عام 2015 أعاد المخرج الألماني ديفيد ويندت هتلر في فيلمه الكوميدي الفانتازي الديستوبي انظروا من عاد هتلر إلى الحياة في برلين المعاصرة، ليكشف لنا عن استعداد المجتمع لاستقباله واحتواء أفكاره مرة أخرى، فيما يشبه قصيدة هجاء سياسي تشير بقسوة إلى الإخفاقات السياسية الحديثة التي هيأت المجال العام لأمثال هتلر في اتخاذ مواقع الزعامة بسهولة كما كان يحدث في بداية القرن العشرين.
قد تبدو عودة هتلر إلى السلطة في القرن الحادي والعشرين للوهلة الأولى خيالاً يراود أصحاب نظريات المؤامرة، ولكن السؤال عند صياغته بشكل صحيح لن يدور حول احتمالات عودة هتلر بل ما إذا كنا سنتعرف عليه عندما يفعل، فبينما كان الفوهرر في الفيلم حقيقيًا تمامًا، أصر الناس على كونه منتحلًا رغم تقبل بعضهم لأفكاره.
حقيقة أن رجلاً يرتدي زي هتلر ويسير في شوارع ألمانيا أصبحت فرصة لالتقاط صور سيلفي أكثر من كونه أمرًا يثير الغضب أو يدعو إلى أي نوع من التفكير، وذلك القبول الذي يلقاه هتلر بأفكاره وسط الناس العاديين الذين يُصورون كمشاهد حقيقية خارج سياق الفيلم ولكن تم توليفها داخله، تطرح شيئًا ذا مغزى عن المجتمع الألماني المعاصر، وما إذا كانت أفكار هتلر وأساليبه يمكن أن تطبق فيه بشكل حكومي رسمي مرة أخرى.
الإعلان التشويقي لفيلم انظروا من عاد
يشكل أدولف هتلر وإرثه النازي مادة خصبة للأفكار، استقت منها السينما الألمانية الكثير وهي تحكي من زوايا مختلفة ومتنوعة قصته وقصة الحرب العالمية الثانية وما شهده المجتمع الألماني من تحولات قبلها وخلالها، ولكن معظم هذه الأفلام يتفق على تجميد التاريخ عند لحظة هتلر وزمانه، وقليلة هي الأعمال التي تناولت إرثه المسموم في المجتمع الألماني، أو الجذور التي أنتجته وفكره العنصري، وما زالت قادرة على أعادة إنتاجه مجددًا.
إن عودة هتلر وأفكاره من جديد إلى الساحة السياسية ليست مغالاة في الخيال، بل واقعًا أغفلت السينما الألمانية النظر إليه وكأنه غير موجود، إلا استثناءات قليلة حاولت استكشافه وتشريحه والتحذير منه، وجميعها مع اختلاف حقبها الزمنية حملت رؤية تشاؤمية وانتهت إلى تهديدًا.
ولهذا التعامي عن رؤية النازي يتغلغل في المجتمع جذور تمتد إلى عام 1945، مع نهاية الحرب العالمية الثانية بانتحار هتلر واستسلام ألمانيا وتقسيمها بين الحلفاء المنتصرين. كانت صناعة السينما في ألمانيا حينها هي الأكبر عالميًا بعد الولايات المتحدة، ولكن مع استسلام برلين، وانهيار قيمة العملة بسبب الحرب وإجراءات ما بعدها، وعودة السوق السوداء للهيمنة من جديد، أصبح الواقع الثقافي والفني، والسينما جزء منه، يواجه حالة شديدة من الجدب.
اقتصر الإنتاج السينمائي في ألمانيا الغربية السينمائي على تقديم أفلام هزلية وشعبية في أغلبها، تجاهلت مشاكل المجتمع وانقسام أطيافه وطبقاته، وأزماته السياسية والاقتصادية، وركزت على تقديم أفلام كوميدية وترفيهية تغيب عنها الجدية، ولم تسجل أي حضور في أي مهرجان عالمي.
ومع ذلك، لم يكن ذلك المناخ حائلاً دون إقامة مهرجان برلين السينمائي عام 1951، باقتراح من الأمريكي أوسكار مارتاي، وبإشراف النازي السابق ألفريد باور، وافتتح بفيلم ريبيكا للمخرج ألفريد هيتشكوك، لأهداف سياسية تتعلق بعرض الجانب الحر من مدينة برلين المقسمة والمدمرة دون السماح لأفلام دول الكتلة الشرقية من المشاركة في فعالياته، حتى عٌرض أول فيلم سوفييتي في برنامج المهرجان عام 1974 أثناء سياسات التقارب.
