في شارع هادئ في حي الدقي، تقع شركة سرد، التي أسستها السيناريست مريم نعوم للكتابة الجماعية؛ في الطابق الثاني فتحت فتاة ثلاثينية الباب، وفي حجرة جانبية جلست أخريان أمام جهاز كمبيوتر، ربما تحاولان البحث عن أفكار أو مشاريع جديدة، وفي حجرة تجاورها قابلنا نعوم، تحيط بها صور أعمال فنية قديمة، وأيضًا حديثة، فيما يسيطر الهدوء على المكان.
يعتبر البعض مريم نعوم نصيرة للمرأة لما تقدمه من أعمال تناقش المشاكل النسائية، لكنها لا ترى أنها لا تسلِّط الضوء على قضايا المرأة فحسب، بل تناقش كل ما يمس المرأة والرجل، وهو ما يتحقق من خلال شركة سرد التي أسستها لتبني المواهب الشابة من الكتَّاب، وحيث التقتها المنصة للحديث عن تلك التجربة، التي بدأت منذ بضع سنين، وأسفرت عن عدة أعمال نالت مشاهدات عالية، كان آخرها الجزء الثاني من مسلسل ليه لأ، الذي تناول قضية تبني الأطفال في مصر.
في 2016 تأسس سرد كمشروع، بعد عام قضته نعوم في التخطيط لتنفيذه، قبل أن تحوله إلى شركة في عام 2019، لكنها ومنذ بداية إطلاقه تمول نعوم المشروع من مالها الخاص "أنا بزرع أساس من 2016 ساعدنا نطلع خالي بالك من زيزي وجزئين من ليه لأ، وجزء كمان في الطريق"، غير أنها لم تكن تجربة سهلة، وواجهت العديد من التحديات وعلى رأسها فكرة الكتابة الجماعية، والجمع بين أكثر من كاتب لنفس العمل.
حرصت نعوم منذ التفكير في تلك الشركة على الخروج بأعمال ذات جودة عالية، وانضم لها كثيرون، بعضهم لم يتمكن من المضي في التحدي، وآخرون استمروا، فالأمر ليس بسيطًا كما يتصوره البعض، وهو ما توضحه نعوم بجدية "عندي هدف واضح، عايزة أعمل كيان له آلية منظمة مش عشوائية بيطلع منتج بكواليتي حلوة وبيعلِّم كُتَّاب جدد، والتعليم ده محتاج صبر وكمان وسط مجموعة فمحتاج إن كلنا نسمع بعض، وده مش موجود في ناس حاولوا ينضموا لسرد ومكملوش مش علشان هما مش موهوبين، لكن علشان مش قادرين يندمجوا في الكتابة الجماعية".
وضعت نعوم خطة مدتها خمس سنوات للرهان على نجاح الشركة، كما اختارت التوقيت الذي يمكنها من خلاله البدء في تلك التجربة، وبالفعل بدأت الأعمال التي أنجزها كتاب الشركة ترى النور، وطريق النجاح، ليكون المقابل لتلك التجربة ابتعاد نعوم عن السينما لأنها لن تستطيع الجمع بين الأمرين، لكن كما قالت بنفس الجدية "الحياة اختيارات".
الكتابة الجماعية التي تقوم على أساسها سرد، أمرٌ لا تراه نعوم بالجديد، إذ يمارسها العديد من المخرجين والكتَّاب، لكن الجديد في الأمر أن يكون هذا الشكل هو أسلوب ونهج مستمرين، ليعكس هذا تحدي الإبداع الذي يرافق النجاح الفردي، وبه الأنا العالية "أي حد فنان أو مبدع بيكون عنده تشبث بأفكاره، إزاي بقى تروضي الأنا دي وإزاي الناس أفكارها تتلاقي وامتى يدافعوا عن الفكرة باستماته وامتى يتبنوا وجة نظر تانية أو أفكار الآخرين، فمش كل الناس تعرف تعمل ده"، فتتدخل نعوم في كافة مراحل الفكرة التي يتم طرحها من خلال أحد أعضاء الشركة، ويستمر التدخل مع تطوير الفكرة وحتى خروجها للنور.
يتخيل البعض أن الشركة تجمع بين الربح واكتشاف المواهب الجديدة، ولكنها لم تحقق مكسبًا حتى الآن، سألناها عن ذلك فأجابت بابتسامة"أنا كمريم أجري أعلى، لما بمضي باسمي وباخده لوحدي، لكن لما بمضي باسم كتّاب تانيين فبيكون الأجر أقل وكمان موزَّع عليهم مش لحد لوحده"، ولكنها لا تستبعد أن تحقق الشركة أرباحًا في الفترة المقبلة.
