من المرجح أن تكون سمعت أو قرأت عن رؤية الحجر الأسود عبر الوسائط الحديثة وتقنيات الواقع الافتراضي، التي دشنت مؤخرًا، وأيًا كان موقفك من الحدث، فإن الأمر ليس بسيطًا كما سخر منه رواد مواقع التواصل، وليس مجرد "عبث بالدين" كما رآه المتشددون، إنما قد يكون خطوة فعلية وعملية في اتجاه ما يعرف تكنولوجيا العبادات، تقفز بتطور الشعائر، وبرؤية الناس للدين عموما على نحو لن يتوقعه أحد.
في الثالث عشر من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، نشرت وكالة الأنباء السعودية تقريرًا عن تدشين مبادرة أسمتها "الحجر الأسود الافتراضي"، أطلقتها وكالة شؤون المعارض والمتاحف ممثلةً في الإدارة العامة للمعارض الرقمية، بالتعاون مع معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج والعمرة بجامعة أم القرى. وتهدف المبادرة إلى استخدام الواقع الافتراضي (VR) والتجارب الرقمية التي تشير إلى محاكاة الواقع الحقيقي.
وأوضحت الوكالة الرسمية حينها، أن المبادرة دشنت بحضور الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس، ونشرت صورًا له وهو يرتدي نظارة VR، ويخوض تجربة لمس الحجر الأسود افتراضيًا.[1]
بمجرد نشر الصور على منصات التواصل الاجتماعي، أو الصحف الإلكترونية، ثارت حالة من الجدل، لم تخل من السخرية قطعًا، بين مؤيد للفكرة بوصفها استعمالًا للتكنولوجيا بما يفيد المسلمين، ومُعارِض كون المبادرة "بدعة" في نظره، وبالطبع "كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار".
الجدل الذي أثارته المبادرة، دفع بالسلطات السعودية ممثلة في شؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي إلى نشر توضيح، بعد نبأ التدشين بثلاثة أيام، في 16 ديسمبر/ كانون الأول، وصفت فيه نقل الزائرين إلى محاكاة الواقع الافتراضي بمشاهدة تفاصيل الحجر الأسود والكعبة المشرفة، بـ"التجربة الفريدة من نوعها في معرض عمارة الحرمين الشريفين". [2]
وأوضحت المؤسسة السعودية أن المبادرة تتيح لأي شخص مشاهدة الكعبة المشرفة، بمجرد لبس النظارة الخاصة بالجهاز، ورؤية الركن اليماني والحجر الأسود، و"الشذروان" (جزء من حجر أساس الكعبة) وبلاط الحرم والأجواء المحيطة بالكعبة بشكلٍ عام، فضلًا عن الاستماع إلى أصوات الأذان.
وتوسعيًا للتجربة، أتاحت الرئاسة العامة لشؤون الحرم، في 21 ديسمبر، للمرة الأولى معرض عمارة الحرمين الشريفين بمنطقة القصيم، (وسط شمال المملكة العربية السعودية)، استعمال محاكاة الواقع الافتراضي[3]، كإجراء ضمن خطة متكاملة للرئاسة الحرم، تستهدف بالأساس مواكبة التحول الرقمي وفق رؤية المملكة.
"حجر الجنة" يثير الجدل
يعتقد كثير من المسلمين أن الحجر الأسود جزءًا من السماء، استنادًا إلى أحاديث وردت عند الترمذي وأحمد والنسائي، مفاداها أنه "نزل به ملك من السماء" وكان "أشد بياضًا من اللبن فسودته خطايا بني آدم"، فضلًا عن الاعتقاد في كونه "أشرف أحجار الدنيا، وأعظم جزء في البيت الحرام، إذ لا شيء من الجنة في الأرض غيره"، على حد وصف فتوى صادرة من دار الإفتاء المصرية.
وسبق أن أثار الحجر جدلًا، مع انتشار جائحة كوفيد 19 وتفشي فيروس كورونا، حين تساءل الناس عن إباحة تقبيله في ظل إجراءات التباعد، الأمر الذي أجابت عليه أغلب دور الفتوى في العالم الإسلامي، بالامتناع عن تقبيله حال وجود احتمالية إيذاء للنفس، وذلك بناء على أن تقبيل الحجر "أمر مستحب"، لكنّ حفظ النفس "واجب".