في هذا السياق، أصدرت مجموعة من صناع الأفلام الألمان الشباب الساخطين مانيفستو غاضبًا يوم 28 فبراير/ شباط 1962 على هامش مهرجان أوبرهاوزن الدولي للأفلام القصيرة، يشن هجومًا لاذعًا على ما تنتجه ألمانيا من "سينما وطنية قاحلة روحيًا ومفلسة فكريًا" وأعلنوا رغبتهم في إحياء تلك "السينما الميتة".
كان بيان أوبرهاوزن يدعو إلى خلق مناخ جديد تعمل السينما الألمانية في ظله، معجّلًا بتغييرات جذرية في الطريقة التي يتم من خلالها تمويل الأفلام في ألمانيا الغربية وصنعها، فأطلق طاقات جيل جديد من الشباب من أمثال فيرنر شروتر وفيم فيندرز وفيرنر هيرزوج وراينر فاسبندر، كانت تلك المجموعة هي التي وضعت الفيلم الألماني في طليعة السينما العالمية خلال السبعينييات والثمانينيات.
لقد عبر مانيفستو أوبرهاوزن عن رغبة صناع الأفلام الألمان في تدشين عهد جديد للسينما الألمانية تشتبك فيه مع قضايا مجتمعها، ويتحرر من موجة الفيلم الدعائي، أو الفيلم الهزلي الذي يخشى الصدام مع المجتمع، وأهم الملامح السينمائية للفيلم الألماني في أعقاب أوبرهاوزن كانت التحرر من سيطرة الإحساس بالذنب الذي سيطر على الذات الألمانية، وإعادة تسليط الضوء على مشكلات المجتمع، ولكن لم تكن السينما الألمانية في تلك الحقبة قادرة على مواجهة الإرث النازي المسموم، نظرًا لعديد من القوانين التي ضيقت على مناقشة هذا الموضوع وإعادة فتحه مرة أخرى، كالقانون الشهير "القسم 130" .
تساؤلات عن الآخر
تجلت آثار حركة أوبرهاوزن في استكشاف تناول قضية الآخر بعيدًا عن اليهود، وقد رأوا "الآخر" في مجتمع المهاجرين الذي شكّل الأتراك أغلبيته، وعرض على شاشة السينما كصورة أخرى للجيتو اليهودي. ويمكننا أن نرى ذلك في أفلام عدة من بينها فيلم المخرج الشهير راينر فاسبندر علي: الخوف يأكل الروح الذي أنتجه عام 1974.
الإعلان التشويقي لفيلم علي: الخوف يأكل الروح
آمن فاسبندر أن هتلر لم يكن شخصًا بقدر ما كان فكرة أنتجها مجتمع مهزوم ذليل مع نهاية الحرب العالمية الأولى، واليوم، أي بعد الحرب العالمية الثانية، ظل المجتمع مهزومًا ذليلًا ومنقسمًا، فبدأ التنقيب داخل مجتمعه عن الأفكار العنصرية التي لا زالت تسود فيه من خلال شخصية علي؛ المهاجر المغربي الذي جاء إلى ألمانيا بحثًا عن وظيفة تكفل له حياة كريمة، فلم يلقَ سوى الإجحاف.
تلقي شخصية علي الظلال على مجتمع المهاجرين ذلك وظروفهم المعيشية السيئة، ما جعلهم يصنعون جيتو خاصًا بهم في بعض الملاهي الليلية التي تشغل لهم أغانٍ بلغاتهم، بينما تقف العجوز إيمي التي تقع في حب علي أسيرة خرافات نقاء العرق الآري لنكتشف كيف ظلت فكرة الزواج من مهاجر مستهجنة في ظل عنصرية ما زالت تتغلغل في السياق.
ويستكشف فاسبندر منابع فكرة التمييز العنصري من داخل شخصية إيمي ذاتها وكيف تدرك توازن القوى في علاقتها بعلي، فبينما تتمتع هي بسلطة كونها ألمانية في ألمانيا فإنه على الجانب الآخر يتمتع بسلطة سن الشباب والقدرة الجنسية، فنجدها في بعض المشاهد الفيتشية، تستعرض فحولة زوجها أمام أصدقائها، وتأمره بأن يسدي بعض الخدمات التي تتطلب مجهودًا بدنيًا إلى جيرانها، لتجعل منه في النهاية مطية وآلة لتحقيق رغباتها الجنسية وفي تحسين علاقاتها الاجتماعية كذلك مع محيطها.