توقعت نعوم أن يحقق الجزء الثاني من مسلسل ليه لأ النجاح لكنها لم تتخيل أن يكون له ذلك الصدى بين الجمهور "توقعت إن الناس تتباعه وتناقش الموضوع بس مش للدرجة دي، وفي الحقيقة ده بسبب إني دايمًا بحط سقف أقل في التوقعات علشان مبقاش بشتغل وأنا بفكر في النتايج ببقى عايزة أركز في الشغل نفسه".
ليه لأ نتاج كتابة جماعية من رحم المشروع، وشارك فيها دينا نجم صاحبة الفكرة، إلى جانب راجية حسن وسلمى عبدالوهاب.
السبب وراء هذا الانتشار الذي يمكن أن يطلق عليه نجاحًا، أن القضية نوقشت بعد وجود آليات فعلية للتبني (الاحتضان)، ومراكز لتبني الأطفال، ففي الماضي كانت الإجراءت أكثر تعقيدًا وعدد المراكز أقل، وفي المقابل كانت السينما والدراما تناقش قضية الطفل مجهول النسب ومعالجة مشكلة وصم المجتمع له "يمكن ده كان مطلوب وقتها ومكنش موجود موضوع التبني زي دلوقتي أو زي مبقت الناس بتدور عليه، وبقى مُعلَن بشكل كامل والأطفال نفسها بتبقى عارفة إنها أطفال تبني، وهو ده اللي خلى المسلسل ينشر بالشكل ده". منظومة التبني كانت موجودة من قبل خروج المسلسل كما وصفت نعوم، ولكن ما حدث أنه ساعد تلك المنظومة لتعلن عن نفسها.
على مدار خمس سنوات، وهي الفترة التي وضعتها مريم لصعود سرد، ضمت الشركة تسعة كتّاب إلى جوار نعوم، حتى أصبحت غير قادرة على استيعاب كتّاب أو مواهب جديدة "قفلنا دلوقتي شوية في استقبال كتاب جدد لأن ده اللي أقدر عليه لأن في مرتبات للكتّاب، وفي النهاية احنا مش ورشة تدريبية، هي ورشة احترافية، فلازم أبقى قادرة أوفر للموجودين مرتب، وفي الفترة الجاية هحاول أخلق فرص تدريب، أو تعامل مع كتاب بالقطعة".
قدمت نعوم العديد من الأعمال، منها ما يخص المرأة، بحكم أنها امرأة، وتعاني نفس المشاكل التي تعاني منها السيدات، فهل في جعبتها نوعية مختلفة من الدراما، أو ما يناقش قضايا الرجال كذلك؟ تجيب "موجودة بس لسه مشافتش النور، وده مش بيقلل من قيمة الحاجات التانية خالص، بس أتصور النجاح اللي بيحصل لما يكون العمل بيتكلم عن امرأة أو بطولة امرأة بسبب إن البطلة امرأة، لأننا في النهاية بنقدم فن مش رواية، وده خلى فيه ثقة كده إنه لو في عمل بطولة نجمة فيبقى السؤال منشوف مريم تشتغله، هي جت كده، جت بالتدريج، زي إنه في المقابل ممكن تلاقي النجم الفلاني بيرتاح مع المخرج الفلاني ودايمًا شغالين مع بعض".
هناك تغير في الأونة الأخيرة في الدراما الموجهة للمرأة، لتستوعب قضايا بشكل أكبر، وتتحول المرأة لبطلة بعد أن كانت تشارك بأدوار ثانوية، ولكن التناول لم يتغير بعد بشكل كبير أو أنه لم يخدم الطرح، كما ترى نعوم، ولكنها نسبة وتناسب أيضًا "لو بنعمل مثلا 15 عمل، ففي منهم 5 جوه الصناعة بتناقش حاجات تخص المرأة، فده معاناه إنه في 5 بيناقشوا حاجات تانية و5 تانيين كوميدي وهكذا، فهو كمان نسبة مع حجم الانتاج".
