واحدة من أولى الصور التي تُرافق الناظر عند هبوطه بالطائرة في مطار أغادير بالمغرب هي المساحات الشاسعة المغطاة بالصوب الزراعية، تلك الخيام البلاستيكية التي تمتد لأميال وتحكي قصة نجاح الإقليم الذي يُعد من أبرز مناطق تصدير منتجات الصوب الزراعية، لكن ليست الأمور دائمًا كما تبدو.
يظهر إقليم سوس-ماسة كنقطة مضيئة في خريطة الزراعة المغربية، حيث يُسهم في إنتاج نسبة 77% من الخضروات، و40% من الموالح/الحمضيات المصدرة بحسب إحصاءات MAPM 2014. ووفقًا لتقرير OMRVASM, 2015، تُمثل المنطقة 85% من إجمالي الطماطم المُصدرة من المغرب. وبشكل عام، يعد الإقليم من أهم أقطاب الزراعة في المغرب، حيث يُلبي 55% من الطلب على الفواكة والخضروات المُصدرة لأوروبا.
يرتكز المحور الرئيسي في هذه الرحلة/المقال على زراعة الخضروات في الصوب الزراعية بمنطقة "شتوكة ايت باها" بإقليم سوس-ماسة بالوسط الغربي للمغرب، والتي تغطي مساحة تقدر بأكثر من 38,000 فدان.
وهنا نتساءل عن تطور ذلك النمط وآثاره طويلة المدى، سواء على مستوى الجغرافيا أو التركيبة السكانية أو استغلال الموارد المائية والأرضية، خاصة في ظل ما يُنظر إليه كحالة نجاح يُحتذى بها، أو نموذج جدير بالتطلع للوصول إليه، خاصة مع إطلاق مصر لـمشروع الصوب الزراعية بقاعدة محمد نجيب، الذي أُثير حوله جدلًا كبيرًا.
دعم حكومي
بدأ الاهتمام بزراعة الخضروات وأشجار الموالح في إقليم سوس-ماسة منذ الحقبة الاستعمارية، حيث حددت السلطة الاستعمارية نطاقات محددة للزراعة الموجهة للتصدير، وما عرف وقتها "بالمغرب النافع" والتي كان سهل سوس منها، وتم بها مشروعات زراعية مروية.
وازداد استغلال المياه، سواءَ الجوفية أو السطحية، في ذلك الإقليم بعد نهاية الحماية الاستعمارية.
وخلال فترة ما بعد الاستقلال، تطورت الزراعة الموجهة للتصدير بشكل كبير، وحظيت بدعم واسع من الحكومة المغربية، وخصوصًا في الستينيات.
ارتكز الدعم الحكومي على التوسع في بناء سدود لتخزين مياه الأمطار وتجهيز قنوات الري وتطوير أنظمته، بجانب إعادة توزيع الأراضي الزراعية التي تم استرجاعها من المستعمرين لصالح كبار الملاك والنافذين.
في هذا السياق، تم إعطاء الأولوية للتصدير مع تخفيض الضرائب على الاستثمارات الزراعية لكبار المستثمرين.
وتطورت وتيرة التقدم في ذلك المجال مع الاتفاقيات التجارية مع الاتحاد الأوروبي، التي بدأت في عام 1996 وتعمقت في عام 2008. وما زالت تلك الاتفاقيات، التي تُسهل دخول المنتجات الزراعية المغربية إلى الأسواق الأوروبية في أوقات محددة من السنة، قائمة.
ونتيجة لذلك التوجه نحو الزراعة الموجهة للتصدير، ازداد استغلال الآبار في الإقليم خلال الثلاثين عامًا الماضية. وترسخت هذه السياسات إلى اليوم عبر برنامجي المغرب الأخضر (2008-2022)، والجيل الأخضر (2022-2030).
وإثر اهتمام الدولة بالتصدير، بنت سد يوسف بن تشفين في عام 1972 لتوفير مياه الري لإقليم سوس-ماسة. ولكن مع ذلك، بقيت مياه الآبار الجوفية المصدر الرئيس للري.