العلاقات مع المهاجرين كانت أيضًا موضوعًا تناوله المخرج أوفي شرايدر، في فيلمه عروس كانكر عام 1983، ولكن المهاجر كان تركيًا هذه المرة. يقدم شرايدر هنا محاولة أكثر عمقًا لتناول جيتو المهاجرين في مدينة كروزبرج إحدى ضواحي برلين، والتي يشكل فيها الأتراك جالية ضخمة هي الأكبر في أوروبا. تعيش هذه المدينة وفق التقاليد التركية ويستحوذ الأتراك على سوق العمل فيها، وتنتشر الأغاني التركية والموسيقى في أزقتها، ويوحي لنا شرادر في الفيلم أن مشاكل المواطن الألماني رجلاً أو امرأة، سببها هؤلاء الأتراك، فبطل الفيلم بول عاطل طول الوقت، وليزي عروس كاناكر، تعاني من هجر صديقها التركي بعدما تحملت من أجله ذلك الاسم الكريه. بطلا فيلم شرادر مهزومان كمدينتهما.
يقدم أوفي شرادر معالجته لمشكلات مجتمعه من خلال بطليه الفاشلين، فهو يطرح رؤية تجاه مجتمع ضيع أبناءه، سواء باستنزافهم عن طريق العمل الدائم حتى تحول المواطن الألماني إلى آلة عمل مهدورة الإنسانية في ظل نظام رأسمالي لا تهمه سوى العمالة الرخيصة، التي تتيح للمهاجرين فرص العمل أكثر من المواطن الألماني، ويلمس العلاقة المعقدة بين الأتراك المهاجرين والألمان أبناء البلد، على المستوى الاجتماعي والاقتصادي.
السينما الألمانية تتكلم
كان لفيلم Run Lola Run عام (1998) وما حققه من نجاح عالمي، دور تأسيسي في إطلاق الموجة الجديدة للسينما الألمانية، التي شكّلت انطلاقةً لموجة تختلف عن موجة أفلام جماعة أوبرهاوزن، جعلت أنظار العالم تتجه باهتمام وفضول نحو السينما الألمانية. كانت سينما الموجة الجديدة هي سينما تجارية مصقولة بالموضوعات والقضايا الجادة تتجه للعالمية.
الإعلان التشويقي لفيلم Run Lola Run
منحت تلك الموجة بعد نصف قرن من الحرب، السينما الألمانية القدرة على التحدث عن النازية من الداخل دون مزايدات سياسية، بعد أن سبقتها السينما الأميركية والأوروبية بأفلام غير دقيقة وساذجة في بعض الأحيان تتناول تلك الحقبة، وذلك يعود إلى طبيعة التعامل مع الإرث النازي في ألمانيا بعد الحرب، حيث اقترب الحديث المنصف عن هذه المرحلة من طور التحريم تارة، والكراهة أخرى، حتى كان الظن في ألمانيا أنها لن تستطيع التعامل مع تاريخها الأسود، وأيضاً التعامل مع تاريخ ألمانيا المقسمة بين غرب رأسمالي يحاول البحث عن هوية وشرق شيوعي ورث قمعية الرايخ الذي ظهر بوضوح في فيلم Good Bye Lenin وThe Lives of Others.
توازى ذلك الاتجاه الجديد مع صعود حركات اليمين الفاشي في أوروبا بأفكارها الشوفينية، فلم يعد الحديث إذن عن ماضٍ عنصرية بقدر ما هو قلق إزاء حاضر يشبه غيمة ضخمة تحجب الشمس عن القارة العجوز.
عرفت أوروبا تزايدًا في المشاعر اليمنية المتطرفة عبّرت عن نفسها بطرق مختلفة، فعلى سبيل المثال ظهرت في النمسا حركة مثيرة للاهتمام تسمى Identitarians تنفي عن نفسها تهمة النازية ولكنها تصدّر خطابًا يناهض الهجرة ويؤيد تفوق البيض، وفي اليونان كانت هناك جماعة الفجر الذهبي، التي عبرت عن نفسها بوضوح كمجموعة اشتراكية من النازيين الجدد.
أما ألمانيا نفسها فشهدت ارتفاعًا في حالات الاعتداء على المهاجرين واليهود، وبرزت جماعة National Socialist Underground التي اعتنقت عقيدة اغتيالية تستهدف اليهود والمهاجرين الأتراك، وقد عرف الحزب الوطني الديمقراطي النازي الجديد طريقه إلى مقاعد البرلمان الألماني في ولايات شرق ألمانيا، وأصبحت النازية الجديدة في ألمانيا قوة لا يستهان بها، كما أنها تستطيع تحدي القانون الألماني الذي يجرم الأفكار والرموز النازية، ويعاقب عليها.
