تبدو الحرب في أوكرانيا وكأنها حدثٌ قادم من النصف الأول للقرن العشرين. في البداية بدت الأزمة الأوكرانية وكأنها إحدى تبعات الحرب الباردة التي انتهت منذ ثلاثة عقود. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعتقد أن انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، الناتو، هو تهديد للأمن القومي الروسي.
وزير الدفاع البريطاني السابق جورج روبرتسون، الذي قاد الناتو بين عامي 1999 و2003 قال إن بوتين سأله في لقائه الأول معه بعد أن أصبح رئيسًا لروسيا عام 2000 "متى ستدعونا لعضوية الناتو؟" حينها أجابه روبرتسون أن الناتو لا يدعو الدول للانضمام إليه وإنما تقوم الدول بالتقدم بطلب العضوية، فرد بوتين حينها "إذًا لن نقف في الطابور مع العديد من الدول عديمة الأهمية".
لم يكن الناتو حريصًا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي على أن تكون روسيا جزءًا منه. لكن المنظمة الدفاعية التي تقودها الولايات المتحدة توسعت وضمت دولًا كانت قوام حلف وارسو، وهو الحلف الذي كان تحت قيادة الاتحاد السوفيتي من أجل مواجهة الغرب، وتحديدًا في أوروبا. كان حلف وارسو وعدوه الناتو في قلب كل ما حدث خلال الحرب الباردة. كانا الحرب الباردة في شكلها الأكثر وضوحًا.
تقول روسيا إنه إذا كانت الحرب الباردة انتهت، فلماذا لم ينته الناتو؟ وإذا كان الناتو باقٍ من أجل الدفاع عن أوروبا، فلماذا روسيا ليست جزءًا منه، وهي الدولة التي تعتبر نفسها جزءًا من الثقافة الأوروبية، وفق ما قاله بوتين لدافيد فروست خلال مقابلة مع بي بي سي قبل 21 عامًا.
قيصر جديد
لا تريد روسيا أن تنضم أوكرانيا للناتو أو أن يكون في كييف رئيسٌ معادٍ للمصالح الروسية. من أجل هذا الهدف حشدت قواتها على الحدود مع أوكرانيا، التي يراها بوتين جزءًا تم اقتطاعه من الأراضي الروسية. في خطابه الطويل قبل إعلان اعترافه بالإقليمين الأوكرانيين الانفصاليين كجمهوريتين مستقلتين، اعتبر بوتين أوكرانيا اختراعًا من لينين وستالين وإرثًا شيوعيًا يجب القضاء عليه.
أعاد بوتين إنتاج تاريخ روسيا من خلال هجومه على مؤسسي اتحاد الجمهوريات السوفيتية الذين سمحوا لأوكرانيا بأن تكون موجودة من أجل موائمات البلاشفة عام 1922. بدا بوتين في خطابه الطويل كقيصر يتحدث باسم روسيا القيصرية خلال القرن التاسع عشر. لم يكن يتحدث كرئيسٍ روسي يعتقد أن انضمام أوكرانيا للناتو تهديدٌ مباشر لأمن بلاده، ولكن كقيصر يريد أن يقدم سردًا لا يعتبر أوكرانيا دولةً لها الحق في الوجود ضمن مجتمع الدول ذات السيادة.
في اللحظة التي أعلن فيها بوتين اعترافه بالإقليمين الانفصاليين كجمهوريتين، ظن أغلب المراقبين والمحللين أن الرئيس الروسي لن يقدم على عملٍ عسكري. أما الولايات المتحدة وبريطانيا فأكدتا أن بوتين سيجتاح أوكرانيا. الدول الأوروبية وأهمها ألمانيا رفضت تصديق أن يذهب بوتين إلى حد الاجتياح العسكري. ولعدة أيام خرجت وكالة الاستخبارات الأمريكية بتقديرات أن الغزو سيحدث خلال 72 أو 48 ساعة، ومرت ساعاتٌ أكثر من تلك الواردة في التوقعات دون أن يقوم بوتين بالغزو.
حوالي الساعة الثالثة فجر الرابع والعشرين من فبراير/ شباط عام 2022 أعلن بوتين قيام القوات الروسية "بعملية عسكرية خاصة" في شرق أوكرانيا. بعد ضربات جوية وصاروخية طالت أهدافًا في مدنٍ أوكرانية عدة ومن بينها العاصمة كييف، بدأت قوات روسية برية دخول الأراضي الأوكرانية.
