استيقظت سماح* من نومها فزعة على صوت صراخ ابنتها البالغة من العمر ست عشرة ربيعًا، هالها مشهد الدم المنبثق من رسغها والسكين الذي حملته الصغيرة في يدها الأخرى وجرحت بها نفسها، استجمعت الأم قواها واصطحبت ابنتها على الفور نحو أقرب مستشفى لتضميد جراح الفتاة قبل أن تنفرد بها في المنزل في جلسة مطولة، لتفهم ما حدث.
كانت الفتاة تعاني منذ ما يقرب من عام من حزن شديد إثر سلسلة من الإحباطات التي لم تفلح معها أي محاولة لتحسين مزاجها، مما أبعدها عن عائلتها وأصدقائها وأدى إلى انهيار كبير في مستوى تحصيلها الدراسي، وصولًا إلى محاولتها إيذاء نفسها بقطع شرايينها.
هل من الممكن حقًا أن يصيب الاكتئاب الأطفال؟ أم أن الاصابة به مقتصرة على الكبار أصحاب المشاكل والمسؤوليات الجسام؟ وهل يمكن للطفل أن يقع في مثل تلك الدوامة من العذاب والألم؟ أم أن براءة الطفولة المرتبطة بقلة التجارب يمكنها أن تقف حائلًا دون ذلك؟
الإجابة نعم، الأمراض النفسية ومن بينها الاكتئاب قد تصيب الأطفال كما الكبار، ربما مع اختلاف طفيف في طريقة التعبير عن الأعراض يتناسب مع اختلاف الخبرات والقدرات الذهنية، وبحسب دراسة بحثية أجريت في فرنسا أكتوبر/ تشرين الأول 2003، على 155 من المرضى المترددين على العيادات الخارجية من سن 7 إلى 17 سنة، وُجد أن أكتر من طفل واحد من كل عشرة أطفال مصاب بالاكتئاب، أما في مصر وتحديدًا في منطقة الدلتا وحسب الدراسة البحثية المنشورة في 2019 ، التي أجريت على 886 طفل من عمر سنة ونصف حتى ثماني عشرة سنة، بمتوسط عمرى يبلغ سبع سنوات ونصف، وُجد أن حوالي 13.7% من الأطفال في تلك العينة البحثية يعانون الاكتئاب.
لا يقتصر الاكتئاب إذًا على الكبار وحدهم، ولكن أيضًا الأطفال عرضة للإصابة به وبمعدلات لا يُستهان بها على الإطلاق.
إحباط متكرر
حاولت سماح فهم ما يحدث مع طفلتها والأسباب التي دفعتها لتلك الفعلة التي عرَّضت حياتها للخطر، لم تجب الفتاة في البداية ولكن بعد محاولات مضنية، قالت إن أمها دائمًا ما كانت تضربها على مدار السنوات السابقة، واعترفت أنها لم تكن تبكي أمامها خوفًا من أن تضربها مجددًا، فكانت الأم تنسى الأمر وتعتقد أن عقابها كان عابرًا ولم يؤثر في طفلتها، لكن الطفلة كانت تنفجر بالبكاء عندما تذهب إلى المدرسة أو تنفرد بنفسها، ومع توالي العقاب بالضرب والإحباطات بداخلها، بدأ الشعور بالحزن الشديد يكتنفها منذ عام، والذي لم تفلح معه أية محاولة لتخليصها منه، فتمكَّن منها بشدة حتى إنها فكرت في إنهاء حياتها "لأن لا أحد يحبها أبدًا، وتريد أن ترحل بعيدًا".
ربما يتبادر إلى الأذهان سؤال عن الأسباب التي قد تحوِّل بهجة الطفولة إلى الاكتئاب؟ خاصة مع عدم وجود مسؤوليات الكبار وهمومهم. وهناك عدة أسباب قد تؤدي إلى الاكتئاب في تلك السن الصغيرة، من بينها عوامل وراثية واضطرابات في كيمياء بعض النواقل في المخ، ويعد السيروتونين من أشهرها.
بالإضافة لذلك، هناك عوامل أخرى بيئية ومجتمعية، كتعرض الطفل للتنمُّر، وما أكثره بين أطفال المدارس، فلا يكاد يخلو بيت من طفل يتعرض للتنمر من أقرانه، سواءً لاختلاف في شكله أو وسطه الاجتماعي أو حتى تحصيله الدراسي.
مشهد لتنمر في فصل دراسي من مسلسل "خلي بالك من زيزي"
وأثبتت الدراسة البحثية التي أجريت في تايوان عام 2008 العلاقة بين تلك العوامل البيئية والإصابة بالاكتئاب بين الأطفال والمراهقين، إذ وجدت أن من بين 9586 طفل ومراهق أجري عليهم البحث أن 12.3% مصابون بالاكتئاب نتيجة لهذه اﻷسباب.
الدكتورة هبة أبو الوفا، أستاذة الأمراض النفسية للأطفال بكلية الطب جامعة الإسكندرية، أكدت أن نسبة الأطفال الذين يتم تشخيصهم بالاكتئاب تبلغ حوالى 2 % من مجمل الأطفال المترددين على العيادات، وتزداد إلى 5% بالوصول إلى مرحلة المراهقة، وأن عوارض الاكتئاب التي تظهر على الطفل تشمل فقدان الشغف بالأنشطة اليومية وتدهور المستوى الدراسي والعلاقات الاجتماعية، وعدم الاهتمام بالنظافة الشخصية.
