تتصاعد اليوم موجة الاعترافات النسائية بالتعرض للاعتداء النفسي أو الجسدي في الشارع والبيت والعمل، وتمتلئ صفحات التواصل الاجتماعي بكم مهول من الوقائع المرعبة التي تحدث للنساء يوميًا وكأنها لن تتوقف أبدًا، ولكن لا ينتهي خوف النساء عند الاعتداءات الجسدية التي تحيط بهن، وإنما يمتد ذلك الخوف إلى الأشياء المعنوية والطموحات الحياتية، كتحقيق الذات والترقي في العمل أو الاستقلال سواء المادي فقط أو الحياتي تمامًا.
هناك دومًا شعور عام بمظلومية نسائية، وهو للأسف شعور حقيقي تؤيده الوقائع المتكررة، في ظل الظروف التي تعيشها مجتمعاتنا اليوم، التي لم تتغير عن الماضي كثيرًا، وإن كانت تتجه نحو الأسوأ أحيانًا. لا يمكن التفريق بين وضع المرأة في الريف والحضر، فما كان يعتبر فروقًا جوهرية في الظروف المعيشية في الماضي بات شيئًا لا يذكر اليوم، مع بقاء المظلومية كما هي والاغتيال المعنوي لكل طموحات النساء تقريبًا. مع الانفجار التكنولوجي والرقمي أصبح لدينا شهادات موثقة عن كل حدث يومي في حياة النساء، بداية من ساكنات الكومباوندات وانتهاءً بساكنات القرى النائية والمدن الحدودية.
تلتقي تلك الشهادات والمشاعر النسائية مع كثير من الأصوات الأدبية التي تعبر عن أحلام النساء ومخاوفهن المتعددة. واحدة من تلك الأصوات النسائية التي وجدت في مخاوف النساء ثروة سردية لا محدودة، هي الروائية المصرية منصورة عز الدين.
تعد منصورة عز الدين أحد أبرز الروائيين والروائيات العرب حاليًا، حيث قدمت مشروعًا سرديًا ثريًا ومتماسكًا على مدار خمس عشرة سنة أو أكثر، حازت عنه العديد من التكريمات الأدبية والجوائز مثل فوز روايتها جبل الزمرد بجائزة أفضل رواية عربية من معرض الشارقة الدولي للكتاب عام 2014، ووصول مجموعتها القصصية مأوى الغياب إلى القائمة القصيرة لجائزة الملتقى للقصة العربية عام 2018، ثم القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد فرع الآداب في عام 2020، كما وصلت الكاتبة، التي أصدرت روايات متاهة مريم، ووراء الفردوس، وأخيلة الظل، وبساتين البصرة؛ في أكثر من مناسبة للقائمتين الطويلة والقصيرة لجائزة البوكر العربية.
عوالم تسكنها المقهورات
ربما يكون الملمح الرئيس في روايات منصورة الأربع، بالإضافة إلى فاعلية شخصياتها النسائية، هو البيئة الريفية، المسيطرة أحيانًا، والخانقة في أحيان أخرى؛ تكتب منصورة عز الدين عن الريف، ككثير من الكتاب المصريين الذين اقتحموا تلك المنطقة وأبدعوا فيها إبداعًا لا متناهيًا، ولعل أشهرهم كان خيري شلبي ومحمد البساطي، لكن عز الدين، التي تنحدر من محافظة الغربية، تقدم ريفًا مختلفًا نوعًا ما عن الريف في كتابات الآخرين، ريف منغلق على نفسه دونًا عن كتابات الآخرين، ومنفتح على ذاته ومتقاطع حتى لتشعر أنه يقدم المكان نفسه في جميع الروايات.
لا يظهر الريف في كتابة منصورة بصفته البيئة الخصبة للفانتازيا وحوادث العفاريت والجنيات كما استخدمه خيري شلبي ليخلق واقعيته السحرية الخاصة، ولا كما استخدمه محمد البساطي ليكون مرآة للعائلة التي لا تستطيع مقاومة الزمن والحوادث المختلفة كما في رواياته ويأتي القطار وأوراق العائلة وفردوس وغيرها؛ يظهر الريف في روايات عز الدين كبيئة ضاغطة على أبطالها، تخنقهم وتضيق عليهم حيواتهم فلا يستطيعون الفرار منها، تصل بالقارئ في روايتها إلى اللحظة التي يتشابك فيها الأبطال مع بيئتهم، الريفية تحديدًا، متتبعة تلك اللحظة إلى اللحظات التالية في الريف المصري الحديث، خصوصًا في منتصف عقد الألفية الأول وما بعده، حيث موجة انفتاح الريف العنيفة على المدينة، حتى أصبحت القرى أشبه بالزوائد الدودية للمدن، وما ترتب على ذلك من تقليب للأفكار الريفية القديمة بحلوها ومرها، وتفكيك العائلات أكثر فأكثر، واختلاف الأجيال الصغيرة تمامًا عما كان عليه آبائهم وأجدادهم.