ويشير الباحث هربرت بوب إلى أن المساحة السطحية للأراضي المروية في سوس كانت تقدر بحوالي 31 ألف فدان في عام 1950، منها 3.7 ألف فدان يتم ريها بالمياه الجوفية، بينما تم ري الجزء الأكبر بالمياه السطحية من وادي سوس وروافده.
كما يشرح الباحث أن غالبية المساحات الشاسعة بالمنطقة كانت تُدار كأراض جماعية، مخصصة للاستغلال الجماعي التشاركي، مثل الرعي والري عبر مياه المطر (البعلي) للحبوب والأشجار المحلية.
وخلال الفترة الراهنة، وبسبب الزراعة الموجهة للتصدير، زادت المساحة المروية إلى 414 ألف فدان، وهي تمثل حوالي 37.6% من جملة الأراضي الزراعية بالإقليم، مما أدى لتقلص الأراضي الجماعية. وكان لذلك التوسع أثرًا كبيرًا على الجغرافيا المحلية وتوزيع السكان، بالإضافة إلى أوضاع المجتمعات الريفية والبدوية التي كانت تقطن المنطقة.
نموذج "آيت عميرة"
خلال ذلك المسار التاريخي، حدثت تحولات جوهرية في استخدامات الأرض حيث ازدادت المساحات المخصصة لزراعة الحاصلات البستانية الموجهة للتصدير. وتضمن ذلك التوسع زراعة الموالح والزراعة في الصوب، وارتفعت مجمل المساحات المخصصة لهذه الزراعات في المنطقة.
أثرت هذه التحولات على التركيبة الاجتماعية للمجتمعات المحلية في منطقة سوس-ماسة. يوضح لنا السيد حمزاوي، وهو واحد من قادة نقابة عمال وعاملات الزراعة، التغييرات التي شهدتها قرية "آيت عميرة". مشيرًا إلى أنها أصبحت اليوم مركزًا حضريًا يستضيف أعدادًا كبيرة من العمال والعاملات الزراعيين من مختلف أنحاء المغرب.
ويقول حمزاوي للمنصة إن "آيت عميرة (الواقعة في منطقة شتوكة ايت باها) في الماضي كانت تتألف من عائلات تملك أراضي صغيرة يتم فيها زراعة الخضروات والفواكه، وكان لكل عائلة ما بين 5 إلى 10 أفدنة قريبة من منزله. بالإضافة إلى الأراضي المشتركة التي كانت مخصصة للرعي وجمع الأعشاب الطبية. لكن، مع توسع الزراعة الموجهة للتصدير واستغلال الشركات للأراضي المشتركة، قلت مساحات الأرض التي كان يزرعها الفلاحون الصغار. وفي المقابل، توسعت المزارع التجارية الكبيرة التي تستهدف التصدير وتحتاج إلى عمالة كبيرة".
هذا التوجه نتج عنه ظهور تجمعات سكنية للعمال واستمرارية في الاستقرار الديموغرافي. كما أثرت الزراعة التصديرية واستنزاف المياه الجوفية بشكل ملحوظ على الفلاحين الصغار، مما أدى إلى تحول الكثير منهم إلى عمال زراعة، أو البحث عن فرص عمل خارج المنطقة.
وتستخدم منطقة سوس-ماسة حوالي 150 ألف عامل من مختلف أنحاء المغرب، بحسب تقديرات حمزاوي، ونشأت هناك مناطق واسعة من السكن غير الرسمي سيئ الخدمات.
وخلال الثلاثين سنة الماضية تحولت "آيت عميرة" إلى مركز حضري للعاملات والعمال الزراعيين القادمين من كافة أنحاء المغرب للعمل في الصوب الزراعية بمنطقة شتوكة آيت باها.