مشهد مربك
ارتبك الغرب في التعامل مع الغزو الروسي. إدانات شديدة اللهجة وتلويحٌ بعقوبات قاسية. لكن لا حديث عن دعمٍ عسكري للقوات الأوكرانية أو إرسال جنود من الناتو للدفاع عن أوكرانيا. فالرئيس الأمريكي جو بايدن أعلن بوضوح خلال مراحل الحشد العسكري الروسي على الحدود الأوكرانية، أنه لن يسمح لمواجهة عسكرية بين جنود الجيش الأمريكي وجنود الجيش الروسي كي لا يعيد عقارب الساعة إلى لحظات التوتر النووي التي بلغت ذروتها في أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962.
خلال اليوم الأول للعمليات العسكرية الروسية، لم يكن الارتباك قاصرًا فقط على دول الاتحاد الأوروبي والدول المنضوية تحت حلف الناتو. بيان الخارجية المصرية حاول أن يكون مصاغًا بلغة دبلوماسية لا تدعم أو تدين وإنما "تتابع بقلق بالغ التطورات المُتلاحقة... وتؤكد أهمية تغليب لغة الحوار والحلول الدبلوماسية، والمساعي التي من شأنها سرعة تسوية الأزمة سياسيًا بما يحافظ على الأمن والاستقرار الدوليين".
تستورد مصر القمح من روسيا وأوكرانيا، كما تستورد السلاح من روسيا. كانت تستقبل مئات الآلاف من السياح الروس ثم أصبحت تستقبل عشرات الآلاف من السياح من أوكرانيا. لكن القاهرة ترتبط بعلاقات تجارية واقتصادية قديمة وقوية مع دول الاتحاد الأوروبي ومع بريطانيا. ثم أنها ترتبط بعلاقة تحالف عسكرية وسياسية مع الولايات المتحدة بدأت في أعقاب معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية واستمرت خلال كل السنوات الماضية، حتى وإن مرت بفترات توترٍ بالغة.
تمثل الأزمة الأوكرانية معضلة أمام دولة تريد دعمًا أمريكيًا في أزمة سد النهضة وسلاحًا متطورًا من روسيا واستثماراتٍ بريطانية وأوروبية، وتطرح أمام صانعي سياستها الخارجية سؤالًا حول كيف يمكن البقاء على الحياد في أزمة مشتعلة في أوروبا؟
معظم دول العالم العربي لم تعلن موقفًا واضحًا مما يجري في أوكرانيا. حتى الإمارات، وهي الدولة العربية الأكثر نفوذًا داخل واشنطن، طلبت في كلمة مندوبتها في مجلس الأمن "وقف الأعمال العدائية" دون أن تسمي روسيا كدولة معتدية أو أوكرانيا كدولة تم الاعتداء عليها. فقط الخارجية اللبنانية هي التي أصدرت بيانًا أدانت فيه الاجتياح الروسي ودعت موسكو إلى "سحب قواتها والعودة إلى منطق الحوار والتفاوض".
لا تريد الدول العربية، وهي التي تستورد جميعها القمح من روسيا، أو تعتمد بعضها على موسكو في السلاح أو في التنسيق معها في السياسات الخاصة بالنفط والغاز، أن تكون خصمًا لبوتين في حربه على أوكرانيا. ولا تريد أيضًا أن تنال غضبًا أمريكيًا يمكن أن يتمثل في عقوبات اقتصادية مؤلمة.
حتى كتابة هذه السطور، لا يوجد موقف موحد تجاه قطع النظام المصرفي الروسي بأكمله من نظام التحويلات المالية الدولي المعروف باسم سويفت. إذا حدث هذا الأمر، لن يكون الضرر الاقتصادي قاصرًا على موسكو فقط، بل سيشمل كل من يتعامل تجاريًا مع روسيا حول العالم ومن بينها دول مثل إيطاليا وألمانيا، تعتمد على الغاز الروسي بشكلٍ رئيسي.
بعد اليوم الثالث من القتال، وحينما تأكد للمجتمع الدولي أن موسكو قررت حصار كييف تمهيدًا لإسقاطها ودخول الدبابات الروسية العاصمة الأوكرانية، أعلنت واشنطن ولندن وبعض العواصم الأوروبية قطع عدد من المصارف الروسية من نظام سويفت، كعقاب اقتصادي مؤلم لروسيا. لكن هذا القطع من نظام التحويلات المالية الدولي لم يشمل الاقتصاد الروسي بأكمله، وهو ما يشير إلى حجم التداخل بين المصالح الاقتصادية الروسية والعديد من القطاعات الاقتصادية حول العالم.