في متاهة مريم كانت البطلة مريم من قرية من قرى وسط الدلتا، تعيش في بيت عائلي كبير، لكنها تركت بيت العائلة ونزحت إلى القاهرة لتستكمل دراستها وتنفذ رغبتها في الانعتاق من سطوة البيت، أما في وراء الفردوس فنرى البطلة سلمى تعود إلى بيت العائلة في إحدى قرى طنطا بعد تجربة زواج فاشلة، فتنغلق على ذاتها في محاولة لكتابة رواية تعتمد على سيرتها الذاتية، لعلها تحاسب والدها على ما فعله بها في حياتها، هو والعائلة بأكلمها.
تتشابه روايتا متاهة مريم ووراء الفردوس في الجو العام ومكان الأحداث، حتى في ملامح البطلتين النفسية، حتى لتشعر أن الروايتين تكملان بعضهما، أو أنهما حدثتا في القرية نفسها خلال زمنين متقاربين، أو كأن البطلتين صديقتان التقتا في الجامعة أو في وقت ما، لتتشاركا الإحباط والهزيمة، والنقم على نشأتهما الريفية تحت وطأة العائلة وعدم تفهمها.
تختلف أخيلة الظل، عن الروايتين السابقتين من حيث البناء ومكان الأحداث، فالبطلة كاميليا هي كاتبة روائية تعيش في القاهرة، ومن عائلة ذات أصول أرستقراطية نوعا ما، لكن كاميليا تتقاطع مع بطلتي الروايتين السابقتين في كونها أنثى مقهورة، تعرضت إلى عنف أسري من أبيها، وتعاني مع أمها التي تحاول تخليقها في نسخة مصغرة منها.
لم تجد كاميليا في حياتها شغفًا سوى الكتابة، فراحت تكتب قصصًا وروايات عن سيدات يعانين العنف والقهر أيضًا، علّها تنقذ شيئًا من نفسيتها وحياتها المحطمة. المميز في رواية أخيلة الظل أنها لعبة تجريبية شجاعة جدًا، يختلط فيها الواقع بالحقيقة، ويطارد فيها الفن نفسه، وتشتبك الشخصيات مع بعضها، حتى أننا لا ندرك في النهاية من منهم هو الذي يكتب قصة حياة الآخر.
وفي بساتين البصرة، ذهبت منصورة عز الدين إلى تجربة جديدة عليها نوعًا ما، حيث مزجت بين الرواية التاريخية، وتقنية الأصوات المتعددة، ورغم أن الأحداث الرئيسية كانت تدور في مدينة البصرة التاريخية، لكن الجو العام للرواية لم يتخل عن الجو الريفي المميز في الروايات السابقة. ليلى أم البطل، الذي يبحث في خلفية بعض شخصيات المعتزلة، كانت سيدة ريفية من إحدى قرى طنطا هي الأخرى، لم تكتشف العالم أبعد من مولد السيد البدوي، لكنها في لحظة خاطفة يدق قلبها بعنف لعيون شخص غريب في المولد. يتبعها الغريب إلى البيت ويطلب يدها من أبيها، توافق ليلى ويرفض أبوها، لكن الغريب لا يستسلم، ويتتبع ليلى في كل مكان.
رغم أن ليلى لم يكن لها أي ذنب في تصرفات الغريب، لكن والدها يلقي بكل اللوم عليها، يحبسها في البيت، وينهال عليها بالضرب والعذاب. تكاد تموت ليلى من التعذيب والحسرة على عمرها، فتقرر الهرب مع الغريب، لتتزوجه وتكسر حلقة الخوف الذي فرضه عليها أبوها.
