عادة لا تحتاج نرمين نزار إلى ورقة وقلم عند الاتصال بعمتها التي تعيش في بيروت، لكنها بدأت مؤخرًا في الاستعانة بهما عند كل اتصال تجريه معها لتدوين ما تحتاجه الأخيرة من أدوية ومنتجات ضرورية للحياة لم تعد موجودة في لبنان وتعتمد على ابنة أخيها في أن تحضرهم بصحبتها إلى بيروت.
تحرص نرمين، وهي كاتبة ومترجمة حرة لبنانية مصرية تعيش في القاهرة، على زيارة أسرتها في بيروت كلما سمحت ظروفها بذلك، لكن رحلتها هذه المرة حتمية لإنقاذ حياة عمتها التي تعاني عددًا من الأمراض المزمنة، بينما لا تستطيع توفير الأدوية اللازمة لعلاجها في لبنان التي أصبحت على شفا الانهيار بعد أزمات اقتصادية كثيرة.
في المكالمة الأخيرة بينهما انقطع الخط لنفاد بطارية هاتف عمتها، حيث تعاني سائر المدن اللبنانية أزمة في الطاقة بالإضافة إلى نقص في الدواء وضروريات الحياة والمياه النظيفة، لكن نرمين لم يكن أمامها متسعًا من الوقت لانتظار عودة الكهرباء ومن ثم قدرة عمتها على معاودة الاتصال بها، حيث ذهبت لحجز تذاكر الطيران، والتسوق في الصيدليات والمتاجر لتلبية ما تحتاجه قريبتها المسنة لمدة ستة أشهر على الأقل، تشرح نرمين الوضع للمنصة قائلة "عمتي صاحبة أمراض مزمنة، وهي معاها فلوس، لكن بكل أسف مفيش دوا أصلا في الصيدليات، وده اللي خلاني أسافر أطمن عليها وأخد لها معايا الدوا اللي يكفيها لمدة 6 شهور لأني مش عارفة هقدر أسافر تاني امتى".
محاولة للنجاة
رحلة البحث عن الدواء في مصر كما روتها نرمين للمنصة لم تكن سهلة كذلك "مش كل الأدوية بتكون موجودة بسهولة، فيه حاجات بيكون متاح المستورد منها، أو أدوية بأسماء تانية ولكن بنفس المادة الفعالة، لأن أنا بدور بالمادة الفعالة مش باسم الدوا، وعمتي بتاخد دوا فيه نوعين من المادة الفعالة، دورت عليه كتير لقيت كل مادة لوحدها في دوا لوحده، وده بيخليني أتصل بيها أقولها، علشان تكلم دكتورها وتسأله إذا ينفع ولا لأ".
قبل سفرها إلى بيروت في يوليو/ تموز الماضي سألتْ نرمين جميع أصدقائها في مصر إن كان ثمة من يريد إرسال أدوية أو مستلزمات ضرورية إلى لبنان، لتجد بينهم من يريد أن يرسل لبنًا للأطفال وفوطًا صحية للنساء.
تعاني لبنان أزمة اقتصادية ضخمة وصعوبة في توفير العملة الصعبة تسببت في أزمة نقص حادة في المنتجات الضرورية للحياة على رأسها منتجات تغذية الأطفال والأدوية بشكل عام وكذلك احتياجات النساء الصحية الشهرية، فيما تشير تقديرات إلى أن ما يقرب من نصف اللبنانيين باتوا الآن يعيشون تحت خط الفقر، فيما كشف تقييم صدر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) عن أن قرابة 77% من الأسر اللبنانية ليس لديها ما يكفي من الطعام أو حتى المال الكافي لشراء مواد غذائية، ويرى البنك الدولي، أن الأزمة اللبنانية ربما تكون ضمن واحدة من أسوأ ثلاث أزمات على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، فذكر باحثون من البنك الدولي أن الناتج المحلي الإجمالي في لبنان يشهد انخفاضا منذ عام 2018 بالتوازي مع سعر صرف غير رسمي.
