تغري الكتابة السياسية بالانحياز، وخصوصًا الكتابة عن أشخاص أثروا بهذا القدر أو ذاك في التاريخ، لهذا اعتدت قراءة هذا النوع من الكتب بكامل يقظتي وقدرتي على الفرز.
ومع كتاب مجاهد البوسيفي دولة الخيمة.. سيرة سياسية للقذافي كان الانتباه مضاعفًا؛ فالعقيد بسيرته المثيرة للجدل يغري بنوازع الانتقام، يُغري بالتنكيت على ارتجالاته السياسية الخرقاء، وأزيائه الخرافية في سنوات حكمه الأخيرة التي تجمع بين خطوط من العسكرية والبدوية، والذكورة والأنوثة، لكنني من الصفحات الأولى للكتاب وجدت أن حذري في غير محله، وأنني بصدد كتابة متسامحة، ذكية، تنظر إلى الأمام وتمنح قارئها تفسيرًا لما يحدث الآن وإشارات إلى المستقبل، على الرغم من أن موضوعها هو النظر إلى الماضي.
الكتاب الصادر مؤخرًا عن ثلاث دور نشر منشورات ضفاف- بيروت، ومنشورات الاختلافـ الجزائر، وبيت الحكمةـ القاهرة، يُحول التاريخ إلى رواية ممتعة، وأعني المتعة الفنية ولذة القراءة؛ فرغم أن الوقائع ليست سوى رواية ديستوبيا قاتمة، لم تتخل اللغة الأدبية عن الكاتب على مدار 328 صفحة.
كنت اعتدت الإشادة مرارًا بقدرة القذافي المريرة على تحويل دولة نفطية مترامية الأطراف محدودة السكان إلى شائعة. كان العقيد يتعاظم وتتوالد ألقابه التي صارت معقدة ومربكة بينما تختفي ليبيا من الواقع، لسنوات قبل السقوط لم ير غير الليبي من ليبيا سوى العقيد في زيه البهلواني بين حارساته اللائي يعدن أساطير المحاربات الأمازونيات.
المعنى ذاته؛ معنى تعاظم الزعيم واختفاء الدولة يأتي عليه البوسيفي بهدوء، وربما كان وعيه بهذه القضية وراء قراره بدء كتابه بفصل عن ليبيا ما قبل القذافي، كنوع من تثبيت وجود تلك الأرض التي استوطنها إلى جانب سكانها الأصليين الرومان والإغريق وعرب الجزيرة والأتراك واليهود والكريتيون والمالطيون والأندلسيون وخلطة من التجار والمغامرين، قبل أن يبدأ حكم العثمانيين الذين طردوا فرسان القديس يوحنا عام 1551 ويستمر لنحو ثلاثة قرون ونصف تتخللها حقبة القره مانليين وهم عائلة انكشارية من آسيا الوسطى، عندما انقلب أحمد باشا القره مانلي على الوالي العثماني عام 1805 وأسس لحكم أسرته بإقرار من السلطان العثماني بعاصمة الخلافة.
بعد ذلك كان تأسيس السنوسية المنحدرة من الجزيرة العربية، من قريش وينتهي نسبها إلى الإمام علي بن أبي طالب. جاء السنوسي الكبير، محمد بن علي السنوسي، من تلمسان الجزائر بدعوته الصوفية إلى واحة جغبوب وتمددت دعوته في الشرق الليبي، وقاد المقاومة عندما تخلت الإمبراطورية المريضة عن ليبيا إثر توقيع معاهدة لوزان عام 1911. وكان إدريس السنوسي أول ملك لليبيا التي نعرفها اليوم عام 1951 بتصويت في الأمم المتحدة.
أظهر الملك في فترته الأولى قدرات كبيرة في لم شمل الليبيين والوقوف في وجه البؤس الذي ترزح تحته بعد إنهاك طويل، وظهر براح معقول لحرية التجارة والصحافة، وكان لهذه الدولة أن تكون ذات شأن بشرطين: أن يكون الملك قويًا وأن تكون المملكة بلا جيران.