أزمات البيئة الخانقة، خصوصًا ضغوطات الأسرة، لا تظهر على شخصيات منصورة عز الدين النسائية فقط، بل تمتد إلى الشخصيات الذكرية أيضًا، فتراهم يتحركون في دوائر مغلقة من العجز والغضب وعدم الإيمان بقدرتهم كذلك، فتشكل الأسرة ضغطًا فوق كاهل أبنائها، بدلًا من أن تمارس دورها الطبيعي لتكون أحد الحلول الحياتية، أو حتى ركنا يمكن الاستناد إليه. يمكن تلخيص معاناة الشخصيات مع أسرهم في جملة وردت على لسان كاميليا في رواية أخيلة الظل عندما قالت"ليس طبيعيا أن يثير فيك البيت، الرحم الذي يحتويك، مشاعر سلبية، أو يورثك إحساسا بعدم الأمان".
تشييد الحلم وهدم الواقع
تحلم الشخصيات، ككل البشر الطبيعين، أحلامًا قاسية جدًا، تصيبهم بالخوف، أو تنتج في الأساس من خوفهم اللا محدود، بسبب ما يجارونه في حياتهم اليومية. وهكذا تشكل الأحلام ركيزة أساسية في بناء نفسية الأبطال وبناء الروايات ذاتها لدى منصورة عز الدين، فهي تخلق عالمًا وهميًا تتماشى فيه الشخصيات بالتوازي مع عوالمهن الحقيقية.
في كتابه البطل بألف وجه يقول جوزيف كامبل في الفصل الخاص بالأحلام إن "اللاوعي يرسل كل أنواع الاوهام والمخاوف والصور المضللة إلى العقل، سواء كان هذا في الحلم او في ضوء النهار أو عبر الجنون". يمكن فهم أحلام أبطال منصورة عز الدين في ضوء تلك الجملة الكاشفة، لأنها تتميز بالعنف والسوداية ومشاهد القتل الغريبة والخوف من الافتضاح أيضًا.
تبدأ الروايات الثلاث متاهة مريم، ووراء الفردوس، وبساتين البصرة بأحلام غريبة تراها الشخصيات الرئيسية، وتبدأ أخيلة الظل بتخييل ناعم يشبه أحلام اليقظة في ذهن الكتاب والفنانين الحالمين.
في حلم افتتاحية متاهة مريم، ترى البطلة مريم نفسها وهي تتعرض للقتل، ثم تقوم من نومها متفاجئة أنها ما زالت على قيد الحياة. ستتكرر تلك الاحلام العنيفة بأشكال أخرى تعبر عن قلقها الدائم من محيطها، كحلمها أنه تم افتضاحها هي وحبيبها يحيى، ولا تستطيع الهرب من تلك المخاوف التي تحيط بها في الحلم والحقيقة، وكأنها في متاهة فعلية.
تتشابه افتتاحية رواية وراء الفردوس مع تلك الافتتاحية قليلًا، فالبطلة سلمى ترى كابوسًا آخر لمشهد قتل، لكن الاختلاف هنا أنها هي من يمارس قتل صديقة طفولتها جميلة بدموية وبكل برود معا. سيطرت الأحلام على سلمى طوال الرواية وألبستها إحساسًا مقيتًا بالذنب تجاه صديقتها، لدرجة أنها لم تكن تعرف ما السبب وراء تلك الكوابيس المقيتة، لم تعرف سوى أن تفرز طفولتها البعيدة، وأحداث حياتها، لعلها تتخلص من أشباح الغضب والعنف التي تطاردها.
في بساتين البصرة تأتي الافتتاحية بحلم ثالث، لكنه هذه المرة أشد رهافة ونعومة عن سابقتيها، أحلام ليلى أم بطل الرواية، تعيدها إلى طفولتها، أو بالأخص إلى موقف واحد من طفولتها، عندما قررت أمها ان تمنعها من استكمال دراستها ككثير من البنات في الريف المصري، قديمًا وحتى الآن. تراود الأحلام ليلى وهي في أواخر أيامها، ممزوجة بشعور غريب من المرارة والأسى على السنوات التي انفرطت منها دون طائل، فلم تكمل تعليمها، ولم تحتفظ بزوجها، ولا بابنها الوحيد، وحتى حنان العائلة وتعاطفهم، تبخر كل شيء، لم يبق سوى وحدتها وقسوة الأيام عليها.
