3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 كان تاريخًا فارقًا في حياة الملايين، ليس فقط لأنه التاريخ الذي رفع فيه البنك المركزي يده عن حماية الجنيه بعد شهور طويلة من محاولات فاشلة للسيطرة على سوق سوداء للدولار وقرّر ترك سعره للعرض والطلب، ولا لأن العملة المحلية فقدت أكثر من نصف قيمتها خلال الأسابيع التالية لهذا التعويم، ولكن لأن السنوات التالية لـ2016 شهدت تغيرات اقتصادية واجتماعية عميقة الأثر.
تسبب التعويم في موجة تضخمية قوية خلال 2017، ولجأ البنك المركزي للسيطرة عليها من خلال رفع الفوائد، هذه الأحداث كان لها أثر بالغ التباين على فئات مختلفة: المواطن واجه صدمة في الأسعار لا يزال يشعر بآثارها إلى اليوم. والمستثمر المُنتج أصبح مثقَلًا بتكلفة مرتفعة لفوائد القروض وهو ما أثر على قدرته على التوسع الإنتاجي ومن ثم على توفير فرص العمل. أما المستثمر في ديون الحكومة قصيرة الأجل (أذون الخزانة) فكان يعيش أسعد أيامه، خاصة إذا كان أجنبيًا، فالأخير يستطيع أن يقترض بالدولار من الخارج بفائدة متدنية ثم يعيد توجيه الأموال لتسليف حكومتنا بفائدة شديدة الارتفاع.
تراجع التضخم بعد 2018 وبدأ البنك المركزي منذ ذلك الحين في إعادة السياسة النقدية لوضعها الطبيعي، ولكن هذا لا يعني تراجع الأسعار، وإنما ما حدث هو تهدئة حدة ارتفاعها، تغيرت السياسيات لكن بقي مع المواطن نفقات الحياة المتضاعفة وواجه ضغوطًا جديدة خلال السنوات التالية خاصة في 2020، عندما تسبب وباء كورونا في وقف العديد من الأنشطة الاقتصادية، فاجتمع عليه الغلاء والتعطل.
النجاح الأبرز للتعويم كان إيقاف السوق السوداء وتشجيع قطاعات واسعة على بيع مدخراتها الدولارية إلى القطاع المصرفي، وهو ما أشعر الأجانب بأنهم يستطيعون الاستثمار في مصر وهم مطمئنين لإمكانية تحويل أصولهم المقومة بالجنيه إلى دولار في أي وقت مع توفر العملة الأمريكية بالبنوك، وساهم ذلك في تحسين احتياطي النقد الأجنبي، لكن هذا لا يعني أمانًا مطلقًا من الضغوط الاقتصادية.
صحيح أن استقرار الجنيه ساعدنا على الاندماج بشكل أكبر في سوق الديون العالمي، وتجلى ذلك في قدرتنا على تنفيذ طروحات كبيرة للديون الدولارية من سوق اليورو باوند، لكن على مستوى الاستثمار المباشر، أي الاستثمار الأجنبي في مجالات مثل الصناعة والزراعة وغيرها، لم نستطع تحقيق طفرة، ظل صافي الاستثمار يدور بين حوالي 7 إلى 8.2 مليار دولار في أحسن الأحوال خلال الأعوام المالية بين 2016 و2020، لذا ارتفع الدين الخارجي بين 2016 إلى 2021 من 55.7 مليار دولار إلى 134.8 مليارًا ، وساعد على هذه الزيادة الدخول في أزمة وباء كورونا، التي أضرت بالعديد من الأنشطة مثل السياحة.
حصيلة الديون الكبيرة تضعنا أمام مخاطر مستقبلية، في حالة ما إذا واجهتنا أي أزمة عالمية جديدة تسببت في خفض حصيلة مصر من النقد الأجنبي لا يكون أمامنا غير المزيد من الاستدانة لسداد الديون القديمة، كذلك فإن فوائد الدين العام يدفعها المواطن المصري في صورة تقشف في الإنفاق العام على بعض المجالات لصالح توجيه الأموال إلى الدائنين.