وإذا نحينا جانبًا الجدل التاريخي حول أصل الحجر ومن أين جاء، فإن المبادرة الأخيرة فتحت الباب مرة أخرى لتصدر الحجر واجهة الاهتمامات، ليرى فريق أن استعمال تقنية VR قد يتيح لمن لم يستطع زيارة البيت الحرام أن يلقوا نظرة ولو افتراضية عليه، وفريق ثان رأى إمكانية الاستفادة من التقنية في تعليم مناسك الحج والعمرة، بينما رأى فريق ثالث أن المملكة تدشن خطوة باتجاه الحج عن بعد، مطالبين بالتدخل لمنع "العبث بالدين".
كنائس ديجتال
تأثير التكنولوجيا على العبادات (شعائرها وطقوسها) ليست إشكالية إسلامية فحسب، على العكس تبدو الظاهرة جديدة على الحوار الإسلامي، فيما فتحت مؤسسات دينية أخرى الملف من عقدين تقريبًا، أبرزها المؤسسات المسيحية الغربية والمصرية على السواء، التي وجدت نفسها مع تقدم العالم على نحو مطرد، في وضعية مثيرة للاهتمام، لتشهد مأزقًا مفاداه "ماذا نفعل"؟
كان السؤال يتمحور حول مشروعية اللجوء إلى الوسائط المتعددة والعروض التقدمية خلال طقوس العبادة، سواء في شكل PowerPoint أثناء العظة، أو استعمال مقاطع الفيديو في الخدمة، أو الشاشات التي تعرض كلمات الترانيم.
مؤلف كتاب عادات قلب التكنولوجيا الفائقة؛ العيش بذكاء في عصر المعلومات، وأستاذ فنون وعلوم الاتصال في كلية كالفن، في ولاية ميشيجان، كوينتن جيمس شولتز [4]، وجه أسئلة عن ضوابط استخدام التكنولوجيا في الكنائس وكان منها: ما المعايير، إن وجدت، التي قد تستخدمها الكنائس لقياس استخدامها لتقنيات العبادة؟ أي من هذه المعايير يمكن استخدامه على نطاق واسع في المجتمع؟ وأي منها قد يكون خاصًا بالأغراض الأساسية للعبادة الإلهية؟ بمعنى أي منها يعكس العلامات المميزة للقداسة أو العبادة المختلفة؟
اليوم تلجأ كنائس عدّة إلى التكنولوجيا لتنشيط الخدمات ومن ثم العمل على تعميق العبادة، فالتكنولوجيا تتجاوز مكبرات الصوت والميكروفونات والشاشات القابلة للسحب، فإذا كان ت فإذا كانت كلمة "العبادة" في المسيحية قد تشمل استخدام الموسيقى، وطالما شباب الكنيسة بحاجة إلى عبادة معاصرة، فمن الأفضل استخدام ما يسميه شولتز بـ"تقنيات العرض".
في البدء كانت الاستعارة
ومع الوقت، في يوم من الأيام من المحتمل أن تكون لدى كل كنيسة أجهزة iPad في المقاعد، الأمر الذي يقابل بالسخرية من المحافظين بقولهم "من المؤكد أنهم يتحدثون عن الطائرات وليس عن الكنائس". وهنا أن نلاحظ أن أبرز مسوغات الرفض، بجانب المحافظة على التقاليد هي الخشية من تحول الطقوس والشعائر إلى "عملية ترفيهية". وإذا تجاوزنا عن إشكالية هذا التحول كنوع من التيسير على البشرية، فإن رافضي تقنيات الـVR واستعمالها في الحرم المكي، يخشون أيضًا أن يتحول الحج إلى رحلة ترفيهية.
بالعودة إلى بيانات السلطات السعودية سواء الإخبارية التي نشرتها وكالة الأنباء أو تصريحات مسؤولي المسجد الحرام، فإننا نلاحظ عددًا من الأوصاف الاستعارية المستخدمة، التي ربما تنبئنا عن احتمالية تطور مستقبلي في نظرة علماء الدين الإسلامي برمته لمفاهيم العبادات.