هبَّت رياح التغيير من الشرق، بعد ظهور عبد الناصر بأحلامه القومية المغرية، في وقت كان الملك قد مال فيه إلى الزهد والابتعاد عن شؤون الحكم؛ وبدأ تنظيم بين الضباط على غرار تنظيم الضباط الأحرار في مصر، وبدأ الضباط الوحدويون يجوبون الزوايا والمعسكرات لتجنيد الأنصار، يقودهم ملازم أول نحيف معروف بالحياء والورع اسمه معمر القذافي.
لم يصبح التغيير في ليبيا حتميًا في سنوات مد القومية، بل مع انكسارها، لم تترك النكسة لعبد الناصر من وسائل تعويض أسهل من الالتفات إلى ليبيا والسودان.
في صيف 1969 ترك الملك كل شيء وراءه وسافر في رحلة استشفاء في اليونان ومع أخبار الإهانات التي تعرض لها اسمه استدعى رئيسي مجلس النواب والشيوخ وطلب منهما رسميًا عدم الرغبة في الاستمرار ملكًا. وبعد ذلك بأيام نُفذَّ الانقلاب، وعندما ذهب محمد حسنين هيكل مبعوثًا خاصًا من عبد الناصر لاستطلاع الموقف سأل عن قائد الانقلاب عبد العزيز الشلحي فأخبروه بأنه في السجن والقائد هو ذلك الشاب النحيل، وعاد إلى رئيسه يخبره بأن من قاموا بالثورة في ليبيا مجموعة شباب "في منتهى البراءة".
القومية المسلحة تتصارع
ومثلما عاد البوسيفي إلى الوراء لمعرفة وضع ليبيا قبل القذافي، فإنه ينظر إلى الجغرافيا العربية بعين صقر، فلا يتناول ما جرى في ليبيا بمعزل عن المحيط العربي، بل بوصفها سفينة تتأرجح في بحر السياسة العربية الصاخب، بصراع متعدد الأطراف؛ فهناك حرب تكسير العظام بين الملكيات وبين الدول التي تحولت إلى جمهوريات بانقلابات مسلحة متبنية خطاب القومية العربية، وحرب أخرى تدور بين هؤلاء العسكر الذين يرفعون شعار القومية ويتنافسون على زعامة هذا التيار فيما بينهم.
لم تختلف ثورة ليبيا عن غيرها إلا في درجة الهول وطول المدة التي لزمت للتحلل والسقوط. لم تسلم من التنافس بين قادتها في البداية، ولم تعف في النهاية عن التحول إلى جمهورية- ملكية، أو جملوكية، إذ أعد القذافي أبناءه لوراثته كما فعل صدام والأسد ومبارك إلخ.
يضعنا تشابه المصائر ليس أمام حزن مآلات الدول فحسب، بل الحزن على حظ الفكرة القومية العثر الذي جعلها تولد جبرًا تحت تهديد السلاح.
فور أن نفَّذ ضباط ليبيا انقلابهم تداعى عليها الجزائريون والعراقيون وحتى السودانيين الذين سبقت ثورتهم ثورة ليبيا بأشهر معدودة من أجل السيطرة، لكن قدم عبد الناصر كانت أرسخ، وذهب مبعوثه فتحي الديب رئيس المكتب العربي بالرئاسة ورئيس المهام الأمنية الحساسة ليرتب كل شيء لـ "الشباب الأبرياء" بصلاحيات عبد الناصر نفسه في ليبيا.
كانت ثورة ليبيا واحدة من ثلاث ثورات قامت في عام واحد حملت بصمات ثورة يوليو في مصر، وكأنها نسخ صينية مقلدة، وكانت بمثابة الأخبار الطيبة للأسد الجريح، وكان لديه من الأسباب ما يجعله يعطي الثورة الليبية اهتمامًا خاصًا، فوق ثورتي السودان والصومال، وبينها أن أصحاب الثورة أنفسهم بايعوه على السمع والطاعة بشكل طفولي بريء، لكنه سيعاني لاحقًا من اندفاع هؤلاء الأبرياء.
اقترح عبد الناصر تشكيل مجلس ثورة، ونصح بارتداء القذافي رتبة أعلى مقنعة، لكن مجلس قيادة الثورة لم يكن يملك خططًا لأبعد من يوم الانقلاب، واختلط الداخل بالخارج في الجدل بينهم، بل إن المشروع الداخلي لم يكن له وجود، لأن عبد الناصر وأفكاره كانا شأنًا محليًا في كل البلدان العربية بما في ذلك التي يسميها بالرجعية.
