حين صدر الحكم بالتعويض لصالح ورثة خالد سعيد ضد الشرطة، انتشرت تعليقات مهولة، خصوصًا بين مستخدمي تويتر من الأجيال الأصغر حول هوية خالد سعيد و قضيته، حتى إن بعض التعليقات ترحمت عليه باعتباره أحد شهداء الشرطة في سيناء، في مفارقة مضحكة. طوفان من الجهل بالأحداث والقطيعة بين الأجيال؛ جيلنا الذي تفتحت عينه على الثورة، والجيل الذي تتفتح عينه على اللاشيء.
عندما اخترق المتظاهرون ميدان التحرير، يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني عام 2011، كنا في لجنة امتحان الفيزياء للصف الأول الثانوي، خرجنا من الامتحان لا ندري ما يحدث بعد، ففي مدينتنا البعيدة على أطراف الدلتا لا تتحرك الأشياء من مكانها بسهولة. بعد الامتحان لعبنا كرة القدم، وضحكنا، ثم عدنا إلى منازلنا بعد المغرب، وعندها سمعنا الأخبار ورأينا ما حصل، ليلتها أرسلت إلى زملائي: أدهم ناصر* وعماد بدر الدين ومحمود إدريس على فيسبوك أسالهم هل يتابعون الأخبار، وأجابوا جميعًا أنهم مستيقظون حتى الفجر.
أكملنا الامتحانات حتى جمعة الغضب، يومها تابعنا الأخبار على التلفاز، تهاوى رجال الشرطة سريعًا، وارتفعت الآمال في الصدور حد السماء. ولكن في مدينتنا لم يتحرك أي شيء، كانت المدينة هادئة كعادتها، منذ وُضع حجر أساسها الأول لتكون ضمن خطة مبارك للتنمية العمرانية، ككل المدن الجديدة التي بنيت في الصحراء لتستقطب سكان الدلتا والعائدين من الخليج.
بعد صلاة العشاء سمعنا أصوات هرج، خرجنا إلى الشارع فوجدنا تظاهرة صغيرة تخترق الشارع الرئيسي ناحية قسم الشرطة. أمام القسم لم يكن هناك أي عساكر، اختفوا كما اختفى أقرانهم الذين احترقت أقسامهم بالنهار، ولم نجد سوى لافتة عملاقة للرئيس مبارك وهو ينظر نحونا بثقة وتحدِ، ومكتوب بجانب صورته بخط صغير "نعم لمستقبل أفضل". خرجت الهتافات من الحناجر كالرعد، وتسلق شابان على اللافتة وأنزلاها. تمزقت اللافتة بين أيادينا، وتفتت صورة الرئيس تمامًا. كنت أمسك قطعة من اللافتة وأصرخ بالهتاف، ومن طرفها الآخر زميلي راغب أحمد يمسكها بحرقة شديدة. لم يكن راغب ثوريًا يومًا أو حتى مهتمًا بالسياسة، لا أعرف ما الذي دفعه ليكون موجودًا في تلك اللحظة ويهتف كأنه ثوري عتيد.
.. وأغمضنا أعيننا
نجحت الثورة، ونجحنا في الامتحانات. في المدرسة قررنا أن نتحدى المدرسين، نظمنا تظاهرة صغيرة في الفسحة وهتفنا بروح الأطفال "واحد اتنين حقوقنا راحت فين"، وراغب يهتف بكل ما فيه من قوة مبتسما كعادته. بالطبع فشلت مساعينا في إصلاح أوضاع المدرسة، كما فشلت كل مساعينا بعد ذلك، فتركنا المدرسة للتعلم، وانعجنّا بالسياسة في الشارع.
بدأت علاقتي براغب تقل نوعًا ما بعدما اتخذ اتجاهًا آخر غير اتجاهاتي، وزاد البعد بيننا بعد الثانوية العامة. لم أره لعدة سنوات، وحين نلتقي لا نتكلم سوى عدة دقائق، يسألني عن أخباري، وأساله عن أخباره. يقول لي كل لقاء إنه محبط من أوضاع البلد، وإنه لم يحلم بشيء أكثر من حياة كريمة، لكنه الآن يغرق في بحر اليأس والديون.