ولعل أشهر أسباب الاكتئاب كما ذكرتها أبو الوفا للمنصة، تعرُّض الأطفال للعنف المنزلي سواء العاطفي المعنوي بالتقليل من شأنه أو العنف الجسدي بالضرب، ودخول الطفل في نزاعات أسرية كالانفصال، أو تعرضه للتنمُّر من عائلته أو أقرانه أومدرسيه، إما بسبب شكله أو تأخر مستواه الدراسي أو الضغوط التي يتعرض لها سواء في الدراسة أو الهوايات بإجباره دائمًا على التفوق فيها باستخدام أساليب خاطئة، كل ذلك بالإضافة إلى العامل الوراثي.
وتوضح أبو الوفا أن اﻷهل كثيرًا ما يصابوا بالفزع في البداية لصغر سن الطفل "هو عنده إيه أو عمل إيه في حياته لسه عشان يجيله اكتئاب؟" ثم يبدأوا في تقبُّل الواقع تدريجيًا بعد توعيتهم بالمرض وأعراضه لدى الأطفال.
إذن، ربما كان ضرب سماح المستمر للفتاة هو السبب الذي أصاب الطفلة بالاكتئاب، الذي تجسدت أعراضه عليها بشكل واضح، وبصفة عامة يمكننا تلخيص أعراض الاكتئاب في اضطراب النوم، سواء بزيادة أو نقصان مدته بشكل ملحوظ، وازدياد الكوابيس المصاحبة له، مما يتبعه تغيرات ملموسة في الوزن بالزيادة أو الفقدان، والشعور شبه المستمر بالحزن والقلق والاضطراب مع انعدام الرغبة في القيام بالأنشطة اليومية التي اعتاد الطفل سابقًا القيام بها كالذهاب إلى المدرسة أو النادي مع انخفاض مستوى التحصيل الدراسي أو محاولة إنهاء الحياة في حال الإصابة الشديدة، على ألا تقل مدة تلك الأعراض عن أسبوعين حتى يمكن تشخيص الاكتئاب.
هل من طوق نجاة
هال سماح ما سمعته من ابنتها و شعرت بالصدمة الشديدة، فهي لم تكن تعلم أبدًا أن العقاب الذي ظنت أنه في مصلحة ابنتها كان من الممكن أن يودى بحياتها أويسرق منها السعادة للأبد، وصُعقت من قدرة الفتاة على تذكُّر كل المواقف السلبية التي مرت بها منذ نعومة أظافرها، فهي لم تكن تعتقد أن الأطفال بهذه الذاكرة القوية والحساسية الشديدة، وشعرت بالذنب الشديد تجاه ابنتها مما دفعها للاستجابة لطلب الصغيرة بالذهاب إلى طبيب نفسي وبدء العلاج.
تخبرنا أبو الوفا أن العلاج السلوكي المعرفي هو الأساسي والأول في حالات الاكتئاب عند الأطفال، ولكن مع اﻷسف لا يملك كل اﻷهالي الوقت أو المال الكافيين للانتظام في الجلسات، أما عن العلاج الدوائي فيأتي كخيار أخير، ويواجه الأطباء صعوبة في إقناع الأهل به نظرًا للمخاوف الشائعة المتعلقة بالآثار الجانبية أو إدمان الدواء. واﻷهم هو تغيير البيئة المحيطة بالطفل إذا كان لها دور في إصابته بالاكتئاب، وتحويلها إلى بيئة داعمة تستجيب لاحتياجات الطفل.
ويهدف علاج الاكتئاب إلى حماية الطفل من الأعراض، لكي يعود إلى ممارسة حياته بشكل طبيعي ويستأنف الأنشطة التي حال المرض بينه وبينها، كالعلاقات الاجتماعية والرياضة والتحصيل الدراسي، وكذلك إلى تحسين حالته المزاجية وإبعاد الأفكار السلبية المتعلقة بالعزلة أو إنهاء الحياة عن خاطره.
ويعد العلاج السلوكي المعرفي هو خط العلاج الأول في حالات اكتئاب الأطفال البسيطة والمتوسطة، ويمكن التخطيط لعدد الجلسات ومدتها حسب حالة كل طفل، ولكن في المتوسط يحتاج الطفل لجلسة أسبوعيًا مدتها ساعة لفترة تتراوح من ثمانية إلى ستة عشر أسبوعًا، أو حسبما يقرِّر الطبيب المعالج وفقًا لحالة الطفل ومدى استجابته.
وتتلخص فكرة العلاج السلوكي المعرفي في أن يتعلم الطفل أن هناك رابط بين حالته المزاجية وسلوكه، ويميز بين السلوكيات التي تؤدى لتحسين الحالة المزاجية أو العكس ليتحكم فيها بعد ذلك مما يؤدى إلى تحسن حالته النفسية.
أما العلاج الدوائي فلا يفضَّل استخدامه سوى في حالات الاكتئاب الشديد، وفقًا لتشخيص الطبيب النفسي الفاحص للحالة، وبعد توعية الأهل بالهدف من استخدامه وكذلك بكافة آثاره الجانبية، ويمكن البدء بجرعات صغيرة يتم زيادتها تدريجيًا حتى تتحسن حالة الطفل ومراقبة ظهور أيٍ من الآثار الجانبية بالفحص الدوري للطفل.
ثار زوج سماح في بداية الأمر عندما أخبرته بما حدث ورغبتها هي والفتاة في زيارة الطبيب النفسي وأبدى امتعاضه الشديد وعدم موافقته، بحجة أن اﻷمر لا يستدعي كل ذلك، ولكنه رضخ لرغبة اﻷم أخيرًا بعد محاولات مستمرة ﻹقناعه بأهمية العلاج النفسي، وبالفعل تتلقى الفتاة حاليًا جلسات العلاج السلوكي المعرفي بعد أن تم تشخيصها بالاكتئاب وفي طريقها للتعافي.
* اسم مستعار بناءً على طلب المصدر