في ظهيرة يوم سبت صيف 2014 ألتقيت بـ(ر.أ) على أحد مقاهي وسط البلد القريبة من شارع الجمهورية، كان معه حقيبة سفر كبيرة، وحقيبة سامسونايت موديل التسعينيات العتيق، فتحها وأخذ يبحث في الكثير من الملفات والأوراق. حولنا على القهوة كان المشهد يتكرر باختلافات بسيطة. بعضهم يعرض مجموعته من طوابع البريد، آخرون يعرضون صورًا فوتوغرافيا قديمة، أو عملات ورقية. سيخبرني (ر.أ) أن معظم الصفقات التي تبدأ عبر الإنترنت والفيسبوك تُستكمل هنا، كل يوم سبت يلتقي تجار الكتب والورق القديم على نفس المقهى لإتمام ما بدأ من صفقات الإنترنت. حضرت لشراء مجموعة من الكروت الشخصية القديمة بمبلغ يوازي 60 دولارًا بأسعار تلك المرحلة.
عرفت (ر) عبر صفحة مخصصة لبيع الكتب القديمة، لكن سألته عن أي كروت شخصية تعود إلى فترة ما قبل 1945، عرض عليَّ مجموعة مختارة، كان من الصعب تحديد عمر الكروت، لأن الكارت ليس سوى ورقة عليها الاسم والمهنة ورقم التليفون والعنوان. دفعت المبلغ، وسألته عن تفاصيل أخري أو مخازن أكبر، قلت إني أبحث عن أي خطابات تخص عنوان 14 شارع الجزيرة- الزمالك، أو تحمل مجموعة من الأسماء سلمتها له في ورقة. قال إن طلبي شبه مستحيل، فلا يوجد مَن بإمكانه البحث لدى كل بائعي الأوراق القديمة، لكن بما أن الورق قد خرج من الزمالك، فهناك معلمين متخصصين في تفريغ شقق الزمالك. ثم استأذن في الانتقال لطاولة أخرى لأن لديه موعدًا مع زبون آخر.
أخفيت مجموعة الكروت في حقيبتي، وقلت لنفسي إني لن أخبر أحدًا بأني دفعت 800 جنيه في كروت شخصية لمحامين وأطباء معظمهم مجهولين وماتوا منذ عقود علي الأرجح. فباستثناء الجالسين على ذلك المقهى الآن؛ لن يفهم معظم مَن أعرفهم لماذا أدفع مئات الجنيهات في أوراق بلا أي قيمة، لكن أصلًا ما هي القيمة؟
البلوكتشين
ظهر مصطلح تقنية الكتل، أو Blockchain، للمرة الأولى في ورقة بحثية كتبها دافيد تشاوم عام 1989، وقتها كان الغرض الوصول إلى تقنية تضمن صحة الوثائق والتوقيعات الإلكترونية عليها وتحول دون تزويرها أو التلاعب فيها.
تقنية الكتل، هي مجموعة من السجلات المشفرة مرتبطة ببعضها البعض وبطابع زمني موحد وموزعة على شبكة من الأجهزة. استخدمت تلك التقنية بشكل مركزي ومحدود خلال التسعينيات وبداية الألفية، حتى أعاد ساتوشي ناكموتو،، تقديم تقنية سلسلة الكتل لتكون الأساس التقني لعملة البيتكوين. التفاصيل التقنية متاحة على الإنترنت بالعربية والانجليزية لمن يحب الاستزادة.
لكن لغير المتخصصين وبتبسيط مخل؛ فالإنترنت والحوسبة كما عرفناها، اعتمدت على تشفير المعلومات وتخزينها على أقراص تخزين/هاردات، أو خوادم/سيرفرات محمية بكلمة سر. حين تنقل دولارًا من حسابك إلى حساب آخر، تتم هذه العملية عبر قنوات مشفرة، حيث يكون الخادم/سيرفر البنك هو المصدر الوحيد الذي يؤكد ما إذا كنت تمتلك هذا الدولار أم لا.
