عندما أشاهد امرأة تُضرب على التليفزيون، أصرخ في أمي أن تدير القناة، لا أستطيع أن أرى هذا المشهد، يصيبني بالتعب، ويذكرني بحادث مقتل داليا، قبل سنوات؛ قتلها زوجها وهي حامل وعلى بعد أيام من الموعد المتوقع لولادة ابنها الأول أنتونيو، الذي كان من المفترض أن يكون عمره الآن خمس سنوات.
ليست داليا صديقة لي، ولكني سمعت عنها كثيرًا من أصدقائي؛ في بلدتها التي ليست بالقرية أو بالمدينة، كانت تعيش فتاة حرة ومنطلقة، تهتم بتصحيح النحو في منشورات أصدقائها، فهي تجيد ثلاث لغات وتحب الرقص وتلعب كرة السلة وتهوى المسرح، كانت أكبر من الحياة، سافرت وحدها وتزوجت أجنبيًا، غير أنها لم تكن تعرف أنه مدمن للمخدرات، أو أنها ستموت على يديه في عمر الثامنة والعشرين قبل أن يقتل نفسه.
ترك ذلك الحادث أثرًا بالغًا في نفسي، رغم أنني لم أكن أعرفها شخصيًا، وتساءلت كيف لم أصادفها أبدًا وهي صديقة لكثير من أصدقائي؟ شعرت أنني لو كنت عرفتها كنا سنصبح أصدقاءً، فنحن نمارس المهنة ذاتها: الصيدلة، ونتوق للحرية، لكني حمدت الله أنني لم أعرفها، كي لا أتألم أكثر من ذلك بموتها، ما لا يعرفه الكثيرون أن حادث داليا كان نقطة تحول في اهتمامي بقضايا النساء، والعنف.
صورة أخرى عن داليا
ولكن ثمة طبيبة أخرى أعرفها، غير أن تخصصها الأسنان، اسمها مها، تبدأ حكايتها من خطبتها، حين التقت بشاب رومانسي ولطيف يهتم بأدق تفاصيلها، وهي "أمور لم أختبرها من قبل فكنت سعيدة، وكان طبيبًا فكان المستوى الفكري متقارب"، تؤكد مها التي تبلغ من العمر 30 سنة، وتعيش في بلدة ساحلية، أنها لم تعنف أبدًا في بيت أبيها، وفي أثناء خطبتها حدثت بعض الخلافات البسيطة صاحبها دائمًا اعتذارات فورية من خطيبها، لكنه بعد الزواج أظهر وجهًا آخر.
في الشهر الأول من الزواج حملت مها، وعلى عكس ما توقعت أصاب الخبر زوجها بالصدمة، لم يصرح لها قبل الزواج أو بعده برغبته في تأجيل الإنجاب، لكنه عندما تلقى الخبر برر انزعاجه بأن الحمل سيقيده.
يلقي الرجل في الأغلب مسؤولية الحمل على عاتق المرأة، رغم أنها عملية تحتاج إلى طرفين لكي تحدث، فضلًا عن عدم وجود مانع للحمل يعمل بكفاءة وآمان بنسبة 100%، لكن اللافت أن حماة مها كانت تؤيد ابنها أيضًا في رغبته في تأجيل الإنجاب، معضدة رغبتها بأن بناتها أيضًا لم يحملن في بداية زواجهن، وربما شجع ذلك زوج مها بالإصرار على موقفه والتنفيس عنه عبر تحكمات متعددة؛ كان يمنعها عن زيارة أسرتها أحيانًا كثيرة، وإذا حدث وزارها أي من أقربائها افتعل معها المشاكل، وفي واحدة من تلك المرات تطور الشجار حتى جذبها من شعرها ودفعها باتجاه الحائط.
أحيانًا ما يرتكب الشريك الحميم أو الزوج العنف تجاه المرأة الحامل، رغم ما تعانيه الأخيرة من مصاعب وأوجاع الحمل، ويتمثل ذلك في عنف جسدي مثل الضرب أو تركها دون رعاية طبية أو إرغامها على ممارسة الجنس، أو نفسي مثل تهديدها وعزلها عن الأهل والأصدقاء وتعمد الإساءة لها بسبب التغيرات التي تطرأ على جسدها أو دفعها للإجهاض، والشكلان العنيفان كلاهما يؤثران على الجنين، فيمكن أن يؤدي العنف الجسدي إلى الإجهاض أو النزيف المهبلي الذي يضر بسلامته والأم، كما أن العنف النفسي من الممكن أن يدفع المرأة لعادات مضرة مثل الأكل غير الصحي أو التدخين.
