"المسألة الأساسية هي مسألة الديمقراطية. إذا نظرنا إلى نفسية فلاديمير بوتين، سنرى رجلًا خائفًا من الديمقراطية". (نيكول بشاران، مؤرخة فرنسية في تعليقها على غزو روسيا لأوكرانيا).
أعاد الغزو الروسي لأوكرانيا النقاشات السياسية حول الصراع بين "الديمقراطية" و"الديكتاتورية"، وكأنه صراع بين الخير والشر، حيث إن روسيا (بلد لا يدار بشكل ديمقراطي)، غزت جزءًا من أوروبا "الديمقراطية" (أي أوكرانيا).
فكرة الخير والشر في التحليل الاقتصادي والاجتماعي هي محض سذاجة، وكذلك في الصراعات الجيوسياسية، فما يحدث بين روسيا وأوكرانيا، أو تحديدًا بين روسيا وأوروبا الغربية وأمريكا، هو بالقطع ليس صراعًا على المبادئ، بل المصالح والنفوذ الاقتصادية والسياسية.
لا يمكن ألا تذكرنا الدعاية الحالية حول الحرب بما قيل سلفًا في حروب سابقة. لذلك سنحاول في هذا المقال أن نعطي أمثلة تاريخية قامت فيها آلة الدعاية الحربية بنفس الشيء في الماضي لإخفاء الأسباب الحقيقية للصراعات أو الفظائع التي ارتكبت للعودة أخيرًا إلى الصراع الروسي- الأوكراني الحالي.
الحرب العالمية الأولى: صراع المستعمرات
لا يمكن الآن إنكار أن الحرب العالمية الأولى (1914-1918) كانت صراعًا على الهيمنة الاقتصادية والمستعمرات. ولكن في ذلك الحين، كان الوضع غير.
حينها كان يتم مقارنة الألمان (الذين كانوا يحاربون فرنسا وإنجلترا وروسيا وأمريكا في ذلك الحين) بالـOgre، أي الغول، وحش أسطوري يصوُّر عادة على أنه كائن كبير وشنيع، شبيه بالإنسان، يأكل البشر وخاصة الرضع والأطفال. وكان الغرض من هذه المقارنة العنصرية استبعاد ألمانيا في ذلك الوقت مما يسمى "بالأمم المتحضرة"، أي الأوروبية والبيضاء.
يمكننا أن نقرأ في جريدة Le Journal الفرنسية يوم 30 أكتوبر/ تشرين الأول 1915 تلك الفقرة "لا يمكننا أن نفهم افتخار الألمان والنمساويين بكونهم الشعب المختار، وهم في الوقت نفسه [...] متواطئون مع أعراق أوروبية مشبوهة، أولئك الذين نعتبرهم وصمة عار وسط عائلة الأبيض الأوروبي. لأن المجريين، "الغيلان" في لغتنا الشعبية، هم أبناء المغول، البرابرة البغيضون الآتون من أعماق آسيا الوسطى".
هذه العنصرية، حتى تجاه شعب أوروبي، لم تكن جديدة في فرنسا، التي كانت في ذلك الوقت ديمقراطية برلمانية، ففي نفس الوقت وحتى بعد ذلك، ستتصرف "الديمقراطية" الفرنسية بعنصرية تجاه شعوب المستعمرات وتقمع الحركات العمالية في الداخل قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها بالطبع.
وتلك الدعاية لم تكن عن طريق الجرائد فقط، فمثلًا لم يمتنع فيلسوف فرنسي مثل هنري بيرجسون (الحائز على نوبل الأدب سنة 1927) أن يصدر نفس الخطاب القومي والعنصري حين قال "إن النضال ضد ألمانيا هو صراع الحضارة ضد البربرية".
من الناحية الأخرى، جاء دور 93 مثقفًا ألمانيًا لإطلاق "نداء إلى العالم المتحضر"، حيث استحضروا أبطال الفلسفة والموسيقى والأدب الألمان واستخدموا ضد خصومهم الفرنسيين والإنجليز نفس اتهاماتهم بالهمجية من خلال إدانة "الأعمال الوحشية" على جبهة قواتهم الاستعمارية "غير المتحضرة".
