهل ذلك واختزال النقاش العام حول القمح ولوم الفقراء؛ الذين لا تتوفر لديهم خيارات كبيرة لاستبدال البرتقال والفراولة الموجهين للتصدير بالخبز.