هذا الوضع جعلنا أسرى لدى البنوك، فأي معاملة على الإنترنت يجب أن تتم عبر الأنظمة البنكية الإلكترونية وتحت إشراف ورقابة البنك المركزي.
إذن؛ فالبنك هو جهة التوثيق الوحيدة، كل عملة ورقية يجب أن يكون عليه إمضاء محافظ البنك المركزي، وبدون هذا الإمضاء التوثيقي لا قيمة للجنيه، البنك هو الموثق لكل تعامل تجاري بيننا، ونحن ارتضينا أن نثق في البنك المركزي وأن يتحمل وحده منفردًا هذا الدور، وبالتالي أصبحنا أسري لدى البنك وسياساته، فبقرار صغير منه يمكن أن تستيقظ لتجد القيمة الشرائية للجنيه انخفضت للنصف تحت دعوى سياسات التعويم مثلًا، وبالتالي قيمة ثروتك النقدية كذلك انخفضت.
بعد الأزمة الاقتصادية في 2008؛ رأى ساتوشي ناكاموتو أن الأزمة قابلة للتكرار طالما ظلت البنوك في قلب نظامنا المالي والتكنولوجي، وقدم الحل من خلال تقنية البلوكتشين. فبدلًا من أن يكون البنك هو جهة التوثيق الوحيدة التي نثق فيها جميعًا، وبدلًا من الاعتماد على سيرفرات البنوك لتأكيد كل صحة تعامل، قدّم ساتوشي نموذجًا يتم فيه استخدام شبكة البلوكتشين حيث تكون كل السجلات موزعة على شبكة الإنترنت، وبالتالي فأي معاملة يتم توثيقها من جميع النقاط الفاعلة في الشبكة.
لتبسيط الأمور بشكل مخل أكثر؛ تخيل أن لديك سجلًا ماليًا يحتوي على حسابك البنكي، هذا السجل محفوظ لدى سيرفرات البنك. حين تشتري شيئًا من الإنترنت يقوم المتجر بالتحقق من حسابك وامتلاكك الرصيد عبر البنك. في البلوكتشين، يُحفظ سجلك/ محفظتك في نسخ مشفرة مرتبطة زمنيا مع بعضها وموزعة على الأجهزة المتصلة بالشبكة، ولا يمكن لكن لا يمكن تعديل أو تغيير هذا السجل إلا بموافقة ومعرفة كل النقاط التي في الشبكة، وبالتالي تكون إمكانية تزوير إو تعديل السجل أو قرصنته شبه مستحيلة.
أحدثت البلوكتشين ثورة شاملة في عوالم الاتصالات والتقنية لا تتوقف عند العملات المشفرة وتجارتها، فمثلًا الموانئ وشركات الشحن في كل العالم حتى في الدول التي تجرّم استخدام العملات المشفرة مثل مصر أصبحت موانئها تعتمد على البلوكتشين، إذ تتحدث تقارير عن بدء موانئ مصر التعامل على شبكة وعملة Matic في تقاعداتها.
شنطة السفر
حملت الكروت والأوراق التي اشتريتها من (ر.أ) معي إلى أمريكا. خرجت بكل الأوراق والخطابات والصور التي تخص مشروعي الروائي الذي أحلم به منذ سنوات، وتركت كل الكتب والمخطوطات النادرة التي لم يكن لها مكان في حقيبة السفر.
وصلت أمريكا، جنة الحرية الاقتصادية حيث يمكنني شراء كل ما أريده من عملات مشفرة من البيتكوين إلى السيلو، بعد أن كنت أخاف القيام بهذا في مصر نظرًا لتجريم أي شكل من أشكال الاتجار أو اقتناء البيتكوين أو العملات المشفرة.