عمل راغب بعدما تخرج من الكلية في شركات شحن الرصيد وتحويل الأموال مثل مصاري وفوري وغيرهما، لكنه تعثر في تحقيق التارجت المطلوب منه وسداد مديونياته أكثر من مرة حتى فقد عمله، وبات يواجه قضايا نصب وسرقة. آخر مرة قابلته كان يمشي بسرعة كأن أحدًا يلاحقه، تكلمنا لدقيقتين، ولم يقل جملة مفيدة، كان كلامه مشوشًا كحياته، حاولت أن أذكره بالليلة التي مزقنا فيها اللافتة، فاسترجع ابتسامته المعهودة وقال "كانت أحلام".
في تلك السنوات التي ابتعد فيها راغب اقترب مني الثلاثة أدهم و عماد ومحمود أكثر وأكثر. شكلنا شلةً صغيرةً، نذهب للدروس الخصوصية ونذاكر سويا، نتابع السياسة بشغف ونندمج فيها بكل طاقتنا، نقرأ مسودة الدستور ونستمع إلى جلسات مجلس الشعب كأنها أفلام سينمائية، وفي آخر اليوم نشاهد مباريات كرة القدم. ليلة مذبحة بورسعيد سكتنا ولم نتكلم عن الكرة مطلقًا، خرجنا من المقهى كالزومبي، نتحرك في فضاء من العدم، نعرف أن أحلامنا ستتحطم لا محالة.
.. ومشينا للخلف
قرفنا من كرة القدم، وتابعنا آراء السياسة أكثر، خصوصًا وانتخابات الرئاسة كانت على الأبواب. محمود أكثرنا فهمًا للأمور وقدرةً على تحليلها، يقرأ مقالات الإنترنت ويشرحها لنا، بينما يستثمر عماد خفة دمه للسخرية من المواقف العامة وتقزيم أعدائنا، أما أدهم فهو الدينامو المحرك لنا في كل المواقف.
أنهينا الثانوية العامة ودخلنا الجامعة وقت المذابح، فرقتنا الجامعة فكل واحد منا ذهب إلى مدينة مختلفة، لكن حماسة الثورة الأولى ظلت تجمعنا في النقاش والشات المتواصل. في يناير 2014 رأينا الرصاص الذي لم نره في مدينتنا الهامشية، جرينا مذعورين في شوارع القاهرة الجانبية ، وعرفنا أن اللعبة أكبر منا، ظهر في رؤوس بعضنا عدد من الشعيرات البيضاء، وأدركنا في تلك اللحظة أننا سنكفر بالسياسة للأبد، وأننا إذا أغمضنا أعيننا لن نرى أحلامًا بل كوابيس.
تخرج عماد أول واحد فينا، واندفع إلى الحياة من شركة استثمار عقاري في التجمع الخامس. صار يدلل على مشاريع البناء الجديدة التي تتوسع فيها الدولة، ويكلم العملاء يوميًا ليزين لهم شراء وحدات بملايين الجنيهات. لم يعد يهتم بأي شيء غير تحقيق التارجت، ولم نعد نراه سوى مرةً كل شهر.
تلبسته روح السخرية أكثر، وطال نقده اللاذع كل شيء حتى مواقفنا القديمة من الثورة واندفاعنا نحوها، لا أعرف هل كان ندمًا منه على عنفوان المراهقة، أم خوفًا من الآذان التي تحيط بنا. بين المرة والأخرى يردد جملة أمل دنقل "العالم في قلبي مات"، لكن العالم في قلبه لم يمت تمامًا، عالم الثورة هو الذي مات.
أحب عماد فتاةً رقيقةً جدًا. أبوها عقيد سابق في الشرطة، ومن ماسحي أحذية الدولة مهما حدث. اجتهد عماد كي يتزوجها، حتى نجح أخيرًا في اقتناص شقة من شقق محدودي الدخل، تلك الشقق القميئة كعلب الكبريت التي تقمع الطموحات داخلها، ثم تماهى مع آراء حماه العقيد، حتى صار يرى الماضي بعيون مختلفة، أو يتعمد ألا يراه نهائيًا. كنت كلما ذكّرته بالليلة التي مزقنا فيها اللافتة، يردد "إيفيه" مختلفًا للسخرية من مسارات القدر، وكرر قوله "كنا سذجًا" مدفوعين بحماسة المراهقة والأحلام غير الناضجة.