كيف يعمل هذا النموذج وكيف يحقق أرباحًا؟
كانت الصوب الزراعية في منطقة شتوكة آيت باها، التابعة لإقليم سوس-ماسة، محط اهتمامنا. خلال زيارتنا، قام الباحث عمرو أزيكي بشرح مفصل حول نموذج الزراعة التصديرية في الصوب الزراعية بالمنطقة، بدءًا من تكاليف إقامة الصوب الزراعية وصولًا إلى عملية الإنتاج والتصدير. وفقًا له، فإن الصوبة التي تتكون دعائمها من الخشب تُكلف حوالي 12,600 دولار للفدان، بينما تصل إلى 16,800 دولار للفدان إذا كانت الدعائم حديدية.
وعند مقارنة هذه التكاليف مع ما أعلنه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في مايو/أيار 2022، حين ذكر أن تكلفة الفدان تصل إلى 23,000 دولار، نجد أن الفارق كبير، حيث ترتفع تكلفة الصوب في مصر بحوالي 37% مقارنة بتكلفتها في المغرب.
تناول عمرو أزيكي أيضًا جوانب الإنتاجية، حيث أكد أن الشركات العالمية، التي غالبًا ما تكون إسبانية أو فرنسية، تُسيطر على معظم مزارع الصوب الزراعية. وتعتمد تلك الشركات على تقاوي وتربة مستوردة، إلى جانب الأسمدة والمبيدات وتقنيات الري المتطورة.
وبينما تصل تكلفة التشغيل الأولية إلى 42,000 دولار للفدان، يمكن للمستثمر تحقيق صافي أرباح يتراوح بين 12,000 و21,000 دولار للهكتار سنويًا، مما يعني أنه يمكن استرداد التكلفة الأولية في غضون 2 إلى 4 سنوات.
عندما يتعلق الأمر بالإنتاج، فإن الصوب الزراعية تستجيب بكفاءة عالية لاحتياجات السوق. واستشهد أزيكي بالتوت الأرضي كمثال، حيث إنه لم يكن يُزرع في هذه المنطقة قبل خمسة سنوات لكن طلب السوق الأوروبي جعل المستثمرون يزرعونه لربحيته الكبيرة، قائلًا للمنصة "يمكن أن يعطي الفدان من 4.2 إلى 6.3 طن، مع هامش ربح يصل إلى 21,000 دولار للفدان سنويًا".
لكن يجب أيضا النظر إلى الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والبيئية لتلك الزراعة التصديرية. فرغم أن مشروع الصوب الزراعية يبدو مربحًا جدًا، فإن هناك عوامل متعددة تم تجاهلها في البداية، لكن آثارها قد تظهر بوضوح مع مرور الوقت، مما يطرح تساؤلات حول غياب التنمية الشاملة والاستدامة في هذا الشكل من المشروعات.
استنزاف بيئي وبشري
منذ عام 2005، تم نشر العديد من الدراسات حول تأثير الاستنزاف الزراعي على المخزون الجوفي لوادي سوس (1). والتي أظهرت أثر زيادة الإنتاجية الزراعية على زيادة معدلات استنزاف وتدهور مصادر المياه الجوفية خلال العقود الأخيرة، خصوصًا مع تسجيل درجات حرارة قياسية وصلت هذا العام إلى 50 درجة مئوية.
وفي مواجهة نقص المياه، قامت الدولة بتشييد محطة تحلية لإنقاذ الزراعة التصديرية، وافتتحتها في يناير/كانون الثاني 2022، وهي تضخ حاليًا ما يقارب 275,000 م³ يوميًا. ورغم أن تكلفة تحلية المتر مكعب 1 دولار، فإن الدولة تبيعه للمستثمرين بسعر 0.5 دولار وفقًا لعمرو أزيكي. أي أن الدولة تتحمل نصف تكلفة المياه كشكل من أشكال الدعم الإضافي للزراعة التصديرية.
أقدمت الدولة كذلك على دعم المنطقة عبر الاستثمار في البنية التحتية، مثل تطوير الطرق وتوسيع ميناء طنجة المتوسط، وتعزيز قدرات سد يوسف بن تشفين. ولكن مع كل هذه الجهود، لازال الفقر الريفي يطغى على المشهد، حيث تُشير الدراسات إلى أن 86 مجموعة قروية في الإقليم تعاني من الفقر المستفحل.