اتجهت لتحويل مدخراتي إلى عملات مشفرة لأن التضخم يبتلع قيمة العملات الورقية سواء كانت جنيه مصري أو حتى دولار، في حين تتضاعف قيمة العملات الرقمية كل عام. بدأت كذلك أهتم أكثر بالـNFT، والتي تترجم إلى العربية بـ الرموز غير القابلة للاستبدال، وحسب التعريف الويكيبدي البسيط، فإن هذه الرموز عبارة عن وحدة بيانات فريدة وغير قابلة للاستبدال مخزنة في سجل رقمي، ويمكن استخدامها لتمثيل العناصر القابلة للاستنساخ بسهولة مثل الصور والفيديو والملفات الرقمية الأخرى.
تبسيط مخل آخر؛ تخيّل أنك أنتجت عملًا فنيًا إلكترونيًا، وليكن صورة فوتوغرافية أو لحن موسيقي، ثم رفعت ذلك العمل على الإنترنت، في هذه الحالة يمكن لأي شخص نسخ العمل والتعديل عليه بل وادعاء ملكيته وبيعه والتربح منه، وعلى المتضرر اللجوء للقضاء.
لكن لنفترض أن الصورة التي صوّرتها، قمت بتحويلها إلى رمز غير قابل للاستبدال، NFT، في هذه الحالة أصبحت الصورة سجلًا موثقًا على شبكة البلوكتشين، هذا السجل هو عقد إثبات ملكيتك للصورة، وهو عقد لا يمكن التعديل عليه أو مسحه، هو سجل وعقد ساري الفاعلية طالما تواجد البلوكتشين، والإنترنت.
تقدم تكنولوجيا البلوكتشين وعقود الـNFT مفاهيم وتصورات جديدة لماهية العمل الفنية ومعنى حقوق الملكية. فمثلًا في العالم القديم حينما تنتج عملًا فنيًا وليكن لوحة مثلًا، تذهب إلى الجاليري الذي يعرض لوحتك ثم يبيعها بعدما يأخذ نسبة قد تصل إلى 70% من قيمة العمل الفني. لنفترض أن الجاليري باع لوحتك بـ100 دولار، إذن نصيبك سيكون 30 دولارًا. وبافتراض أن مشتري لوحتك باعها بعد عامين أو ثلاثة بألف دولار، فإن نصيبك من هذه البيعة هو صفر كبير.
تنقطع علاقتك بالعمل الفني بمجرد بيعه في العالم القديم، ولا يكون لك أي حقوق سوى توقيعك على العمل الفني.
في المقابل؛ وفي عالم الـNFT، تحصل المنصة التي تبيع عليها العمل على نسبة من البيعة الأولى لا تتجاوز في أقصى تقدير الـ40%، لكن ملكيتك للعمل لا تسقط بمجرد بيعك العمل، فعند كل مرة يتم بيع العمل فيها تحصل على 10% من البيعة. هذه النسب ليست ثابتة، فكل منصة لبيع الـNFT لديها نسبتها وعقودها وكل فنان يمكنه تحديد النسبة المرضية له.
تعمل الـNFT ضمن نظام شبكات عملة الإيثيريوم. وبالتالي فعمليات البيع والشراء كلها تتم بعملة الإيثيريوم، ETH، والتي بدورها يرتفع سعرها يومًا بعد يوم. عمل فني واحد قد يدر دخلًا مستمرًا طوال حياتك وحياة ورثتك من بعدك كلما تم بيعه أو إعادة تدويره.
يجب أن نوضح هنا أن الـNFT عمل فني في حد ذاته، فمثلًا عند تحويلك صورة فوتوغرافية لـNFT ثم بيعك إياها، لا يعني هذا تنازلك أو بيعك حقوق الصورة، فبإمكانك طباعة الصورة وبيعها أو التنازل عن حقوق نشرها لمجلة أو جريدة كما تريد. الشيء الذي لم تعد تملكه هو NFT الصورة، وهو المعلومات البينية Meta Data للصورة/ العمل، لا الصورة نفسها.