كان الضباط الليبيون يقضون وقتهم في اجتماعات ماراثونية يتنازعون فيها فرص الكلام، وأفضى هذا إلى تنافس هيستيري وصل إلى حد أن سحب العقيد رشاشه وهدد زملاءه مباشرة. وفي هذه الأثناء كان رجل ناصر يعمل بفاعلية كبيرة لتأمين السلع وكسب أنصار للثورة بين المدنيين. وأخذ القذافي يتقدم رفاقه بنقلات مهمة قام بها، مثل إخراج القواعد الأجنبية وطرد الجالية الإيطالية، وبدأ يلح على إلغاء ثقافة العهد البائد، وفتح الباب على مصراعيه للتجريف الثقافي والعرقي، فنال رضا الجماهير في جو من الهياج الثوري.
يصف البوسيفي اللقاء بين ناصر والقذافي بأنه بدأ في الوقت الخطأ وانتهى في الوقت الخطأ. عام واحد عاشه ناصر بعد الثورة الليبية ولم يكن وجود القذافي إلى جواره عونًًا. ثوري شاب بدأ للتو، وآخر ختم سفر الثورة وركن للعقل. وكم عانى من الإحراجات التي يسببها له. أول قمة حضراها معًا كانت في العاصمة المغربية الرباط، ورأى الحاضرون القذافي وهو يسرع لعبد الناصر راجيًا إياه بصوت عال الانسحاب لأنهما محاطان بالرجعييين المتآمرين، وبالكاد استطاع الزعيم تهدئة ابنه الروحي. ثم برحيله السريع ترك التلميذ لمصيره.
ابن مَن؟
يعرف الكثيرون أثر عبد الناصر على القذافي، لكنه ليس الأب الوحيد، بل يشاركه فيه بدرجة كبيرة الكاتب الصادق النيهوم وماوتسي تونج.
عرف القارئ العربي الكاتب الليبي الصادق النيهوم في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي حائزًا لقبًا فخمًا "المفكر الإسلامي" بفضل أفكاره الصادمة في هذا الشأن، لكن ذلك لم يكن سوى تخصص جديد ومهرب لقلم النيهوم الحيوي الغاضب بعد أن ضاقت ليبيا بزعيمين.
يرى البوسيفي أن ما ذكره في كتابه عن علاقة الرجلين طوال أربعين عامًا بحاجة إلى باحثين، أكثر من مروره العابر، لكنه في الحقيقة تمكن من إضاءة هذه العلاقة في إطار تشابكات خيوط دولة الخيمة.
وقت قيام الثورة كان النيهوم قد رسَّخ اسمه بوصفه الكاتب رقم واحد في ليبيا، حتى أن من يحصل على نسخة من جريدة الحقيقة يوم الثلاثاء موعد نشر مقال النيهوم يعتبر نفسه محظوظًا. وصل إلى تلك المكانة بعد تجربة عريضة من القراءة والسفر لكنه احتفظ بمحليته، والتقط ببراعة لحظة لقاء البدو والحضر في المدينة التي بدأت تتوسع، بما في ذلك من مفارقات وحملت كتابته طابعًا من سخرية فن الكاريكاتير. وإلى جانب ذلك فهو متحدث لبق يمكنه مواصلة الحديث لساعات، وفي مظهره أقرب إلى الهيبي بشعر أجعد كثيف وسروال جينز على قبقاب هولندي، وكان شديد الاعتزاز بنفسه، حتى أنه يسمي نفسه بين معارفه بـ "الملك" وكان لابد من لقاء مع القذافي، ولم يأخذ الأمر وقتًا حتى اقتنع النيهوم بأن ليبيا لا تتسع للملك والزعيم معًا فخرج إلى سويسرا في صيغة عدم الاعتداء التي شملت آخرين مثل إبراهيم الكوني وأحمد الفقيه الذي أخفق أحيانًا في الحفاظ على مظهر الحياد.