لقد تحول الكابوس المخيف من عودة النازيين إلى حقيقة لم تعد تحتاج إلى التفاف على الواقع، لمعالجة الذهنية الألمانية ومشكلاتها مع الآخر، في أوساط الطبقة المتوسطة وفي الريف الألماني في الشرق، أصبحت وجهات نظر اليمين المتطرف مقبولة بشكل متزايد في المجتمع، على حد قول المخرج الألماني ديفيد ويندت، فبدأت السينما الألمانية في تقديم سرديتها للنازية من خلال عدد من الأفلام غير الدعائية والموضوعية، كما أن ذلك الجيل الجديد من المخرجين سعى إلى صناعة سينما تجارية تعرف طريقها إلى العالمية وشباك التذاكر، وقد رأى أن تجربة صناعة أفلام النازية في هوليود هي تجربة مثمرة جدًا تجاريًا وأكاديميًا.
شغلت هذه القضية بال العديد من المخرجين المشهورين داخل ألمانيا مثل أوليفير هيرشبيجل وديفيد ويندت. هيرشبيجل حاول مرة تقديم هتلر كرمز يمثل مجموعة من الأفكار في فيلمه التجربة عام 2001، وبعدها بثلاث سنوات سعى إلى أنسنته في الفيلم الأكثر شهرة السقوط.
الإعلان الترويجي لفيلم السقوط
مقادير صناعة النازي
في التجربة يقدم هيرشبيجل رؤية جديدة عن الجذور النازية الضاربة في المجتمع، من خلال رؤية خاصة بعلم النفس، وتتجه إلى الأفراد ككيانات مستقلة عن المجتمع نفسه. يمكننا النظر إلى الفيلم وكأنه تأكيد على أن الفاشية تكمن بداخل كل فرد، ولا تظهر على السطح إلا من خلال بعض المحفزات والظروف المعينة التي تساعدها على النضج.
يلعب الزي في فيلم التجربة دورًا هامًا، فمن خلاله يتحدد السلوك البشري، فالزي المدرسي يجند الطلاب في الجسم الطلابي، والزي العسكري يعطي هدفًا لمئات الآلاف من الجنود الذين لا يعرف كل منهم الآخر، ولكنهم يعرفون أن لهم هدف واحد مشترك، الزي يمنح صاحبه هوية ودورًا.
يشارك 20 شخصًا في تجربة مدفوعة الأجر يقوم بها عالم نفس حول الاستجابة للسلطة وطرق التكيف معها. ينقسم المشاركون الذين كانوا يهدفون إلى الحصول على مقابل المشاركة إلى مساجين وحراس سجن، لمناقشة فكرة الحاجة البشرية إلى الزعامة الكاريزمية والالتفاف حولها، وما يؤديه ذلك الإنقياد في النهاية إلى فوضى وشمولية، تشبه تلك التي جاءت بهتلر إلى السلطة بكل ذلك الالتفاف الجماهيري حوله.
كان من المنطقي أن يتبع الحراس نفس منطق المساجين في التجربة إنهم هنا في مجرد "لعبة" سيحصلون في آخرها على الأموال التي ستؤمن لهم الكثير في حياتهم، ولكن اللعبة تخرج من ذلك النطاق وتمتد لتداعب الجوانب النفسية المعقدة لكل واحد من حراس السجن، والذي يبدأ في استغلال تلك السلطة للبطش والإيذاء الحقيقيين غير المتفق عليهما في شروط التجربة، ويتحقق ذلك الشر من خلال مجموعة من البشر العاديين الذين يستجيبون لمحفزات معينة.
يلعب فيلم الموجة 2008 على تيمة مشابهة، فهو يتحدث عن درس تعليمي يستمر أسبوعًا، في كيفية تنظيم حركة فاشية؛ راينر فاجنر مدرس في مدرسة ثانوية، غير متوقع، ويهرب من الأنماط التعليمية المعتادة، كُلف بإدارة أسوأ الفصول سمعةً في المدرسة، وقرر أن يلجأ عوضًا عن المقالات والمراجع والقراءة والكتابة إلى القيام بتجربة، فمن أجل أن يفهم المراهقون معنى الكلمة التي يدرسونها، الأوتوقراطية (حكم الفرد المطلق)، قرر فاجنر أن يجعل تلاميذه يعيشون التجربة.