وتأتي مصر في صدارة الدول التي تتعرض فيها الحوامل للضرب على يد الزوج بنسبة 32%، وفي السعودية تبلغ النسبة 21%، بحسب تقرير لمنظمة الصحة العالمية، وفي المسح الاقتصادي للعنف القائم على النوع الاجتماعي في مصر الصادر عام 2015، سجلت النساء اللائي يواجهن عنفًا من الزوج أو الخطيب نسبة 23.8%، أي نحو 5 مليون و600 ألف امرأة، وبيّن المسح أن الغالبية العظمى من النساء اللائي تعرضن للعنف من قبل أزواجهن لم يستعنّ بالسلطات الرسمية للحماية، و11% فقط تلقين خدمة طبية، وتقريبًا لم يلجئ جميعهن إلى خدمات المجتمع المدني، و1% فقط لجأن للشرطة أو إلى المحكمة.
ومثلهن فعلت مها تقريبًا؛ في أحد المرات تشاجر معها زوجها لرفضها إقامة العلاقة الحميمة بسبب شعورها بالغثيان والتعب من الحمل، ما دفعه لطردها إلى بيت عائلتها "حتى تتحمل المسؤولية" حسبما أخبرها، ورغم ما ينطوي عليه الفعل من إهانة كانت مها سعيدة كعصفور حصل للتو على حريته، لكنها سعادة لم تدم غير ليلة، حيث حضر زوجها إلى أسرتها يطلب الصفح معللًا تصرفه بأنه لم يكن في وعيه، غير أن ذلك "الغياب عن الوعي" يبدو أنه عاد ليصيبه سريعًا، فلم تمر فترة وجيزة إلا ونشبت بينه وزوجته مشادة كلامية انتهت بضربها وخنقها وسحلها على الأرض، ثم حبسها في غرفة ومصادرة هاتفها قبل أن يغلق عليها الباب من الخارج.
النجاة من داليا
لماذا تحافظ بعض النساء على علاقة يكتنفها العنف؟
تشير ورقة مفاهيم العنف المنزلي التي أعدتها عضو التدريب في المجلس القومي للمرأة أريج البدراوي، وأشرفت عليها د.نسرين البغدادي مدير المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، إلى أن المرأة المعنفة تبقى في بيئة العنف بسبب وجود ما يسمى بدورة العنف، التي تتضمن تراكم الإساءة ثم فقدان السيطرة واستخدام العنف ثم الندم والاعتذار، أو مرحلة "شهر العسل" التي يعتذر فيها الرجل عما صدر منه، ويظهر عواطف إيجابية، ويطلب منها الصفح، وتعتقد هي أن هذه المرحلة ستستمر، أما السبب الثاني فهو "العجز المتعلم"، فتكرار العنف ضد المرأة في داخل بيتها، وعدم قدرتها على الفرار وتغيير الأوضاع يعلمها أنها مهما حاولت لن يكون هناك نتيجة، أو تغيير في وضعها.
كما تبقى المرأة أيضًا في العلاقة العنيفة بسبب الاستراتيجيات التي يستخدمها المعنف، مثل عزلها عن المصادر الخارجية، وتحطيمها، وتحطيم تقديرها لنفسها، فتفقد الأمل في الهروب، وكوسيلة للنجاة تكوّن رابطة مع السجان، وتبقى في هذا الوضع على أمل أن يتغير الشريك.
لكن مها قررت أن تغير وضعها للأبد، فكرت أولًا، أن تقفز من النافذة، لكن القدر ترفق بها، حيث وجدت الــ Ipad وتواصلت مع أخيها كي ينجدها، وجاء مع والدها وكسرا الباب، وكانت ملقاة على الأرض من شدة الضرب.
بعد النجاة، قررت مها استحالة العيش مع زوجها مرة أخرى، وبعد أحداث مؤلمة كثيرة خاضتها ضد زوجها الذي طلبها في بيت الطاعة وحرر محضرًا ضدها يتهمها فيه بمحاولة إجهاض نفسها، تطلقت منه بعد ثلاث سنوات من التقاضي، وبعد زواج استمر شهرين فقط، نتج عنه طفل لم يُرده أبوه أو يسعى ليراه، كما أخبرتني.
مؤخرًا تواترت حوادث عنف كثيرة بين الأزواج انتهت كثير منها بقتل الزوجة، لكن أكثر ما يلفت فيها هو أنها تنشأ بين شركاء على قدر مرتفع من التعليم، وربما تكون مها نجت من ذلك المصير؛ مصير داليا وشبيهاتها، بل إنها تحاول جاهدة لتجاوز تلك الفترة المؤلمة من حياتها؛ بدأت في تعلم الكروشيه وكذلك سجلت للحصول على درجة الماجستير، لكنها رفضت أكثر من شخص تقدم للزواج منها بين مطلق وأعزب، لأنها ليست مستعدة بعد لأي ارتباط، حتى السفر صار يصيبها بالإرهاق، شيء ما بداخلها كُسر ويحتاج فيما يبدو إلى كثير من الوقت لإصلاحه.