انتظمت الحياة داخل السجن، وإن لم يقلل ذلك من صعوبته. أصبح همنا الأساسي هو تحسين المعيشة بقدر الإمكان. وكما كانت سياسة "القطرة قطرة" التي يتبعونها في الاستجابة لطلبات السجناء ناجحة لكي نشعر أن كل استجابة لحق من حقوقنا هي تنازل كبير من جانبهم، كنا نستخدم الزيارات الأسرية التي تتم مرة كل أسبوع لكي نقدم طلباتنا للضابط المعني من الأمن الوطني الذي يحضر ويسجل ما يدور في تلك الزيارات، وكان الرد دائمًا "هنراجع ونرد عليك".
تفاوضنا وناقشنا وغضبنا نحو شهرين لكي نحصل على مزيد من البطاطين في محاولة لتقليل آلام العظام التي يسببها النوم على الأسرّة دون مراتب. مساجين زملاء نصحونا باستخدام قطع الكرتون من صناديق المياه الفارغة لتدعيم البطانيتين اللتين يحصل عليهما كل سجين وفقا للائحة السجون. في النهاية نجحنا بفضل اتصالات أجرتها أسرنا مع جهات عدة كنقابة الصحفيين والمجلس القومي لحقوق الإنسان في إقناع إدارة السجن بإدخال ثماني بطانيات دفعة واحدة لزنزانتنا. في الليلة الأولى التي أصبح لدي فيها أربع بطانيات، شعرت وكأنني أنام على مرتبة فخمة من تلك التي يمكن إدارتها عن طريق الريموت كونترول، وغصت في نوم عميق.
خضنا "معارك" شبيهة لتركيب سلم استعين به أنا والدكتور حسن نافعة للصعود إلى أسرّتنا ونجحنا بعد نحو شهرين أيضًا، وكان اللافت بالنسبة لي أن السجين الذي أتى لتركيب السلم الخشبي الذي يربط بين السرير الدورين طالبنا بمقابل جهده بصفته نجار سابق قبل إدانته وصدور حكم بحقه. كنت أعتقد أن تغطية تكاليف مثل هذه الإصلاحات تتولاها إدارة السجن، حيث أننا لن نأخذ السلم معنا عند الخروج وسيبقى في الزنزانة.
ولكن كان هذا هو الحال مع كل الإصلاحات المطلوبة، سواء نجارة أو كهرباء أو سباكة. يبلغ السجينُ الضابطَ المعني بالعطل عن طريق المسير أو السجان أو المخبر، وحسب رغبة سيادة الضابط يتم الاستجابة لطلب الإصلاح إما في نفس اليوم أو اليوم التالي أو بعد عدة أيام، ثم يقوم السجين بدفع قيمة الاصلاحات وقطع الغيار وجهد الأسطى. ويكون الدفع إما عن طريق كوبونات بمبالغ مالية يحصل عليها السجين مقابل ما تودعه أسرته من أموال في أمانات السجن، أو بعلب السجائر الكيلوباترا. كان سعر العلبة داخل السجن 23 جنيه عندما كان 18 خارجه.
ثم حصلنا على الكوبونات التي تسمح لنا بالشراء من الكافيتريا، شاي وقهوة وبسكويت للإفطار وكل أنواع المواد الغذائية. وبعد أن سمح لنا الضابط المعني بدخول موقد كهربائي من شعلتين إلى الزنزانة أصبحنا قادرين على تسخين المأكولات الشهية التي تأتينا في زيارات أسر السجناء الذين يبدعون في إعداد الطعام لأنهم يشعرون بثقل ما نحن فيه من حرمان من حياتنا اليومية الطبيعية، وبالتالي يكون التعويض من وجهة نظرهم هو إعداد أفضل أنواع الأطعمة.
لم أكتفِ بالتسخين فقط، بل تطور الأمر لإعداد بعض الطبخات البسيطة أحيانًا، خاصة وأن لديَّ بعض الخبرة في هذا المجال لأنني عشت سنوات طويلة بمفردي سواء في مصر أو الولايات المتحدة. ومع مرور الوقت أصبحت الطاهي الرسمي للزنزانة، واكتسبت سمعة جيدة في إعداد الأرز بدلًا من تناول رز التعيين المسلوق والمعجن غالبًا، وربما بعض الخضروات. ثم أصبح لدينا سخان مياه صغير (كاتيل) تم تهريبه من النضارة كهدية من أحد السجناء، وكذلك "كنكة" تهريب مكنتني من استئناف هوايتي المفضلة في إعداد القهوة بدلًا من انتظار الهدايا من نضارة الزنزانة.