وعلى العكس من الرحلة الصعبة في الحصول على الأدوية والضروريات لم تواجه نرمين أزمة في مطار القاهرة لشحن حقائبها، تقول للمنصة "شنطتي متفتحتش هي كانت مليانة دوا، بس مكنش معايا حاجة للأعصاب ولا جدول، معرفش إذا هما بيعرفوا ولا لأ، أو الموضوع مرتبط بلبنان ولا لأ، بس الأدوية كلها عدت".
تعلم نرمين جيدًا أن المأساة التي يعانيها منه الشعب اللبناني لن تنهيها تلك المبادرات الفردية التي تقوم بها وآخرون يسيرون على النهج نفسه، ولكنها كما وصفتها "محاولة للنجاة.. الوضع صعب جدًا وكلنا عارفين، عربيات الإسعاف مش عارفة تمشي علشان مفيش مازوت، والبيوت اللي فيها فلوس مش عارفة تستخدم الفلوس أو تشتري بيها مازوت أو حتى لبن أطفال، بس في النهاية اللي بعمله أنا وغيري، محاولة لمساهمة جزئية في الأزمة، في نطاق الأهل والقرايب والصحاب".
محمود السواح مصري ومقيم في لبنان، يعمل بإحدى شركات الطيران، زار مصر خلال الأزمة الماضية مرتين متتاليتين خلال شهر واحد، لشراء الأدوية لجيرانه وزملائه "أدوية ضغط وسكر وأعصاب وسيولة في الدم، دي القايمة اللي كانت مطلوبة مني، مع علب لبن للأطفال وفوط صحية للسيدات، جبت كميات من الدوا في 3 شنط، والحقيقة إنه في التفتيش لما اتسألت ليه كل الكمية دي وضحت لهم الأزمة والأمور مشيت، وكان معايا 12 علبة لبن أطفال، و3 كراتين فوط صحية، نزلت بالطقم اللي عليا قعدت 3 أيام ورجعت تاني، مكنش معايا غير الأدوية دي".
واضطر السواح تكرار تلك الزيارة بعد أقل من أسبوعين خلال الشهر نفسه أغسطس الماضي، لشراء مزيد من الدواء "الناس هنا خايفة جدا، وخاصة أصحاب الأمراض المزمنة، وعاوزين أكبر عدد من علب الدوا يجمعوه خايفين ومش عارفين بكرة ممكن يحصل إيه، لأن حتى دوا الصداع مش هنا".
رفوف فارغة
يعلم السواح كما تعلم نرمين أن الأزمة أكبر من تلك الجهود، لكنهما يريان في تلك الجهود المستمرة من أفراد لا يملكون سوى تجميع أعداد مختلفة من الدواء والحليب والفوط الصحية طريق موازي للتحركات الأكبر التي تتم دوليا وإقليميًا للبحث عن حلول للأزمة اللبنانية التي وصفها تقرير لبي بي سي أنها لن ترحم الأغنياء أيضًا، فسعر الليرة اللبنانية يتراجع بشدة وهو ما يؤثر على أسواق البضائع في البلد التي تستورد ما يزيد عن 80 بالمائة من احتياجاتها من الأسواق العالمية، بالإضافة إلى الانقطاع المتواصل للتيار الكهربائي.
حسن جمعة صيدلي من لبنان، قال للمنصة إن رفوف الصيدلية التي يمتلكها أصبحت "فارغة"، لا تضم الصيدلية سوى مواطنين يبحثون يوميًا عن الأدوية التي لا يجدونها، ويفشلون أيضا في الاتصال به هاتفيًا بسبب انقطاع الكهرباء، الذي يدفعه أيضًا لإغلاق الصيدلية ليلًا.
يقول جمعة "الشعب معاه أموال يشتري الدواء، أغلب الأدوية المزمنة بعدها مدعومة ورخيصة، بس الدولة اليوم مفلسة أو ع طريق الإفلاس وبتحاول تقتصد بالمدفوعات، فبتتأخر كتير بالسماح للشركات بتحويل المصاري للخارج للاستيراد، والشركات ناطرة (تنتظر) رفع الدعم عن الدوا لتبيعه بـ10 مرات أكتر ع الأقل، يعني أنا كنت بطلب مثلاً 10 قطع من دواء ما، كان يوصلني 10، اليوم بستلم الدواء بالقطارة، قطعة أو 2 عن الشهر كله إذا انوجد من الأساس، ونفس الحال بالنسبة للفوط الصحية ولبن الأطفال"، اضطر جمعة لشراء أدوية السرطان التي تحتاجها أسرته من تركيا وإيطاليا، من خلال أصدقاء له كانوا في زيارة للمدينتين فطلب منهم إحضار الدواء معهم عند العودة بحسب تأكيده للمنصة.