انضم أدهم إلى عماد في عمل بالاستثمار العقاري لمدة سنة، ثم ترك التجمع وعاد إلى مدينتنا الهامشية، لم يتحمل أدهم إحساسه بالغربة وسط الأغنياء الذين لا يرونه، ولم يتحمل أيضًا تسويق الوهم العقاري للناس، فقرر العودة للعمل في مجاله الزراعي. لم يخفت نشاط أدهم أبدًا، ظل هو حلقة الوصل التي تجمعنا على المقاهي وفي المباريات، لكن حماسه ناحية الوضع مات واندفن في صدره، لم ينسَ اللحظة التي جرينا فيها في شوارع القاهرة الجانبية، والقاهرة تلفظنا خارجها، لأننا هامشيون من أطراف الدلتا، لا نملك سوى صوتنا الذي لم يستطع تغيير أي شيء في هذا العالم، ولم يمنع عنا سخونة الرصاص وقسوة الهزيمة.
.. وعاودنا الرؤية
تزوج أدهم وأنجب طفلا جميلًا يملك ملامحه، فصار يخاف من المستقبل أكثر، ويطمح إلى تغييره أكثر وأكثر. في تجمعاتنا من وقت لآخر على المقهى، تعمق إحساس أبوة أدهم ناحيتنا، وكأنما نبتت أفكاره من جديد، صار يحدثنا عن الوضع العام والحاجة الملحة إلى تغييره، لأن الأجيال الصغيرة لا يمكن أن تكبر فتجدنا لم نحاول، وتنعتنا بالتخاذل كما فعلنا نحن مع آبائنا.
ظل أدهم يتمسك باللحظة التي مزقنا فيها اللافتة العملاقة، باعتبارها لحظة تنويرية لا تتكرر في حياة الشخص منا مرتين، لكنه كان أذكانا عندما أخبرنا يومًا أن علينا تجاوز فكرة التظاهر وتمزيق اللافتات باعتبارها فرضية التغيير الوحيدة، لأن الأجيال الأصغر تحتاج منا المعرفة.
تأخرنا في التخرج أنا و محمود إدريس عنهما بحكم دراستنا الطب. أنهيت الكلية وعدت إلى مدينتنا الهادئة، أما محمود فقد اختار العمل في القاهرة. أخذتنا الأيام من بعضنا، لكننا حاولنا أن نحافظ على تلاقينا كل فترة. ظل محمود أوسعنا اطلاعًا وتكوينًا للآراء الواضحة، لكنه في تلك الفترة قرر أن يذاكر معادلة الطب البريطانية كي يهاجر إلى عمه في إنجلترا. لم يعد محمود يشعر بأي أمل في العمل كطبيب في مصر، رغم أن حبيبته حاولت إقناعه أكثر من مرة للبقاء، إلا أن قرار الهجرة كان نهائيا بالنسبة له، وإن لم ينفذه حتى الآن.
كانت ذكرى تمزيق اللافتة في دماغ محمود مشوشة نوعًا ما، لكنه كان أكثرنا قدرة على تذكر أحداث أخرى ونشاطات ثقافية واجتماعية قمنا بها في مدينتنا لنجعل منها قلبًا للحدث، لا مجرد هامش يتابع العاصمة وفقط. يعيد الذكريات علينا ونحن نبتسم ولا نفكر أن نكرر تلك النشاطات مجددًا كأننا اقتنعنا بأننا مجرد هامش لا يهتم به أحد، مهما ثار وصرخ، مهما تظاهر وجرى في الشوارع، مهما واجه المدرعات أو هرب من الرصاص، ففي النهاية هو هامش أو مجرد حطب يحترق لتنير الثورة في مكان آخر.
عندما تجادلنا مع محمود عن الهجرة، قال يجب أن نتجاوز الأحداث و محاولات إعادة تخليقها وألا ننظر للوراء. كان التجاوز لدى محمود مختلفًا عن التجاوز لدى أدهم، أحدهما يتحدث عن تجاوز بمعنى الخلاص الفردي الذي يضمن نجاة كل فرد في المجموعة، والآخر يتحدث عنه بمعنى الانعتاق من الماضي والتخطيط للمستقبل.
الاثنان متفقان على شيء محدد؛ أن لحظة تمزيق اللافتة هي لحظة مقدسة، لكن العيش المستميت بداخلها لن يمكننا من تمزيق أي لافتات أخرى، ونحن ندرك أننا نحتاج التجاوز بمعنييه؛ أن نبقى جميعًا في أمان، وأن ننظر إلى المستقبل بعيون من فهم الماضي واستفاد منه. كنت أستمع إلى حواراتهم ولا أعلق، وعندما تنفض لقاءاتنا، أرسل إليهم جملة أمل دنقل: ربما ننفق العمر كله كي ننقب ثغرة ليمر النور للأجيال، وأذيلها بجملة أعتقد فيها: ما زال في العمر متسع.