أصبحت أعد الفول وربما بعض البيض المقلي أو المسلوق كل صباح وكنا في السابق أثناء فترة الإيراد نعاني معاناة شديدة مع البيض المسلوق الذي يأتي نيئًا ضمن التعيين الذي توزعه إدارة السجن، وكان ممنوعًا على السجناء الزملاء في العنبر التعامل معنا أثناء فترة الإيراد، فكنا نستأذن المخبر لسلق البيض في أحد الزنازين المقابلة وكان يرفض ويقول إنه لا بد أن يستأذن الضابط لكي يتم سلق البيض في كافيتريا السجن ثم إعادته إلينا. وما بين استلام ستة بيضات لثلاثة أفراد واستئذان المخبر ثم الضابط مرورًا بمرحلة طويلة من التجاهل حتى نصل إلى مرحلة سلقه في كافيتريا السجن ثم نحصل عليه مسلوقًا، تكون خمس أو ست ساعات مرت.
في السجن، يصبح سلق البيض داخل زنزانتك على سخانك الخاص تطورًا كبيرًا. إنها امتيازات صغيرة قد لا تلتفت لها في حياتك اليومية، ولكنها في السجن تحمل دلالة على أن حياتك بدأت تستقر وأن الزنزانة بدأت تتحول إلى بيتك الصغير، الصغير جدًا جدًا.
تسليتي النهارية كانت الوقوف على النضارة في ساعة تريض المساجين الجنائيين والاستماع إلى قصصهم والسبب الذي انتهى بهم في السجن بدلًا من مواصلة عملهم في مجالات حساسة كالشرطة والنيابة والقضاء. وكان لافتًا أن غالبية الضباط المدانين كانوا شبابًا تتراوح أعمارهم بين 25 و40 سنة، وتنوعت جرائمهم بين الاتجار في المخدرات والقتل والقتل الخطأ والسرقة بالإكراه والتزوير. وكلهم تقريبًا، فيما عدا اثنين او ثلاثة من بين أكثر من عشرين، كانوا يرون أن الأحكام التي صدرت بحقهم مشددة لأنهم ضباط شرطة تريد وزارة الداخلية التأكيد من خلالهم على أنها تتعامل بحزم مع المخالفات التي يرتكبها العاملون فيها، وأنهم لو كانوا مواطنين مدنيين عاديين لكانت الأحكام بحقهم أخف بكثير.
أما السيد محافظ المنوفية السابق المدان بالرشوة وغسيل الأموال وإهدار المال العام وصدرت بحقه أحكام بالسجن 27 سنةً في ثلاث قضايا، ومن دون الخوض في تفاصيل لا يمكن لي التيقن من صحتها، فهو يرى ببساطة أنه ضحية اللعب مع الكبار. كان الحديث معه مسليًا في البداية من باب الاطلاع على طريقة اتخاذ القرار في دواخل البيروقراطية المصرية العتيدة، وطبيعة العلاقات المعقدة والمتشابكة بين جهات صنع القرار في مصر. ولكن ما لم يكن مسليًا بالمرة، هو الاستماع لمحاضرات مطولة عن عبقريته وانجازاته ومقترحاته التي لو تم الاستجابة لها لانضمت مصر إلى الإتحاد الأوروبي.
ورغم السقوط المدوي لصاحب المنصب الرفيع، كان الجميع تقريبًا يحاول التخفيف عنه بمخاطبته "سيادة المحافظ"، تمامًا كما كان الضباط يخاطبون بعضهم بـ"فلان بيه" و"فلان باشا". وكنت انزعج جدًا عندما كان النزلاء من العساكر المتهربين من التجنيد المسؤولين عن توزيع التعيين يخاطبونني بلقب "خالد باشا" وأصر أنني صحفي ولا أنتمي لفئة "الباشا".
وقرب نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2019، حدث تطور مهم في روتين السجن بالنسبة لي. انهمرت أمطار غزيرة وسيول على القاهرة أدت إلى تأثر سقف عنبر 4 سياسي. وفي مساء أحد الأيام، بعد أن عانينا لساعات من نزح المياه التي كانت تتسرب من الأنبوبة الى داخل الزنازين التي تحولت إلى بركة، فوجئنا بفتح باب عنبرنا وهو عنبر 1 سياسي، وإدخال نزلاء جدد من عنبر 4 سياسي.
كانت سعادتي بالغة بعد أن عرفت أن القادمين الجدد هم حسام مؤنس وهشام فؤاد وزياد العليمي، ومعهم أيضا الضابط السابق المدان بقتل سوزان تميم في إمارة دبي بناء على طلب وتمويل سخي من المقاول الملياردير الشهير، الذي كان أدين وعوقب بالسجن 15 سنة ولكنه خرج بعفو صحي قبل عدة سنوات.
كانت هذه المرة الأولى التي أرى فيها حسام وهشام وزياد منذ حبسهم في 24 يونيو/ حزيران 2019. يوم القبض عليهم كنت في المغرب لزيارة خاصة وتوقعت أن يتم القبض علي أنا أيضا في مطار القاهرة فور عودتي بصفتي عضو في قيادة الحركة المدنية الديمقراطية ورئيس سابق لحزب الدستور، وكنت أدعم بقوة محاولات تشكيل تحالف موسع لخوض انتخابات 2020 البرلمانية.
