مع بداية إنشاء صندوق تحيا مصر عام 2014، وشروعه في ممارسة أعماله من جمع لتبرعات المواطنين ورجال الأعمال وإنفاقها على أنشطة التنمية الاجتماعية، كان يدور خلف الكواليس صراع محتدم بشأن الرقابة على أموال الصندوق. طرفا الصراع كانا الرئيس عبد الفتاح السيسي صاحب الفكرة من جهة، والمستشار هشام جنينة رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، حينها، من جهة أخرى.
كلنا يعرف الآن كيف انتهى الصراع بتعديل قانون الصندوق للحد من الرقابة عليه، ثم الإطاحة بهشام جنينة وأخيرًا سجنه خمس سنوات في قضية عسكرية بتهمة نشر أخبار مسيئة عن الدولة، لكن غير المعروف هو ما ننشره في هذا التقرير من خلال وثائق حصرية حصلت عليها المنصة وتكشف للمرة الأولى أبعاد هذا الصراع.
نبدأ من 24 ديسمبر/ كانون الأول 2014، عندما قرر رئيس الجمهورية إنشاء صندوق يسمى تحيا مصر، القرار تضمن هذا البند الذي كان مدخلًا للمستشار هشام جنينة لمحاولة فرض رقابة مالية على الصندوق "تعتبر أموال الصندوق أموالًا عامة ويتولى الجهاز المركزي للمحاسبات مراجعة ومراقبة حساباته"، فأرسل الجهاز خطابًا إلى مجلس الوزراء حمل رقم 158، بعد شهر واحد من إنشاء الصندوق، يطلب فيه الإفصاح عن جميع موارد الصندوق في الداخل والخارج بهدف الرقابة المالية والقانونية، إلا أن إدارة الجهاز لم تتلقَّ أي رد على الطلب.
لم يقف الجهاز مكتوف الأيدي أمام هذا التجاهل، وتوجه على مدار شهرين إلى هيئة الشؤون المالية للقوات المسلحة لفحص أعمال الصندوق، ولكنهم وبحسب ما أوضحوا بعد ذلك في مخاطبات رسمية، حصلت المنصة على نسخة منها، لم يجدوا أي تعاون من المسؤولين بالصندوق ولم يتسنَّ لهم إنجاز مهامهم أو الحصول على أي بيانات مالية تخص الصندوق.
هذه الزيارات يعود تاريخها ليومي 27 أبريل/ نيسان 2015، و18 مايو/ أيار 2015.
ولكن لماذا توجه مسؤولو الجهاز الجهاز المركزي للمحاسبات وقتها إلى إدارة الشؤون المالية للقوات المسلحة للحصول على المستندات المالية الخاصة بالجهاز؟
يكمن ذلك في أن رئيس تلك الإدارة وقتها كان اللواء محمد إبراهيم أمين نصر، والذي أوكل إلى جانب منصبه في الجيش، منصب آخر هو الأمين العام لصندوق تحيا مصر، علمًا بأنه يشغل في الوقت الحالي وبعد تقاعده من الخدمة في 2019 منصب مستشار الشؤون المالية لرئيس الجمهورية.
ظلت أموال الصندوق بمعزل عن الرقابة بسبب تصرفات إدارية قد يمكن نسبتها إلى "الروتين الحكومي"، حتى تدخلت رئاسة الجمهورية للمرة الأولى في سبيل إزاحة رقابة الجهاز المركزي للمحاسبات عن أموال الصندوق.
هذا الظهور سيتكرر فيما بعد.
تمثلت الخطوة الرئاسية في إصدار الرئيس عبد الفتاح السيسي، في 8 يوليو/ تموز 2015 القرار بقانون رقم 84 لسنة 2015 بإنشاء صندوق تحيا مصر، والذي نصت المادة التاسعة منه على "تُعدَّ أموال الصندوق أموالًا عامة في تطبيق أحكام قانون العقوبات، ويقوم الجهاز المركزي للمحاسبات بإعداد تقرير مؤشرات الأداء سنويًا في ضوء القوائم المالية المعتمدة من مراقب الحسابات، ويعرض على مجلس الأمناء".
ورغم استمرار التأكيد على أن أموال الصندوق تعد من قبيل الأموال العامة، إلا أن الصياغة القانونية الجديدة غلّت يد الجهاز عن ممارسة دوره الرقابي الاعتيادي المتمثل في مراجعة القوائم المالية للصندوق، ومقارنة الموارد بأوجه الصرف لبيان المخالفات المالية، حال وجودها، وإحالتها للنيابة العامة إذا اقتضى الأمر. النص القانوني الجديد حوّل الجهاز إلى جهة رقابة صورية يقتصر دور الجهاز فيها على مجرد "إعداد تقرير مؤشرات الأداء".
في مقابل هذا التدخل الرئاسي، أرسل رئيس الجهاز المستشار هشام جنينة طلبًا للجمعية العمومية لقسمي الفتوي والتشريع بمجلس الدولة، يطلب منها إبداء الرأي القانوني في خضوع الصندوق لرقابة الجهاز، مستشهدًا بنص القانون الجديد الذي يقر بأن أموال الصندوق "أموالًا عامة"، وبالتالي فإنها تخضع لتطبيق أحكام قانون العقوبات.