مؤخرًا حاولت دول عدة بينها مصر إرسال مساعدات إنسانية للبنان لحل تلك الأزمة، ويوضح جمعة أن كميات الأدوية التي تتبرع بها الدول للبنان، تصل لوزارة الصحة والشؤون الاجتماعية، التي تعمل على توزيعها على المستشفيات أو المستوصفات حتى تصل مجانًا للمواطنين، أو من خلال الصيدليات التابعة لوزارة الصحة، وهناك أدوية مثل أدوية السرطان أو الأدوية النفسية يتم توزيعها أسرع من باقي الأدوية لأنها متعلقة بأمراض تحتاج لتدخل سريع، ومع المساعدات التي ترسلها الدول، إلا أن المواطنون ما زالوا بحاجة للدواء بحسب جمعة الذي يلتقي يوميا في الصيدلية بأسئلة مكررة عن أدوية الأمراض المزمنة.
واعتادت الشركات المستوردة تقديم فواتير الاستيراد إلى مصرف لبنان لتسديدها، في إطار سياسة الدعم، لكن مع شحّ الدولار، أصبح يطلب موافقة مسبقة من وزارة الصحة على الأدوية التي يراد استيرادها على أن يسدّد الفواتير لاحقا، وهو ما أدى إلى تراكم مستحقات الشركات، التي توقفت تدريجياً عن الاستيراد.
أزمة الدواء دفعت مصابات السرطان في لبنان للخروج والتظاهر للمطالبة بتوفير الدواء، وبحسب تقرير نشره المرصد العالمي للسرطان المنبثق عن منظمة الصحة العالمية في مارس الماضي، سجل لبنان 28,764 ألف إصابة بمرض السرطان خلال السنوات الخمس الأخيرة، بينهم 11600 حالة عام 2020، لكن الأطباء يوضحون أن عدد من يتلقون العلاج يتجاوز هذا الرقم باعتبار أن مدة علاج بعض المرضى قد تمتد لسنوات، وفي تقرير نشرته فرانس 24، قال رئيس جمعية أطباء الدم في لبنان البروفسور أحمد ابراهيم إن نحو ألفين إلى 2500 حالة لوكيميا وأمراض لمفاوية تسجّل سنويًا في لبنان، ولا يتوفر حاليًا إلا القليل من الأدوية التي تُستخدم في علاجها، وحذر أنه إذا لم يُتابع علاج هؤلاء بطريقة دوريّة، سيموت البعض منهم.
أما بالنسبة للاحتياجات الصحية الضرورية فتضاعفت أسعار الفوط الصحية بنسبة 500%، إذ بات يتراوح سعر علبة الفوطة الصحية باختلاف أنواعها بين 13 ألف و34 ألف ليرة لبنانية مقارنة بالسعر السابق الذي كان يصل إلى 3000 ليرة، مما دفع العديد من السيدات لاستبدالها بالأقمشة، وحاصرت الأزمة أيضًا المستلزمات الأساسية في الطعام ولبن الأطفال.
لكن عمة نرمين نزار، صار لديها ما يؤمن احتياجاتها من العلاج لستة أشهر على الأقل بعد زيارة ابنة أخيها الأخيرة إلى بيروت، أما حسن فيبدو أنه اكتفى مؤقتًا بالزيارتين اللتين أجراهما إلى القاهرة في أغسطس الماضي، بيد أن الكثيرين غيره ما يزالوا يحاولون المساهمة في تأمين الدواء لعائلات وأسر لبنان، وما تزال صفحات ومواقع التواصل الاجتماعي تضم منشورات من داخل المدينة للبحث عن مسكنات للألم وأنواع متعددة من الدواء، سواء داخل البلاد، أو من خلال الوافدين لها من الخارج.