ومن ضمن الأمثلة البسيطة لذلك الصراع على المستعمرات، يمكننا الإشارة إلى ما يسمى بـ"الأزمات المغربية" بين فرنسا وألمانيا للسيطرة على هذه المنطقة قبل الحرب بأعوام قليلة، فصعود ألمانيا الصناعي في تلك الفترة ورغبتها في التوسع وتمديد أسواقها وعدم تمكنها من ذلك بسبب استحواذ فرنسا وإنجلترا على الشرق الأوسط وإفريقيا، سرَّعت الصراع بين دول رأسمالية متنافسة. فكما يقول جواكيم فالنت "كانت تريد القومية الألمانية في ذلك الوقت حل التناقض بين تأثير على مستوى أوروبي متصاعد وتنمية اقتصادية من الدرجة الأولى والوجود الاستعماري الضعيف".
الحرب العالمية الثانية: أكذوبة صراع المبادئ
عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، تم تصدير خطاب الصراع بين "الديمقراطيات" الغربية ضد الجنون النازي، وهذا الخطاب موجود حتى الآن في الكتب المدرسية التاريخية الفرنسية مثلًا.
وعلى الرغم من أننا نتفق على أن العنف النازي تجاوز في وحشيته وهمجيته وخطابه العنصري كل الدول المتحاربة الأخرى (خاصة على الجبهة الشرقية مع روسيا) لدرجة الجنون، فهذا لا يمنع تأكيدنا أن في الجغرافيا السياسية، ليس ثمة "محور خير" ضد "أشرار" وبالتالي لم يكن صراع مبادئ بين "الديمقراطيات الغربية" والفاشية.
على المستوى الداخلي الأمريكي مثلًا، لعب من هم مع تحسين النسل Eugenics دورًا مهم في "الديمقراطية الأمريكية" وذلك في عشرينيات القرن الماضي، أي قبل صعود النظام النازي الذي طبق نفس السياسة العنصرية (ولو بشكل أوسع وأبشع). فمثلًا، كُتب قانون الهجرة لعام 1924 الذي ساعد قبول الرأي العام للعنصرية العلمية كمبرر لتقييد دخول بعض الشعوب للبلاد.[1] هذا القانون الذي قدمه هتلر كنموذج لبرنامج التطهير العرقي[2]، كُتب بمساعدة هاري لافلين، وهو مؤيد شرس لتحسين النسل.
أيضًا، دون الخوض في تفاصيل شبكات العنصرية بين "الديمقراطية" الأمريكية والنازية، علينا فقط أن نرى مصير الأمريكيين السود آنذاك الذين، حتى لو لم يتعرضوا للإبادة الجماعية، تعرضوا للتمييز والعنصرية التي لم تكن بعيدة عن ألمانيا النازية خاصة في بداية سيطرة النظام.
وفي الولايات المتحدة مرة أخرى، ولكن على مستوى السياسة الخارجية، يمكننا أن نرى التناقض بين ادعاء "حماية الديمقراطية" والواقع قبل وأثناء الحرب.
فعلى سبيل المثال، يذكّرنا المؤرخ الراحل هوارد زين في كتابه التاريخ الشعبي للولايات المتحدة الأمريكية ص458 (النسخة الفرنسية الإلكترونية) بأنه "عندما غزا موسوليني (زعيم النظام الفاشي الإيطالي) إثيوبيا عام 1935، أعلنت الولايات المتحدة حظر الأسلحة. ولكن في الوقت نفسه، كانت الشركات الأمريكية قادرة على الاستمرار في إمداد النفط بكميات هائلة، ما مكَّن إيطاليا من شن حربها".
أيضًا، عندما اندلع تمرد فاشي ضد الحكومة الاشتراكية الليبرالية المنتخبة ديمقراطيًا في إسبانيا عام 1936، أصدرت إدارة روزفلت قانون الحياد الذي قطع المساعدة للحكومة الإسبانية بينما قدم هتلر وموسوليني الدعم العسكري لفرانكو.
ولا يمكننا نسيان أن نفس تلك "الديمقراطية الأمريكية" ألقت بقنبلتين ذريتين على اليابان، حيث قتلت أكثر من مائتي ألف شخص وأثرت على صحة أجيال من اليابانيين، وأنها أخفت الفظائع الطبية اليابانية التي ارتكبت أثناء الحرب، خصوصا الوحدة 731 اليابانية التي كانت وحدة أبحاث وتطوير حرب كيميائية وبيولوجية سرية في جيش اليابان الإمبراطوري والتي أجرت تجارب أسلحة بيولوجية على البشر، ولم تلاحق شيرو إيشي، المسؤول داخل الوحدة على جرائمه، والذي وافق على كشف جميع تفاصيل برنامجه مقابل الحصول على الحصانة من اتهام ارتكاب جرائم حرب.