وفي السياق نفسه، يجد العاملون والعاملات في قطاع الزراعة التصديرية أنفسهم وسط ظروف عمل قاسية. وقد أبرز فيلم وثائقي بعنوان "الحكرة" معاناة هؤلاء العمال الذين يواجهون تحديات منها سوء السكن، ونقص الخدمات الصحية والتعليم، بالإضافة إلى التعرض للمبيدات والتحرش بالعاملات.
أما من الناحية البيئية، بالإضافة لتدهور الأراضي واستنزاف المياه الجوفية، تلوثت الأخيرة بالمبيدات وبالنترات، إلى جانب أن المشهد خارج الصوبات الزراعية لا يُطاق. فالنفايات الزراعية، خصوصًا البلاستيكية، تُلقى هنا وهناك، تاركة أثرًا طويل الأمد على البيئة المحلية والمجتمع.
إشراقات التنمية والتضامن
لم تخل زيارتنا من البهجة على هامش استماعنا لنضالات عاملات وعمال الزراعة بالنقابة في "آيت عميرة"، خاصة العاملات اللائي أظهرن صلابة وإصرارًا واضحًا في الدفاع عن حقوقهن في النضال والعمل وهن يهتفن "النساء والرجال في النضال حال بحال" أي متساويين، وأهازيج التضامن التي تحيي الآمال في أهمية وضرورة التنظيم والتشبيك لبناء نظم زراعية مستدامة وذات سيادة محلية، تحافظ على أجساد العاملات والعمال وتجدد الموارد المحلية.
في مواجهة الفقر، تظل المساحات المُحررة من الأراضي متاحة للإنتاج المحلي للحبوب، وتوفر أشجار الأرجان المحلية الشهيرة دخلًا للأسر المحلية.
وتظهر الصور الجوية مساحات خالية من الصوب مزروعة بأشجار الأرجان، التي تعتبر من أهم مصادر زيوت الطعام والعناية بالبشرة، وقد استطاعت مئات النساء أن تؤسسن تعاونيات نسائية لإنتاج وبيع الزيت.
كما تبيع النساء وجبة الأملو، وهي مزيج من المنتجات المحلية البرية والزراعية، تُقدم مع العسل المحلي واللوز والتمور، في شكل يُعبر عن التنوع والتناغم بين مستويات متعددة من الإنتاج الزراعي والفلاحي الذي يقاوم في صمت أمام التهديدات الناتجة عن الاستغلال الرأسمالي الزراعي الكبير.
قاعدة محمد نجيب
تطرح هذه الحالة، التي قد تبدو بعيدة، تساؤلات حول مشروع الصوب الزراعية "محمد نجيب" في مصر. هذا المشروع، وهو من المشروعات القومية الكبيرة، تم وصفه مؤخرًا بعدم الجدوى وانعدام الكفاءة.
يبدو أن الهدف من المشروع كان تحقيق مستوى تصديري مشابه لصوب سوس-ماسة الزراعية، ولكن بعد مرور أربع سنوات، لم تظهر أي أثار إيجابية له على أرقام صادرات الخضر، التي شهدت انخفاضًا في عائداتها بمعدل 12% بين أبريل/نيسان 2022، وأبريل 2023 وفقًا للـنشرة الشهرية للتجارة الخارجية لجهاز التعبئة العامة والإحصاء.
كما أن الارتفاع المستمر في أسعار الخضروات، إضافةً إلى ارتفاع معدلات التضخم في أسعار الغذاء لتصل إلى مستوى غير مسبوق 68%، يُثير تساؤلات حول تأثير المشروع على الأسواق المحلية.
ومع ذلك، فإن تجربة سوس-ماسة تدفعنا لتأمل وتحليل أعمق وأوسع نطاقًا حول التأثيرات طويلة الأمد لهذا النوع من الاستثمارات في حال نجاحها.
(1)Payen et al., 2014 ; Ait Brahim et al., 2017