لم أفهم إلى يومنا هذا ماهية الجريمة التي ترتكبها أحزاب شرعية شاركت في 30 يونيو 2013 ومعروفة بمواقفها المعارضة للإخوان حين تجتمع وتخطط للمشاركة في الانتخابات البرلمانية، تأخر القبض عليَّ ثلاثة أشهر بالتمام والكمال، وجاء على ذمة قضية أخرى. كان اللقاء مع الزملاء الثلاثة حارًا، وشعرت أن لديَّ الآن أصدقاء مقربين نسبيًا يعانون نفس الظروف وربما تكون لديهم نصائح يقدمونها لي بعد أن قضوا ثلاثة شهور في السجن.
حسام مؤنس كان الأكثر قربًا مني لأنني عملت معه منذ 2012 تقريبا بعد أن شارك هو في تأسيس التيار الشعبي ممثلًا لجيل جديد من الشباب الناصري مع حمدين صباحي، وشاركت أنا في تأسيس حزب الدستور مع الدكتور محمد البرادعي. وبعد تجربة جبهة الإنقاذ الوطني و30 يونيو، عملت مع حسام في حملة حمدين الرئاسية عام 2014، واستمرت لقاءاتنا بعد تشكيل التيار المدني الديمقراطي في 2015 ثم الحركة المدنية الديمقراطية في 2017.
كان حسام يبهر كل من يتعامل معه برجاحة عقله وصوته الهادئ وانفتاحه على التيارات السياسية المختلفة ونقده للتجربة الناصرية رغم انتماءه بشكل عام لذلك التيار، لدرجة أننا كنا نمازحه ونقول له إنه سيكون مرشحنا يومًا لتولي منصب الرئاسة، وأن العائق الوحيد في ذلك الوقت كان صغر سنه نسبيًا. ولأنني انتمي تاريخيًا إلى التيار اليساري الذي قام عبد الناصر بحبس رموزه في الفترة بين 1959 و1964، كنت أمازح حسام كل يوم تقريبًا بتذكيره أن الدولة السلطوية الشمولية في مصر بناها عبد الناصر، وتمسك كل من لحقوه بذلك الطابع الشمولي للدولة حتى لو تخلوا تماما عن كل سياساته المتعلقة بالقومية العربية والعدالة الاجتماعية. وكانت تحية الصباح مع حسام يوميا كالتالي "صباح الخير يا حسام. الله يخرب بيوتكم".
أما "الرفيق" هشام فؤاد فقد عرفته صحفيًا ونقابيًا مناضلًا نقيًا صلبًا منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، ودعمت حملته للترشح لعضوية مجلس نقابة الصحفيين وكذلك بعض الحملات التي كان ينظمها للدفاع عن الحقوق النقابية للعمال. كنت انبهر دائما بهشام وجدعنته ووجوده دائمًا في مقدمة الصفوف في أي قضية تخص الصحفيين أو لدعم الزميلات والزملاء في أي مشكلة يواجهونها، حتى وإن اختلفت معه في بعض الأفكار السياسية.
أما زياد فعرفته كوجه بارز لثورة 25 يناير 2011 التي عرفت بـ"ثورة الشباب" حيث كان في الثلاثين من عمره تقريبًا عندما ترشح لعضوية البرلمان وحقق انتصارًا هامًا وصعبًا في جنوب القاهرة في انتخابات برلمان 2012 والذي كان عمره قصيرًا للغاية وتم حله بعد تولي الرئيس الإخواني السابق محمد مرسي لمنصبه. وعرفته لاحقًا قياديًا في الحزب المصري الديمقراطي ومحاميًا متفوقًا في العديد من القضايا.
ومقابل ساعات الصمت الطويلة التي كانت تسود الأجواء في زنزانتي، تغير الوضع تماما بعد قدوم حسام وهشام وزياد. وبعد أن كنت أمضي معظم الوقت مستلقيًا على سريري متأملا السقف لأنه لم يكن مسموحًا لنا بإدخال الكتب بعد، أصبحت لا أغادر النضارة تقريبا للحديث مع حسام وهشام وزياد الذين تم تسكينهم في الزنزانة المجاورة لي. كنت في زنزانة 7 وكانوا في زنزانة 8. ورغم أنه لم يفصل بين اعتقالنا سوى ثلاثة أشهر، كنت بالنسبة لهم مصدرًا مهما لكل ما جرى في تلك الفترة من تطورات، خاصة ردود الفعل على حبسهم وسيل تسجيلات الفيديو اللايف التي سبقت حبسي والتي بثها المقاول محمد علي ووائل غنيم وآخرين.
السجين السياسي لا يتوق لشيء في محبسه قدر اهتمامه بالمعلومات المتعلقة بما يجري في الخارج من تطورات، وكل قادم جديد كان مطالبًا بالإجابة عن سيل لا ينتهي من الأسئلة.