ومن ناحية أخرى، تشرشل، قائد بلد "ديمقراطية" مثل إنجلترا، عبّر عن اعجابه بموسوليني في عام 1927 واعتبره حصنًا ضد الشيوعية (أي الاتحاد السوفيتي)، وقال في 1937 "لا أعترف على سبيل المثال، أنه تم ارتكاب خطأ فادح بحق الهنود الحمر في أمريكا أو السود في أستراليا (...) هناك حقيقة أن العرق الأقوى، أو الأعلى درجة قد جاء وحل مكانهم.[3]
هذا المنطق الاستعماري للـ"ديمقراطيات" الأوروبية، بالنسبة لكثير من المؤرخين والمحللين السياسيين ألهم/ برر أفعال النازيين.
هؤلاء المؤرخون والمحللون يعتبرون أن ما فعله النظام النازي لم يكن قطيعة مع السياسة الاستعمارية الأوروبية في القرنين التاسع عشر والعشرين بل يمكن حتى أن ينظر إليه على أنه تفاقم لهذا المنطق. وكمثال بسيط، سنأخذ ما قاله جوبلز، وزير الدعاية النازي في مذكراته "يرى هتلر أن الشرق هو الهند القادمة بالنسبة لنا. هذه هي الأرض الاستعمارية التي يجب أن نحتلها. هذا هو المكان الذي يجب إنشاء مزارع لفلاحينا وقدامى المحاربين في الجيش".[4]
أما من ناحية الاتحاد السوفيتي، فتعاهد مع ألمانيا النازية على عدم الاعتداء في عام 1939 واقتسم بولندا مع ألمانيا النازية عندما غزتها تلك الأخيرة، مما أصاب بالاندهاش والذعر الأحزاب الشيوعية الأوروبية آنذاك وانقسمت بسبب هذا الاتفاق.
رغم كل تلك الجرائم التي اتركبتها "الديمقراطيات" الغربية (أو غيرها) ضد شعوبها أو شعوب أخرى، ورغم التعبير عن إعجابهم بالنظام الفاشي، اتهمت "الديمقراطيات" الغربية (والاتحاد السوفيتي) الفاشية والنازية بالبربرية عندما اندلعت الحرب (مع التأكيد أن هذا الاتهام في ذاته صحيح بالنسبة لنا).
والآن، لا تزال قصة "الطيب ضد الشرير" مهيمنة في موضوع الحرب العالمية الثانية، على رغم أن الصراع كان هنا أيضا صراع مصالح متضاربة وصراع على الهيمنة الاقتصادية.
غزو أوكرانيا: قصة "الطيب ضد الشرير" مستمرة
هجوم روسيا على أوكرانيا يوم 24 فبراير/ شباط 2022 أصاب الكثيرين بالدهشة والخوف. ومع بدأ الهجوم العسكري، بدأت آلة الدعاية والدعاية المضادة أيضًا. فما يتم تقديمه الآن من قنوات إعلامية كثيرة هو أنه صراع بين "الفاشية" الروسية و"الديمقراطية" الغربية/ الأمريكية، أو كما قالت نيكول بشاران في تعليقها على الغزو "بوتين يخاف من الديمقراطية".
وعلى الرغم من أن نظام بوتين غير ديمقراطي بالمرة وأن الغزو كارثة إنسانية، لم يغضب الغرب بسبب الغزو في ذاته أو بسبب "عدم احترام حقوق الإنسان من قبل روسيا" في أوكرانيا.
على المستوى السياسة الخارجية، لم يهتم الغرب بـ"حقوق الإنسان" و"الديمقراطية" في قصفه ليوغسلافيا عندما كتب الجنود البريطانيون على القنابل "عيد فصح سعيد"، ولم يهتم الغرب/ الولايات المتحدة بـ"حقوق الإنسان" عند الانقلاب على الرئيس الاشتراكي أليندي المنتخب ديمقراطيًا في تشيلي. ولم يهتم أيضًا عندما تم تدمير العراق وقُتل مئات الألاف، ولا تجاه ما فعلته فرنسا في غرب إفريقيا وغزوها مع إيطاليا لليبيا.
وعلى المستوى الداخلي، تتآكل الديمقراطيات الغربية بشكل مخيف أيضًا، وكانت جريدة The economist أصدرت تقريرًا في 2021 صنفت فيه فرنسا بأنها "ديمقراطية فاشلة"، أي أنها لم تعد ديمقراطية حقًا، والعنف الشديد الذي طٌبق ضد السترات الصفراء في فرنسا خير دليل على ذلك. يمكن إيجاد هذا العنف أيضًا في بلد معروف بـ"السلام الاجتماعي"، وهو هولندا، حيث أطلقت الشرطة النار في روتردام ضد متظاهرين اعترضوا على إجراءات الدولة لوباء كورونا.