وقبل أن نتوقف أمام هذه الاستعارات فإننا ننطلق من اعتقادنا في النسق المفاهيمي بشكل عام، والذي نركز عليه في فهم الأشياء وتفسير الظواهر، قائم في الأساس على الاستعارة، وبالطريقة التي حددها جورج لاكوف ومارك جونسون في كتابهما "الاستعارة نحيا بها"[5] فالاستعارات حقائق قائمة في نسقنا التصوري، وهي مسألة مهمة جدًا في حياتنا وتجعلنا ندرك أن من حولنا ونمارس فيه تجاربنا دائما يكون على نحو استعاري.
قداسة موازية
أولى الاستعارات التي تستوقفنا هي المسمى الذي أطلقته وكالة الأنباء السعودية على المبادرة "الحجر الأسود الافتراضي"، وأيًا كان الموقف من الحجر الأسود ذاته، فإن وصف "افتراضي" من المؤكد أنه سيجر دلالات لغوية على حجر ظلّ ينظر له المسلمون طوال 15 قرنًا بشيء من التوقير.
وكي نشرح الفكرة، علينا أن نبين أولًا أن ثمة توجه داخل الدراسات السسيولوجية يربط استعمال التكنولوجيا، ولو كان بسيطًا، بقضايا كبرى ومتشعبة في اتجاهات مختلفة، مثلًا شراء غسالة الصحون من المؤكد له آثار اجتماعية واضحة بعيدًا عن الوقوف وقت أقل على حوض المطبخ، فربما استهلكنا مزيدًا من الوقت على المائدة، تراجع معدلات الإنفاق على منح ضحايا المجاعات مثلًا، وزيادة استهلاك الطاقة مع تداعيات طويلة المدى على ظاهرة الاحتباس الحراري وتأثيرها على كوكب الأرض. إذن شراء غسالة الصحون، ليست مجرد حادثًا عاديًا، وهكذا يمتد تأثير التكنولوجيا اجتماعيًا.
إذن، استعمال التكنولوجيا له بالطبع تأثيرات ثقافية وفكرية واجتماعية، كذلك الأوصاف اللغوية، فبعد أن كان الحرم المكي بكامله بقعة مقدسة "في ذاتها"، في وجهة نظر أغلب المسلمين، وحظيت مكانيًا بنوع من "الهبة الإلهية" التي أكتستها بطبيعة الحال شيئًا من القداسة، أصبح الآن بإمكان التكنولوجيا صناعة بقعة موازية، ومن المحتمل أن تصنع "قداسة موازية".
الحجر الذي سقط من الجنة، سيصبح مع الأيام "افتراضيًا"، صورة أيقونية تسبح في الفضاء، ستشاهده وبنظارة VR، وتلمسه أيضًا بجهاز آخر، دون أن يسقط من وعينا أن كل هذه الأمور "ليست واقعية"، ولا نقول ليست حقيقية، الأمر الذي سيجر بالتبعية تصورات جديدة عن فكرة القداسة.
الخضوع للدراسة
الاستعارة الثانية هي "مكانز دينية وتاريخية" التي وردت على لسان عبد الرحمن السديس خلال تدشين المبادرة، موضحًا أن الحرمين الشريفين "يمتلكان مكانز دينية وتاريخية عظيمة، يجب العمل على رقمنتها وإيصالها للجميع".
هنا، نذكّر بأن التيارات السلفية تتشدد في الاستعمال اللغوي، الأمر الذي يصل إلى عدم استعمال عبارة "شخصية تاريخية" لوصف النبي محمد، وينسحب ذلك على الشعائر الدينية، مثلًا ثمة رفض قاطع بتسميتها طقوس العبادة، لذا فإن استعمال السديس عبارة مكانز دينية وتاريخية عظيمة، مسألة تستوجب التوقف أمامها.