هكذا اجتمع على المواطن عدوّان يعكران عليه صفو حياته: عدو خفي وهو فوائد ديون ما بعد التعويم، وعدو ظاهر وهو غلاء المعيشة حتى وإن كانت معدلات التضخم الراهنة تخبره عكس ذلك.
في هذا الملف نرصد ماذا جرى بعد 5 سنوات من التعويم من خلال عدة زوايا اقتصادية واجتماعية، بداية نتتبع قصص بعض من أصحاب الودائع بالعملة المحلية في البنوك، هؤلاء الذين لم يتخلوا عن ودائعهم أو يتجهوا للدولرة (تحويل الجنيه إلى دولار) في وقت كان فيه الجنيه في أضعف حالاته، وبقدر ما مثّل هؤلاء حماية للجنيه من المزيد من الانهيار، إلا أنهم عاشوا سنوات عصيبة بسبب انخفاض قيمة مدخراتهم بالجنيه أمام التضخم.
في مقابل هؤلاء نتحدث مع بعض صغار المستثمرين في الشهادات البنكية، ممن انجذبوا لفوائد الشهادات المرتفعة بعد التعويم والتي وصلت في بعض الحالات إلى ما يقرب من 20%، هؤلاء الذين اعتمدوا لفترة على العائد الكبير كمصدر دخل يحميهم من التضخم المرتفع، ولكنهم تفاجئوا بالانخفاض السريع للفائدة بدءًا من 2018، سألناهم كيف تعايشوا مع هذا الصعود والهبوط الدرامي للفائدة؟
وأخيرًا يناقش الاقتصادي أسامة دياب في مقال الآثار الاجتماعية لارتفاع أسعار الفائدة بعد التعويم، ويزعم أن ما جرى في مصر منذ 2016 لم يكن ظاهرة محلية وإنما مسألة متكررة في العديد من البلدان النامية.
ويُرجع دياب هذه الظاهرة العالمية إلى نمط توزيع الأدوار الاقتصادية بين بلدان العالم المتأخر والمتقدم، والذي تقوم فيه الدول الأقل تقدما بتصدير السلع والخدمات الأقل قيمة، ما يجبرها دائمًا على رفع الفائدة لجذب التدفقات المالية الأجنبية في صورة ديون، وهو ما يلقي بضغوط كبيرة على تكاليف المعيشة للفئات الأقل دخلًا في هذه البلدان.
اقرأ في الملف الخاص:
عندما سمعت والدة حنان عن شهادات استثمار قناة السويس في 2014 تحمست لوضع مدخراتها المتواضعة فيها دعمًا للمشروع القومي بتوسعة القناة، في هذا الوقت كانت مترددة بشأن تغيير ثلاجة المنزل والتي كان سعرها ستة آلاف جنيه ولكن حسمت قرارها بالادخار.
بحسبة بسيطة لقيمة الجنيه مقابل الدولار خلال الأشهر الأولى من تعويمه، فإن كل من ادخر بالعملة المحلية فقد أكثر من نصف قيمة مدخراته خلال تلك الفترة، لكن هذا الانخفاض العنيف في المقابل لم يؤثر على العملة حيث ظلت الملايين من الأسر تحافظ على ودائعها بالجنيه ولم تحولها إلى الدولار.
ما تأثير التغير في سعر الفائدة على عاملة منزلية تكسب في الشهر 2000 جنيه من تنظيف ورعاية المنزل؟ قد يبدو سؤالًا غريبًا للوهلة الأولى، فعالم المال والفوائد يظل مرتبطًا في أذهاننا بأصحاب الياقات البيضاء ممن يجلسون أمام شاشات أسعار الأسهم، ويربحون الملايين من أنشطة المضاربة والوساطة في الأصول المالية.