بعد ذلك سيبتلع العقيد سمات الكاتب الغائب: الشعر المنكوش والأزياء الغريبة والحديث المسترسل بأفكار النيهوم الأساسية، إلى حد أن شخصية التاجر المستغل الحاج أعمر التي كان يحب أن يعرضها على السبورة أمام الجماهير كانت استنساخًا لتاجر النيهوم الحاج الزرّوق.
وستوحي إليه أفكار النيهوم فوق ذلك بالعودة إلى الأصالة التي ستتجلى أخيرًا في الخيمة التي ينصبها أينما حل، لتصبح مقرًا للحكم.
بعد ناصر والنيهوم، تصادف أن يجد القذافي أباه الروحي الثالث في الصين. كان ماو في السبعينيات حديث العالم باعتباره نبي اليسار الجديد، تحظى أخبار ثورته الثقافية برواج كبير عند يساريي العالم العربي، ويجر خلفه قاطرة طويلة من الألقاب، يتمتع بذكاء فطري يتوفر للعقيد قدر جيد منه، أما أكبر مواهبه فهي هو قدرته الهائلة على توليد الثورات التي مكنته من التخلص من كل خصومه.
ثورة من المهد إلى اللحد
من المشاهد الأخيرة التي أتذكرها للعقيد قبل أن يلقى مصيره في حفرة، وربما كان المشهد الأخير على الإطلاق، عندما ظهر في عربة مكشوفة في زيه العابر للجنس حاملاً مظلة في باب العزيزية هاتفًا في مواجهة الثورة عليه: ثورة، ثورة.
لو عاش بازوليني حتى عام 2011 ربما لم يكن ليبدع مشهدًا كهذا في فيلم غرائبي عن القذافي. وإذا ما سلَّمنا بصوابية تحليل مجاهد البوسيفي لمصادر تكوين القذافي؛ فقد تجلت في ذلك المشهد الأخير استعراضية النيهوم في صناعة اللقطة وقدرة ماو على توليد الثورات، لكن دعوته للثورة لم تعمل في اللحظة الأخيرة بالطبع، بعد أن عملت بكفاءة على مدار حكمه الطويل، وكانت كلمة السر التي استخدمها القذافي في إسكات الطلاب وقوى المجتمع المدني، كما ساعدته على التخلص من كل خصومه في مجلس قيادة الثورة دفعة واحدة.
لحظة مرعبة، يرويها البوسيفي، على وجهين، ما حدث في الأعلى وانعكاسه الذي رآه بعين طفل في قرية نائية.
في بدايات العام 1973 كانت الأمور داخل مجلس قيادة الثورة قد وصلت للتأزم، استخدم القذافي كل تكتيكاته بما فيها "الزعل" والاعتكاف، وكان قد بدأ يعمل خارجيًا بشكل منفرد بعد موت الأب، داسًا أنفه في الانقلابات وأحداث عربية، ورغم أن القرارات تصدر باسم مجلس قيادة الثورة إلا أن الجميع يعرف أنها أفعال فرد بدأ يضيق بفرق السرعات مع رفاقه. وفي الوقت ذاته كانوا يرون أنه يسعى لتهميشهم، واتفقوا جميعًا على الحديث معه وفي جلسة ماراثونية اكتشف أن الجميع ضده بمن فيهم صديقه المقرب عبد السلام جلود.
ورأوا أن يمسكوا بزمام المبادرة ويطلبوا منه الاستقالة علنًا أمام الشعب، على اعتبار أنهم غير منتخبين ولا يصح أن يقدم الاستقالة إليهم، وبينما ينتظرون اللحظة كان يُظهر الصبر على ظلم الرفاق. وجاءت الفرصة في احتفال المولد النبوي الذي سيقام بمدينة زوارة على الشاطئ الغربي، وكانت شعبيته في عزها.
ظهر على المنصة المزدحمة كمثقف متمرد، ولكن أنيق على الطريقة الإيطالية الشائعة في ليبيا في ذلك الوقت، وألقى خطبة حماسية عن القومية العربية المهددة وتحرير فلسطين، ومن هذا انتقل إلى آمال بناء البيوت وتحويل الأرض الصحراوية إلى زراعية لتحقيق الاكتفاء، وأن كل ذلك يستلزم البدء من جديد، وقرأ خمس مهام يجب القيام بها: تعطيل القوانين المعمول بها فورًا. القضاء على الحزبيين وأعداء الثورة. إعلان الثورة الثقافية، والثورة الإدارية، والثورة الشعبية.