هذا لا يعني أن الديمقراطية أو حقوق الإنسان مبدأ سيئ أو أن الهدف هو الدفاع عن نظام بوتين. ولكن هو مجرد عرض سريع لعدم اهتمام الغرب إلا بمصالحه.
ورغم ذلك فالحرب الإعلامية مستمرة، ويتم تصدير قصة "الشرير بوتين" ضد "الغرب الديمقراطي" بشكل واسع لدرجة أن بعض المفكرين أو المتابعين العرب يستمرون في تلك الدعاية. فمثلًا يمكننا أن نقرأ للأستاذ عز الدين فشير على حسابه الشخصي على فيسبوك بتاريخ 25 فبراير 2022 "الموقف من غزو أوكرانيا ليس له علاقة باحترام "سيادة الدول" ولكنه مرتبط بالموقف من منطق القوة والفاشية ومنطق المسالمة والديمقراطية (...) والأولوية هي الرغبة في مسالمة الناس وفي المساواة وفي الديمقراطية، ولا الانسياق خلف نزعات القوة والسيطرة".
هذا مثير للدهشة، خصوصًا أن دعاة الحريات والديمقراطية لم يتحركوا عندما أغلق زيلنسكي، رئيس أوكرانيا الحالي، ثلاث قنوات مؤيدة لروسيا يوم 3 فبراير 2021، أو عندما حظر الاتحاد الأوروبي قناة روسيا اليوم بعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
ومع ذلك، فالحرب الإعلامية مستمرة، ويتم تصدير قصة "الشرير بوتين" ضد "الغرب الديمقراطي" بشكل واسع لدرجة أن بعض المفكرين أو المتابعين العرب يستمرون في تلك الدعاية.
ولم يتكلم أحد من دعاة الحرية والديمقراطية في الغرب أو غيره عن قصف المدنيين والمناطق الشرقية لأوكرانيا من قبل النظام الأوكراني، والحرب التي تحدث هناك منذ ثماني سنوات وراح ضحيتها قرابة 13 ألف شخص كما تقول الصحفية آن لور بونيل لقناة Cnews الفرنسية.
وما هو مدهش بل مضحك هو اتهام بوتين بالفاشية من بعض المحللين، وهي كلمة غير دقيقة من الأساس، رغم ضم الجيش الأوكراني جماعات نيونازية مثل كتيبة "أزوف" التي أدينت جرائمها من قبل الأمم المتحدة نفسها، والتي لا أعتقد أن بوسعنا اتهام الكرملين بالهيمنة عليها.
ما يحدث في أوكرانيا هو صراع بين رأسماليات مختلفة تريد الهيمنة على خطوط الطاقة وحماية نفسها من الآخر. فروسيا الآن رافضة للتمدد المستمر للناتو، أي أمريكا، وترى أن ذلك محاصرة عسكرية لها. فبالطبع أوكرانيا في ذاتها ليست مصدر تهديد كما يقول هذا المقال ولكن مع انضمامها لحلف الناتو، تلك المؤسسة التي تريد البقاء بأي شكل (مثل أي مؤسسة) بخلق الأعداء والتي تعتبر فرصة مهنية وفرصة لتجارة السلاح كما يقول الجنرال الفرنسي فانسينت ديبورت، ستكون مصدر تهديد لروسيا، فهي "الشجرة التي تخفي الغابة"، كما يقول المثل الفرنسي، بالنسبة للنظام الروسي.
الدعاية والدعاية المضادة الآنية تخلق ضبابًا من الأكاذيب. وبين محرضي الحرب مثل برنار هنري ليفي أو سلافوي جيجك، الذين لم يطلقوا رصاصة واحدة، ولم يسمعوا صرخات الجرحى كما يقول الجنرال الأمريكي ويليام تيكومسيه شيرمان، والغزو والدعاية الروسية، يصعب إيجاد الحقيقة. لقد قال من قبل الكاتب والصحفي روديارد كبلينج أن الضحية الأولى في الحرب هي الحقيقة، وقد جرى التحقق من هذه العبارة للتو.
[1] Making Americans: Immigration, Race, and the Origins of the Diverse Democracy
[2] ستيفان كوهل: The Nazi Connection: Eugenics, American Racism, and German National Socialism
[3] Debunking the Myths of Colonization: The Arabs and Europe، ص9
[4] جوهان شابوتو، كتاب قانون الدم، ص392 النسخة الفرنسية الإلكترونية