الإعلان التشويقي لفيلم الموجة
تنتشر الفكرة في الفصل بسرعة من خلال الزي الموحد، الذي يتشابه مع مثالية الزي الألماني النازي وشعاره الموحد وتحيته، وهكذا يطلب فاجنر من طلابه تصميم شعار وزي موحد وابتكار تحية يستخدمونها، فيمتثلون تحت وطأة كاريزماته حتى أن أحد الطلاب يتماهى مع التجربة خارج حدود الفصل ويحاول أن يوهب نفسه كخادم لأستاذه. ولكن على الهامش، نرى معاناة الطلاب المهاجرين الأتراك داخل المدرسة، وما يواجهونه ومعهم أصدقائهم الألمان من تنمر وإقصاء، يؤدي بهم لصناعة جيتو خاص بهم.
بعد ثلاث سنوات من فيلم التجربة سوف ينتقل هيرشبيجل إلى فكرة البشري العادي الذي يمارس الشر، عندما يقدم في فيلمه السقوط هتلر ذاته دون رمزيات، وبشكل إنساني. يسلب الديكتاتور سحره وإجرامه لصالح الانفعالات وردود الفعل التي يتحلى بها الإنسان في الظروف العصيبة. لا يتعلق الأمر هنا بتقديم الشر المطلق ولكنه يحاول الاقتراب من الشخصية وفهمها منطلقًا من مشاعر الخيبة والفشل وتأنيب الضمير.
في فيلم السقوط الذي يلعب فيه القدير برونو جانتس دور هتلر، يظهر الفوهرر رجلًا قصيرًا مقوس الظهر، وهو يهمس معتذرًا وهو يبحث عن سكرتيرته في جنح الليل. هذه الصورة التي استبق بها هيرشبيجل مشاهد صراخ وغضب هتلر وتهديداته لجنرالاته وهو يهذي تحت وطأة الهزيمة، قدّمت الرجل ليس كجانٍ أو ديماجوجي ذو هالة بل كعجوز مقوس الظهر تاه منذ أمد في نظام جنونه الخاوي، ولم يترك سوى انطباعًا منفرًا ممزوجًا بالشفقة.
تصدر الفيلم دور العرض في السينما الألمانية، ورافق هذا النجاح السينمائي نقاش مبدئي حول السماح بالأساس بعرض وجه هتلر في فيلم ما، كما طرحت قضية الخوف من تحويل الفظائع النازية إلى مسألة نسبية من خلال أنسنتها، وهو الأمر الذي قد يهون منها لحد الابتذال، كما يهون من الشخصية نفسها، وقد يجعل دوافعها قريبة على الفهم، إن مسألة نسبية الشر من خلال إضفاء الطابع الشخصاني عليها، تعود لتفرض نفسها كتفسير للنازية في أفلام أخرى كفيلمي الموجة والخط الأبيض.
النازيون الجدد والخروج إلى النور
لم يكن النازيون الجدد بعيدون عن التناول السينمائي ولكن ليس في ألمانيا، التي اقتصر الأمر في سينماها على تلميحات هنا وهناك عن أن النازية التي نعرفها لم تمت، حتى بدأ ديفيد ويندت يقتحم عوالمهم ويصرح بوجودهم في كل مكان في المجتمع، لا كأحزاب سياسية فقط، ولكن في عموم المجتمع الألماني العادي غير المؤدلج.
لا يقتصر الأمر فقط على انظروا من عاد، فيلمه المقاتلة 2011 يقدم سيرة فتاة تنحدر أسرتها من ألمانيا الشرقية، تنضم لعضوية تنظيم سري للنازيين الجدد بسبب تأثرها بأفكار جدها الجندي النازي الذي لم يخضع للإصلاح، لنتعرف على يوميات تلك التنظيمات النازية وأسلوب تفاعلها مع المجتمع وتعاطيها لواقعه السياسي، ويركز ويندت على رؤية مفادها أن الفقر والبطالة التي يعانيها المجتمع الألماني المهمش في الريف الشرقي، قادرة دومًا على إنتاج شباب متحمس كاره للغير من المهاجرين، الذين يرى فيهم أنهم قد استولوا على فرصه في الحياة.
الإعلان التشويقي لفيلم المقاتلة
يقدم الاتجاه الحديث في السينما الألمانية في التعرض للنازية بشكلها الجديد تأكيداً على قدرة التصالح مع الماضي، وتقديم وجهات نظر واقعية بشأن التعامل مع النازية الجديدة المستمرة في المجتمع حتى اليوم.
رغم أن الأفلام التي تنطوي على محتوى يتعلق بالنازية الجديدة قد تجعل جمهورها يشعر بأن ذلك غير مريح لمحاولة السينمائيين أن يأنسنوا الأشرار دون الحكم عليهم، حيث إنها تتهم بمغازلة مشاعر اليمين المتشدد أحياناً من خلال نزع الشر بشكله المطلق عن الأشخاص.