وانخفض الإنتاج في الفترة الأخيرة لعوامل عدة منها أزمة فيروس كورونا، وهو ما أثر على حجم الإنتاج بشكل عام، وبالتالي حجم الأعمال المقدمة، التي تناقش قضايا المرأة والرجل على حدٍ سواء، وفقًا لنعوم، لكنها ترى أيضًا أن قضايا الإساءات الجنسية التي بدأت تظهر في الفترة الأخيرة من قضايا اغتصاب وتحرش وغيرها ستؤثر على المحتوى الدرامي والسينمائي القادم، لأن المؤلفين يتفاعلون مع المجتمع وما يحدث به، وينقلون هذا من خلال الأعمال، التي بدورها تؤثر في المجتمع أيضًا لأنها علاقة تبادلية.
لم تفكر نعوم في عرض قضية فتيات التيك توك بأحد الأعمال، لأنها لا تعرف هذا العالم جيدًا، فلن يمكنها تقديم محتوى عنه "يمكن لو حد من سرد دخل جوه العالم وعاش فيه شوية يطرح فكرة ونقدم، بس في النهاية مش هنقدر ندين متهمين لأننا منقدرش نحكم على حد أحكام صارمة، ولو مش فاهمين العالم كفاية فمش هنقدر ندافع عنه برضه"، فمصادر الالهام التي تحرك نعوم وسرد، ليست التريندات، إذ تهتم بمناقشة قضايا المجتمع ولكن ليس بالضرورة أن تكون مثارة عبر السوشيال ميديا. عبارة "الجمهور عايز كده" تسمعها نعوم دومًا، لكنها ترى أن الجمهور يمكنه قبول أي عمل، ولكن عند تقديمه بشكل صحيح "اللي عارف إزاي يخاطب الجمهور هيعرف يبني المشروع بتاعه بطريقة توصل للجمهور".
حدود الأعمال التي تقدم عبر الشاشة تحجم الكتاب والمبدعين في عديد من الموضوعات، في مقابل ظهور المنصات الإلكترونية التي أصبحت تعرض الأعمال الدرامية والأفلام، لكن أيضًا تلك المنصات رغم أنها تنعم بقدر من الحرية أكبر قليلًا من الشاشات، لكن التابوهات واحدة وفقًا لنعوم "يعني لو مش هنعرف نتكلم في الدين مثلا على الشاشة مش هنعرف نتكلم برضه على المنصات، وخاصة المنصات العربية، أو اللي بتستهدف جمهور عربي هما مش عاوزين يخسروا، هو بيفتح علشان الناس تشتري هو بيزنس، لكن ده بيتيح إن الموضوعات القابلة للنقاش ممكن يكون فيها حرية أكتر بحكم إنه ده مدفوع زي السينما، في النهاية المنصة دي عاملة زي السينما عندها نفس مساحة الحرية مش أعلى".
ترى نعوم أن الفن والفنانين عاشوا سنوات عدة أطلقت عليه مصطلح "الردة"، اتسمت بترديد جملة "السينما النظيفة"، وغيرها من العبارات المعادية للفن وتمثل ارتدادًا عن السينما التي ألفناها، وحاليًا نحاول الرجوع لما كنا عليه في الماضي "أفلام في الأربعينيات والخمسينيات موضوعاتها وأفكارها جريئة، واحنا لسه موصلناش للي كنا فيه وقتها بس بنحاول".
مصطلح الفن الهادف يوتّر نعوم كما قالت في حديثها "بيوترني جدًا وكأنه الفن اللي مش هادف مش فن، كأننا بنقلل من شأن بقيت الفنون من ناحية، فلو أنا المرة الجاية عاوزة أعمل حاجة كوميدي مش هادفة، فليه يكون محطوط قالب إنه الناس دول بتوع الهادف وأي حاجة تانية لأ".
"حتى العمل غير الهادف يمكن أن يكون وراءه هدف أيضًا"، توضح نعوم "فالأعمال الترفيهية هدفها الترفيه، والكوميدية غرضها الكوميديا فجميع الأعمال تخرج بهدف، وبوسائل مختلفة". هذا المصطح الذي أصبح يُردد مؤخرًا، تشعر نعوم أنه يقلل من قيمة الفن "احنا لما بنختار موضوع بناقشه بجدية أيًا كان، وده اللي حصل في خلي بالك من زيزي، لما قررنا نتكلم عن حاجة زي فرط الحركة ناقشناها من كل الجوانب، كان ممكن نكتفي بالقدر الكوميدي بس، لكن احنا قررنا نجيب كل الجوانب في القصة وهو ده فرق التناول".