وبغض النظر عن التعريف العلمي والأكاديمي لكلمة مكنز/ مفردة مكانز، (قائمة استنادية بالواصفات أو مصطلحات التكشيف في نظام المعلومات) فإن الدلالة الأكثر شيوعًا تشير إلى "المستودع أو الكنز"، وبإضافة مفردة "تاريخية"، يمكننا القول إن خطاب السديس يرى في الحرم المقدس "كنزًا تاريخيًا"، وعلى غرار كنوز المتاحف، فإن الحفاظ عليها يستدعي "رقمنتها"، هل يعني ذلك أن نصل في يوم ما إلى اعتبار الحرم برمته "متحفًا مفتوحًا"؟
جدير بالذكر هنا أن رقمنة الحرم "وكنوزه التاريخية" ليست الأولى من نوعها، فسبق أن دشنت المملكة في يوليو/ تموز الماضي "مشروع التعليم الافتراضي لمناسك الحج والعمرة"، وهو مشروع ثلاثي الأبعاد، متعدد اللغات والبيئات، بهدف تدريب المستخدمين على كيفية أداء مناسك الحج والعمرة بشكل صحيح، وتقليل الأخطاء الشائعة التي يرتكبونها في الحج إلى أقصى حد ممكن.
خطاب السديس يشير بوضوح إلى أن الأماكن المقدسة، المكية والمدينية، هي إرث تاريخي، خطوة جديدة في الاستعمال اللغوي، تكشف عن تصور جديد لم يكن متاحًا، الأمر الذي قد يُخضع تاريخ هذه الأماكن وما تشمله من شعائر للدراسة التاريخية، بعيدًا عن ستار القداسة الذي حجبها لقرون طويلة.
عالم بلا يقين
في عالم تموج فيه تطورات التقنية، ويضج بالرؤى الما بعد حداثية يصبح الحديث عن القوانين الدينية "العالمية" غير ممكن، فكل شيء يتشكل من خلال السياق الثقافي وعلى نحو مؤقت لوقت ومكان معينين، ويعمل الأفراد داخل هذه السياقات عن طريق اختيار أجزاء من الروحانيات المختلفة التي تخصهم وتخلق عالمهم الروحي الداخلي، حتى يصبح "لاهوت التكنولوجيا" صحيحًا مثل لاهوت رجال الدين.
في عالم ما بعد الحداثة، ليس هناك صواب أو خطأ، فالدين ظاهرة من صنع الإنسان بالكامل، بعبارة كارل ماركس "لو لم يوجد الدين لخلقه الناس"، ومن هنا نصبح أمام رؤى وأفكار تتراص على خط أفقي، فلم يعد هناك مكان للقيم المطلقة، وبتنا نعيش مجموعات تنضم وتندمج وتنقسم وتنفصل، كل حسب مصالحه ورؤاه.
وتنتج ما بعد الحداثة مجتمعات لا يوجد فيها "إله موضوعي"، ومن ثمّ يتكون التصور عن الله من الأفكار البشرية المختلفة، لنرجع إلى مقولة عباس محمود العقاد في كتابه الله "ترقى الإنسان في العقائد كما ترقى في العلوم والصناعات، فكانت عقائده الأولى مساوية لحياته الأولى".[6] وما دامت حياتنا تترقى فإن الدين يخضع هنا للتفاعلات المختلفة بين البشر.
أخيرًا، رجال الدين الذين لا يزالوا يحرِّمون صلاة الفرد من بيته خلف إمام التلفزيون، يبدو أنهم الآن في ورطة حقيقية، لما تفرضه تقنيات الواقع الافتراضي من تساؤلات عن إمكانية تأدية العبادات عن بُعد حقًا، والتكيف الذي سيلجأ إليه البعض لمجاراة التقدم القني، وطالما كان الحج عرفة، أي الوقوف بجبل عرفات، ولطالما كان ذلك ممكنًا وأنت جالس على أريكة صالون بيتك، فهل نسمع في يوم ما عن الحج الافتراضي؟
[1] الشيخ السديس يدشن مبادرة "الحجر الأسود الافتراضي"
[2] "الواقع الافتراضي" تجربة لمشاهدة تفاصيل الحجر الأسود والكعبة المشرفة في معرض عمارة الحرمين
[3] شؤون الحرمين تتيح تجربة محاكاة الواقع الافتراضي للحجر الأسود لزوار معرض عمارة الحرمين بالقصيم
[4] Questions About Worship and Technology: A starting point for discussion
[5] جورج لاكوف ومارك جونسن: الاستعارات التي نحيا بها. ترجمة: عبد المجيد جحفة، ط 1 دار توبقال للنشر- الدار البيضاء، 1996.
[6] عباس محمود العقاد: الله، شركة نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط 4، 2005، ص 6.