في أخيلة الظل تكتسب الأحلام معنى مختلفًا نوعًا ما، لأن الرواية تشبه الحلم الطويل ذي الطبقات المتعددة، فيما يمكن تشبيهه بألعاب فيلم Inception، حيث تتداخل عوالم الشخصيات السردية، كما تتداخل الظلال تحت الأضواء مختلفة الزوايا. تتعامل الشخصيات، خصوصًا كاميليا، مع الأحلام بنظرة الفنانين الذين يحاولون استخراج الفن من كل الموجودات حولهم، وخلق عوالم مميزة ومختلفة عما يعايشونه.
هكذا تشغل الأحلام حيزًا لا محدودًا في عوالم منصورة عز الدين. تقول منصورة في حوار صحفي إن الأحلام هي منبع أساسي من منابع الكتابة لديها، وأنها تدونها باستمرار باعتبارها يوميات اللاوعي وأنها تهتم كثيرًا بالقراءة عن تفسير الأحلام في الثقافات المختلفة.
قد يكون مثيرًا للتأمل أن كتاب تفسير الأحلام الكبير لمحمد بن سيرين جاء ذكره في الروايات الأربع، سواءً كان ذلك عرضًا كأن يكون موجودًا في بيت أحد الشخصيات أو مكتبة البيت العائلية، أو كعنصر رئيس داخل البناء الروائي كما في بساتين البصرة، بما لهذا الكتاب من مكانة وسطوة في الخيال الجمعي الإسلامي.
تتحرك شخصيات منصورة عز الدين في الأحلام بشكل قلق، يظهر ما في حياتهم الواقعية من اغتراب وانفصال عنها، والرغبة العارمة في الهرب منها، أو تغييرها، مع عدم المقدرة على ذلك، أو كما يقول كامبل في البطل بألف وجه، متابعًا كلامه عن صراع الأبطال بين الاحلام والحقيقة "هكذا ينكسر المرء إلى عدة متصارعة، كل منها جزء أصيل من نفسه، وكل منها يقاتل ليصير القوة الوحيدة المتحكمة فيه".
لا مكان للاختباء
من البديهي أن يحاول أولئك النسوة الهرب من الظروف المحيطة بهن، والجري بعيدًا، ومحاولة خلق حيوات جديدة تختلف تمامًا عن حيواتهن القاتمة، حيث كان يسيطر على كل الشخصيات النسائية إحساس بانعدام الجدوى من حياتهن، كما فكرت مريم بطلة المتاهة عن نفسها "حياتها هي حياة من الزجاج، حياة هشة قابلة للكسر في أية لحظة، ووفق أية مصادفة".
حاولت النسوة الأربع الخروج من بيئاتهن الضيقة، والارتباط برجال أبعد ما يكونون الحل الحقيقي لمشكلاتهن. خرجت مريم من قريتها الصغيرة إلى العاصمة لتكمل تعليمها ثم ارتبطت بـيحيى، الشاب الذي تبدأ علاقتها به مرنة ثم تنقلب جحيمًا على رأسها. أما سلمى رشيد فأكملت تعليمها أيضا وحاربت أهلها لتتزوج بـظيا، البريطاني من أصول باكستانية. تركت سلمى حياتها تمامًا، والبلد بأكلمها وذهبت إلى لندن لأجل ظيا، الذي سيتخلى عنها فيما بعد.
في أخيلة الظل قررت كاميليا أن تغامر بحياتها كما تغامر على الورق مع شخصياتها المكتوبة وتزوجت منير، زوج صديقة أمها، الذي يكبرها بأعوام وأعوام، أما ليلى فقررت الهرب ليلًا مع الغريب من قريتهم في طنطا إلى قريته في المنيا لأنها أحبته لكن أبيها لم يوافق عليه أبدًا.
النمط المتكرر في حيوات تلك النسوة، أنهن حاولن الهرب من سطوة العائلة فارتمين في أحضان رجال أشد قسوة وبغضًا. لا يظهر الزواج في تلك الأنماط على أنه حالة من المشاركة والحب الحياتية، بل محاولة للهرب تكلل بالفشل الذريع، لترتد كل واحدة منهن إلى عالمها الذي لفظها، لكن في هذه المرة تعود مهزومة ومنكسرة تمامًا، ولا تملك أي امرأة منهن قدرة على مقاومة واقعها القاسي ولا طاقة أيضًا، فلا تملك سوى التماهي معه والانصياع له.
ربما في النهاية لن يبدو سؤالًا مثل "لماذا تحلم النساء بالخوف" صحيحًا، وإنما السؤال الأكثر مناسبة، الذي تحرض عليه روايات منصورة عز الدين هو "متى تتوقف النساء عن الحلم بالخوف"؟