السيسي يتبرع لصندوق تحيا مصر
القضاء يظهر في الصورة
هنا تدخل القضاء بوضع أول تفسير قضائي، هذا التفسير دعم موقف رئاسة الجمهورية في مواجهة رغبة الجهاز المركزي للمحاسبات، ورئيسه، في الرقابة على الأموال العامة. يقول النص القضائي "يكشف بجلاء عن انصراف إرادة رئيس الجمهورية إلى تحديد الدور الرقابي للجهاز على الصندوق". موضحًا أن "ذلك النص يترتب عليه تمتع الصندوق بالاستقلال المالي والإداري، بالإضافة إلى إسناد سلطة تحديد أساليب الإشراف عليه وإدارته، وتصريف شئونه المالية والإدارية إلى رئيس الجمهورية بقرار، ودون التقيد بالنظم الحكومية المنصوص عليها في أي قانون آخر".
وفقًا لقسم الفتوى والتشريع تضمنت آثار القانون الجديد "الحد من إطلاق وصف الأموال العامة على أموال الصندوق"، بالإضافة إلى تعديل الدور المنوط بالجهاز المركزي للمحاسبات في الرقابة على الصندوق، فبعد أن كان الجهاز يتولى مراجعة ومراقبة حساباته، وإعداد تقرير ربع سنوي يعرض على رئيس الجمهورية، وفقا للمادة الثامنة من القرار بقانون رقم 139 لسنة 2014، انحصر هذا الدور في قيام الجهاز بإعداد تقرير مؤشرات أداء الصندوق سنويًا في ضوء القوائم المالية المعتمدة من مراقب حسابات الصندوق، الذى يتم اختياره بقرار من مجلس الأمناء من بين أحد مكاتب المراجعة المسجلة لدى البنك المركزي.
وبهذا أكد قسم الفتوى والتشريع بمجلس الدولة أن صندوق تحيا مصر ذو طبيعة خاصة، مما يخرجه من عداد الجهات الخاضعة للرقابة مثل الجهات الحكومية والمحلية والشركات العامة والنقابات والاتحادات المهنية والعمالية، والأحزاب السياسية، والمؤسسات الصحفية القومية، والصحف الحزبية الخاضعة لرقابة الجهاز المركزى للمحاسبات، كما أن الدولة لا تقوم بإعانته وفقًا للتنظيم الحاكم له، أو تضمن له حدًا من الربح.
جولة ثانية تبدأ مع جهاز دون "جنينة"
انتهت الجولة الأولى مع تدخل القضاء، واستمر "إبعاد" الجهاز المركزي للمحاسبات لمدة 6 سنوات، لكن القضاء تدخل ثانية، هذه المرة لصالح الجهاز ورقابته.
خلال السنوات الست تعاظمت استثمارات الصندوق وتشعبت لكن فتوى حديثة صادرة عن الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة، وسعّت من سلطات الجهاز الرقابية على الصندوق هذه المرة، بتاريخ 23 يونيو/ حزيران 2021.
في مطلع عام 2021، أرسل الجهاز المركزي للمحاسبات طلبًا جديدًا للجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة لإبداء الرأي القانوني في الرقابة على الصندوق.
لكن ما الذي دفع الجهاز لهذا الطلب مجددًا؟
أثناء العمل في الرقابة على الشركات العامة لاحظ الجهاز مساهمات للصندوق في بعضها، ومنها شركة بوابة مصر الرقمية، والتي تصل مساهمة الجهاز فيها إلى 66% من رأسمالها. هنا تجدد التضارب القديم: النص القانوني وبعده الفتوى القضائية يبعدان الجهاز عن الرقابة على أعمال الصندوق، لكن القانون لم يبعد الجهاز عن الرقابة على الشركات العامة.
توقف الجهاز وقرر إشراك القضاء مجددًا: هل من حقنا الرقابة على أموال شركة بوابة مصر الرقمية باعتبارها شركة عامة، أم نتوقف عن الرقابة لأنها غالبية أسهمها مملوكة لصندوق تحيا مصر؟
انتهت الفتوى الجديدة إلى أن "الصندوق أصبح شكلًا جديدًا من أشكال الشركات العامة"، وأضافت الفتوى التي تنفرد المنصة بنشرها "للصندوق طبيعة متفردة يغلُب عليها الطابع العام، فهو ذاته مِلكٌ للدولة، أنشأه المشرع لمعاونة أجهزة الدولة في إقامة مشروعات خدمية وتنموية"، وبالتالي فإنها "أغراض في جملتها تستهدف تحقيق النفع العام".
وعن الرقابة والتعارض مع القانون الذي أصدره رئيس الجمهورية ويحد من سلطة الرقابة على الصندوق، قالت الفتوى الأخيرة إن هذا النص ينطبق فقط على أموال الصندوق نفسه ولا ينصرف على الشركات التي يساهم فيها الصندوق أو يمتلكها، وبالتالي فإنها خاضعة لرقابة الجهاز.
ورغم صدور الفتوى بمضمونها السابق، وتغير قيادة الجهاز المركزي للمحاسبات، يبدو أن اتجاه السلطات ورغبتها في تقييد رقابة الجهاز على الصندوق ستستمر، خاصة وأن الرئيس عبد الفتاح السيسي قال في احتفالية أبواب الخير التي نظمها صندوق تحيا مصر يوم 5 سبتمبر/ أيلول الماضي "صندوق تحيا مصر تحت المسؤولية المباشرة لي، الجنيه مبيطلعش كدا، لازم أصدق علشان تطلع الفلوس، اطمئنوا أموالكم في أيدي أمينة بإذن الله، وتنفق بشكل مخطط".
السيسي: الصندوق تحت رعايتي والجنيه ما بيطلعش كدا