شخصيًا؛ خضت أول مغامرة وحولت صفحة من روايتي استخدام الحياة إلى NFT، وما تزال مطروحة للبيع حتى الآن على موقع أوبنسي، opensea، لكن شعرت بعدها أن الطريق طويل، فالعملات المشفرة لا تزال مجرمة في عدد من الدول العربية مثل مصر، وبينما تندفع الإمارات والخليج بقفزات هائلة في عالم البلوكتشين؛ تقبع مصر في المؤخرة وتجرم التعامل بها، بالتالي فنحن لا نزال في البداية ونحتاج لنشر الثقافة وبناء السوق، والأهم خلق بيئة لديها قدر من التمييز بين الـ NFT، وفن NFT فأي ملف رقمي يمكن تحويله إلى NFT. مثلًا اتحاد كرة السلة الأمريكي بدلًا من طرح الألبومات التي تحتوي صور اللاعبين، أصبح يطرح هذه الصور في شكل NFT، لكن إذا كنت فنانًا أو كاتبًا فيجب أن تجد وسيلة لطرح أعمالك في بيئة تبعدك عن المنافسة مع صور محمد صلاح مثلًا.
هنا ظهر أدهم حافظ ومجموعة وزارة، قادمين من المستقبل إلى الشرق الأوسط المبعثر. عرفت أدهم كفنان و راقص ومصمم رقصات، وبعد سنوات من لقائنا في القاهرة تواصلنا مرة أخرى، هذه المرة أعيش أنا في لاس فيجاس وهو في نيويورك حيث يعمل على رسالته لدرجة الدكتوراة في جامعة نيويورك. أخبرني أدهم عن شركته الجديدة، وزارة، التي أنشأها مع عدد من الفنانين، بهدف أن تكون أول منصة لتسويق وبيع فن الـNFT في الشرق الأوسط علي أن تعمل باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية.
دعاني أدهم بعد ذلك إلى المشاركة في معرض أرقام، أول معرض محوري للفن الرقمي وفن الكريبتو من الفنانين العرب والأفارقة والآسيويين. قررت المشاركة مع أيمن الزرقاني بفصل كامل من رواية استخدام الحياة وهو فصل اسمه حيوانات القاهرة، ويحتوي على عشر بورتريهات تمثل حيوانات القاهرة المستقبلية، وبمصاحبة كل بورتريه نص قصير، كل عمل سيتم تحويله لثلاث نسخ NFT، بالتالي فالمطروح للبيع هو ثلاثين قطعة NFT. انتبهت أثناء مناقشة التحضيرات مع أدهم أن هذا العمل سيكون أول تجربة لتحويل نص أدبي أو جزء من عمل أدبي إلى NFT وفتح النقاش مع أدهم مناطق لم أعلم بوجودها حول فرص تطوير عملية إنتاج الأدب وآفاق تمازج اقتصاد وثقافة البلوكتشين والـNFT مع مسارات الكتابة والنشر.
افتتح معرض أرقام في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي بمشاركة أكثر من عشرين فنانًا من دول مختلفة ومن ممارسات فنية متعددة، منهم وجوه أعرفها مثل شيماء عزيز، إيمي سلطان، أحمد الشاعر، ومحمد جابر، ومنهم وجوه أخرى تعرفت لأول مرة على أعمالهم.
كان عمل محمد جابر هو أول قطعة بيعت في المعرض، وأثار طرحه كذلك جدلًا وردودًا وتعليقات متباينة، فجابر هو من صمم شعار كن مع الثورة الذي انتشر ضمن شعارات ثورة يناير 2011، في كل مكان وطبع دون إذن أو تصريح من صاحبه على آلاف المنتجات التجارية. حكى لي جابر ذات مرة أنه في سنة 2013 تقريبًا تواصل معه صاحب مطبعة ومحل ملابس، وعرض عليه أربعة آلاف جنيه على سبيل الشكر، قائلًا إنه صنع ثروة طائلة عبر استخدام تصميمه وطباعته على آلاف التيشيرتات التي كان يبيعها في الميدان. ضحك جابر ورفض تقاضي المبلغ، أخبرني وقتها "هاعمل إيه يعني. واحد خد الشغل وباعه وكسب من وراه وبنى عمارة وجاي يديني أربع آلاف جنيه؟".