تنقل الصور القادمة من كاميرات المحطات الدولية التي تغطي الحرب في أوكرانيا، مشاهد تبدو وكأنها من أرشيفنا المرئي عن الحرب العالمية الثانية. آلاف الأوكرانيين الذين يحتمون من القصف الجوي بالاختباء في محطات مترو الأنفاق كما فعل سكان لندن خلال الحرب العالمية الثانية. حشود بالآلاف في محطة القطارات المركزية في كييف من أجل انتظار قطار سوف يتجه إلى مدينة لڤيڤ غربي البلاد، كي يكونوا قريبين من الحدود مع بولندا.
طوابير لا تنتهي من السيارات التي تحاول الخروج من المدن الأوكرانية باتجاه الحدود مع المجر وبولندا. عشرات المدنيين من سكان كييف والمدن الأوكرانية الذين قرروا أن يشكلوا خلايا للمقاومة الشعبية، بينما نساء أوكرانيات يحضرون قنابل المولوتوف في زجاجات تم إحضارها من مطابخهن.
هذه الصور، بالإضافة إلى عزم بوتين السيطرة على كييف عسكريًا، جعلا ألمانيا تخرج عن قواعد تصديرها للسلاح وتسمح للمرة الأولى بتصدير السلاح الألماني إلى مناطق الصراع من خلال دول محيطة بأوكرانيا. أعلنت برلين أنها سوف ترسل للقوات الأوكرانية ألف قاذف مضاد للدبابات وخمسمائة نظام ستينجر المضاد للطائرات. كما أنها سمحت لهولندا بمنح أوكرانيا 400 قاذف للصواريخ.
قبل اليوم الثالث للقتال كانت الترجيحات أن بوتين لن يجتاح أوكرانيا عسكريًا بالكامل. وأن "العملية العسكرية الخاصة" التي أعلنها سوف تكون محدودة ومركزة وسريعة. بعد أكثر من 72 ساعة من القتال، لا يمكن الجزم بما يفكر فيه بوتين. فالنظام الدولي الذي نعيش ضمن قواعده منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية يبدو عاجزًا عن التعامل مع روسيا التي تستمد أهميتها الدولية من كونها واحدة من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وصاحبة العدد الأكبر من الرؤوس النووية على سطح الأرض.
حرب في أوروبا
في الأيام الأولى للحرب العالمية الثانية، كانت الصحف الإنجليزية تحمل عنوانًا يقول: WAR IN EUROPE "حربٌ في أوروبا". كان ذلك العنوان كفيلًا ببيع ملايين النسخ لجمهورٍ حضر الحرب العالمية الأولى أو شارك فيها. كانت الحرب العالمية الأولى تمثل لعدد كبير من النخب الأوروبية الحرب الأخيرة في القارة. لم يكن أحدًا يتخيل أن حربًا عظمى أخرى سوف تندلع وسوف تبدأ بغزو ألمانيا لبولندا وتمتد لتشمل القارة الأوروبية باستثناء إسبانيا والبرتغال وأيرلندا والسويد وسويسرا وبعض الدول الصغيرة مثل ليخنشتاين وأندورا وموناكو. لم يتخيل أحد عام 1936 أن حربًا عظمى ستخرج من أوروبا وتشملها وآسيا. وبالطبع لم يكن الناس في مصر يتوقعون أن تصل الحرب إلى العلمين التي تبعد مئة وعشرين كيلومترًا فقط عن الإسكندرية.
في كل مرة تمر فيها الإنسانية بصراع دولي معقد متعدد الأطراف، تتصاعد احتمالات حرب عالمية لا يمكن التنبؤ بمسرح عملياتها أو مداها الزمني. فهل الإعلان الألماني بتسليح أوكرانيا يمكن أن يعتبر إعلانًا بالحرب على روسيا؟ وهل العالم منتبهٌ حاليًا للتهديدات التي أطلقتها الخارجية الروسية تجاه فنلندا والسويد بعد إعلانهما الرغبة في الانضمام إلى الناتو؟ هل تتخلى الإدارة الأمريكية عن سياستها في منع التدخل عسكريًا إذا قررت روسيا أن تهاجم دولة أوروبية أخرى بعد أوكرانيا؟
أسئلة كانت تبدو جزءًا من رواية خيالية تحاول أن تحاكي الحرب العالمية الثانية في القرن الحادي والعشرين. لكنها الآن أسئلة لا يريد أحد أن تكون محلًا للطرح والنقاش. فالعالم لا يستطيع الانتقال من لحظة "حربٌ في أوروبا" إلى لحظة أخرى قد تحمل اسم "حربٌ في العالم" بعد أن شهد وباءً شل حركة اقتصاده لعامين.
تنذكر ما تنعاد.