الآن بعد أكثر من عشر سنوات على الثورة يطرح جابر التصميم في صيغة NFT في ثلاث النسخ، الأول بيعت بـ 0.05 إيثريوم، أي بما يوازاي 238 دولارًا حسب سعر الإيثريوم في أول ديسمبر/ كانون الأول الجاري. يقول جابر إن بداية تفكيره في طرح شعار كن مع الثورة كـNFT بدأت العام الماضي حين تواصل معه متحف MKG في هامبورج وطلب منه اقتناء التصميم ضمن مقتنيات المتحف، وقتها فكر جابر في معنى اقتناء المتحف لهذا العمل الذي أنتجه كفن سياسي كدعوة لإضراب المحلة في 6 أبريل/ نيسان عام 2008، ثم استخدم بعد ذلك في سياق ثورة يناير، هل لو انتهى التصميم ضمن مقتنيات المتحف يفقد دوره وفاعليته السياسية؟ وسط هذه الأسئلة انبثقت فكرة إعادة إحياء التصميم مرة آخري كـ NFT فأعاد جابر العمل على الشعار كتصميم ثلاثي الأبعاد، وطرحه ضمن معرض أرقام.
الحليوة الفرنسي
لقائي بـ(ر.أ) سنة 2014 كان هدفه محاولة عبثية للبحث عن أية أوراق أو رسائل أو سجلات تخص جماعة الفن والحرية والحركة السريالية المصرية، وذلك عبر اللجوء لكهنة العالم السري لتجارة الأرشيف والكتب والأوراق القديمة في القاهرة. وهي قصة تلخص بتفاصيلها المسارات الغامضة التي تربط الأحلام بالواقع بالفضاء السيبراني والبلوكتشين.
"في عام 2013 احتدم الصراع بين فرنسا ومؤسساتها الفنية من جهة والشارقة، الإمارات ومؤسساتها الفنية من جهة أخرى، تنافس الاثنان على تركة أو جثة الحركة السريالية المصرية. أنفق الطرفان الدولارات لإقامة المعارض وإعادة تقديم تراث الحركة، كلا ضمن سياقه القومي ودعايته السياسية. فرنسا اختارت (س.ب) لجمع لوحات وأعمال الحركة لعرضها في معرض يقدمها بصفتها "نتاج للإشعاع الفرنسي على العالم، كصورة تذكارية لمجد ذهبي فرانكفوني قديم". في حين اختارت الشارقة وتحت رعاية وتوجيه كل من سمو (ح.ق) و(ص.إ) تقديم أعضاء الحركة السيريالية المصرية بصفتهم "إسهام عربي في تاريخ حركة الفن الحديث".
الفن والحرية، تلك الحركة الملهمة التي تأسست ضد الفاشية والنعرات القومية، يتم تقطيع أوصالها لخدمة أغراض الخطابة والدعاية القومية الفرنسية والعربية. كان هذا يحدث بينما الدبابات تمرح في شوارع القاهرة، وشمس الفاشية الجديدة تشرق على مصر.
وبحثًا عن الاستشفاء والراحة بدأت في زيارة حديقة المركز الثقافي الفرنسي للعمل في جو مشمس والتمتع بمأكولاتهم الخفيفة اللذيذة، وهناك التقيت بحبيب فرنسي، وتنوعت لقاءاتنا بين الحديقة وقاعة جورج حنين التي تحتوي مكتبته الشخصية. بين القبلات والتحسيس في حضرة جورج حنين، كان الشاب يترجم ما نتصفحه، كما خضنا معًا لعبة فتح وتصفح كل الكتب في المكتبة، ليتساقط من بين أوراقها، بطاقات وفواتير وغيرها من الأشياء التي نساها جورج وبولا أو وضعوها كرسائل مشفرة.
اشتعلت علاقتي بالحليوة الفرنساوي ذو الفم المصاص لبضعة أسابيع ثم انطفأت سريعًا، فتوقفت عن زيارة المكتبة. بعدها بأيام حلمت بأني تلقيت دعوة على العشاء من جورج وبولا. استيقظت من النوم مدركًا معنى الإشارة وضرورة التنفيذ. شعرت بوجوب جمع هذه المتعلقات المخفية داخل الكتب أو تلك الموجودة لدى تجار الورق والأرشيفات لإنقاذها من التوظيف السياسي المهين، وقادني بحثي إلى (ر.أ) والذي بدوره دلّني على كبار تجار الورق والأنتيكات في الزمالك وتوصلت بالفعل إلى أوراق وخطابات ومتعلقات تخص عددًا من أعضاء الحركة وأرشيفها، من بين هذه الخطابات عثرت على ذلك الخطاب من بنك القاهرة إلى جورج حنين، ويحتوي على إيصال استلام أربعة جنيهات قيمة تأجيرة الخزانة رقم واحد، الصندوق رقم تسعة، من قسم الخزائن الحديدية. تغطي قيمة الإيجار من 1 سبتمبر/ أيلول 1961 إلى 31 أغسطس/ آب 1962.
استوقفني هذا الإيصال، لأن جورج حنين غادر مصر منفيًا وبشكل نهائي عام 1961، وبالتالي فصندوق الخزينة لم يفتح بعد مغادرته. ما الذي وضعه جورج حنين إذن في الصندوق رقم تسعة في الخزانة رقم واحد؟
استكملت بحثي ومهمتي، حتى قبض عليّ في عام 2016 لسبب يعرفه الجميع ولا داعٍ لذكره هنا، قضيت سنة في السجن وهناك ألتقيت بـ (م.ع) مدير سابق في أحد البنوك الكبرى، توطدت علاقتنا في السجن، وأخبرني أن الخزائن التي لا يُدفع إيجارها تترك فترة، ثم تنقل إلى مكان حفظ آخر، ثم بعد مرور فترة زمنية محددة إذا لم يظهر ورثة، تُفتح الخزينة وتقرر لجنة بنكية كيفية التصرف فيها، إما بالبيع عبر المزاد أو حسبما يتراءى لها. حكى لي أن في عهده فتحوا خزانة ذات مرة ووجدوا بداخلها عددًا من اللوحات البديعة مرسومة على أقمشة ومطوية بعناية، لكن بدا عليها أثر التخزين غير الجيد، وكان قرار اللجنة وقتها إرسال اللوحات لوزارة الثقافة للتصرف فيها بمعرفتها.
بعد خروجي من السجن ذهبت لزيارة (م.ع) وكان قد خرج قبلي، وبدأت رحلة بحث أخرى، حتى خروجي من مصر مصطحبًا معي كل ما جمعته، لتكون نواة مشروعي الروائي القادم، ثلاثية روائية فيها وجهٌ من حكايتي مع جورج حنين، ورحلة البحث في مخازن الكتب والأوراق القديمة عن آثاره وآثار جماعته، ومعنى التكرار الأبدي لدوائر اليأس في حياتنا في مصر.
فكرت مع أدهم كيف يمكن أن يتحول الـNFT إلى وسيلة لدعم الأدب والكتاب لا فقط للنشر، ومن حديثنا حول مشروعي لكتابة ثلاثية حنين، انبثقت فكرة مشروعنا القادم، حيث سأبدأ في تحويل بعض الأوراق والتذكارات التي عثرت عليها ضمن المشروع إلى NFT وطرحها للبيع، وعائدات البيع ستكون مصدر تمويل مشروع الرواية القادمة. كل قطعة سيتم عرضها كـNFT ستكون موضوع الفصل الذي أعمل على كتابته حتى نصل إلى المحتويات ونفتح الخبيئة ونعرضها، وبذلك يمنح الكاتب الفرصة للقارئ لتمويل عمله والمشاركة في صناعة إرث وميراث الكتاب. يكشف الكاتب أحشاء عمله قطعة تليها قطعة حتى نصل إلى الخزنة رقم واحد الصندوق رقم تسعة. كيف سنبني ذلك المشروع، كيف سنسوقه، هذا هو عنوان المغامرة القادمة.