في كل الثورات تنتهي الثورة من أعدائها ثم تبدأ في أكل أبنائها. لكن الطريقة المعتادة في تصفية الرفاق تتم دون المساس بأسس اللعبة، لكن العقيد ألغى الدولة تمامًا ليتخلص من خصومه.
وقبل أن ينتهي من خطابه كانت قوات الأمن قد بدأت بحملة اعتقالات واسعة، وتم بعد ذلك الإعلان عن ضرورة تشكيل اللجان الشعبية التي ستفرض سلطة الشعب. ويروي البوسيفي انعكاس ذلك في قريته التي تنتمي كلها تقريبًا لجد واحد وتحل أكبر مشاكلها على مائدة عشاء "لأول مرة أشاهد أهل قريتي القصية وقد انتظموا في صفين على حافة السوق وبدأوا في رمي بعضهم بالحجارة في حماس شديد لحسم معركة ختيار أعضاء اللجنة الشعبية الخاصة بالقرية".
انطلقت نوازع العنف إلى أقصاها في ظل تعطيل البنية القائمة وعدم وجود البديل، وأصبحت الجامعة ومؤسسات الدولة هدفًا لهجوم موجات متوالية من الشعب الذي يريد القبض على أعداء الثورة ولم تسلم الكتب من التنكيل باعتبارها أفكارًا من عهد بائد. واستمر الهياج حتى العام التالي عندما بدأ العقيد في استخدام سلطته لتهدئة الفوضى، وخرج بكل الجوائز بعد أن تغلب على الخصوم وألغى الدولة.
كان من أول اقتراحات فتحي الديب ممثل عبد الناصر إنشاء تنظيم شعبي مساند للثورة. وأعجب القذافي بالاقتراح وطلب تصورًا مكتوبًا قدَّمه الديب بالفعل، ويقوم على مسارين: الاتصال بالعناصر الشعبية المتحمسة وفي مقدمتها الطلاب والعمال، والتنظيم الثاني سري لاختيار الكوادر التنظيمية من المخلصين، ويكون العقيد مركز التنظيم. وتحول هذا الإجراء إلى فن يقوم على الفك والتركيب للجماعات الشعبية بصفة دائمة وفق معادلة شريرة تمنعها من التقدم للأمام.
المفكر ونقاده
بعد أن صفا الجو في العام 1976، اعتكف القذافي في هواء قرية جندوبة النقي ليكتب خواطره "لقد بات على بعد خطوة من النبوة، إذ لا يمكن أن تقام أمة جديدة على الأرض دون كتاب يجمعها كما يخبرنا التاريخ".
وفي ظلال الكتاب الأخضر، ستتواصل مسيرة القذافي الخرافية من التدخلات في الدول العربية، ثم الانعطاف نحو أفريقيا دون أن تتوقف الثورات المتتالية، حتى قام بثورة على الجيش ذاته مسلحًا مرتزقة وميلشيات شعبية. ويبدأ الأفول بالهوان في تشاد والقصف الأمريكي لبيت العقيد في سرت، وفي أعقابه سيعلن اكتشافه الباهر بأن دين الغرب هو المال، ليبدأ في توزيع الرشاوى هنا وهناك وتمويل الحملات الانتخابية، بينما تترقى ليبيا في مدارج البؤس والخوف.
وفي الأثناء يتحول البلد إلى طاحونة كلام، في مؤتمرات ينتهي أحدها ليبدأ الآخر لمناقشة فكر العقيد ومباركة غراباته، وكان للمثقفين والمهنيين العرب الذين يُحملون من المطار إلى منصات المؤتمرات نصيب في منحه الاعتراف، من خلال شهادات لا يستهان بها لصدورها عن أسماء لطالما مثَّلت المقاومة في بلادها.
يلمس الكاتب جرح "المعارضة بالقطاعي" إذ لا يرفض المثقف الاستبداد من حيث المبدأ بل يعادي مستبدًا محددًا؛ وربما يلجأ إلى دولة عربية أخرى ويعيش لاجئًا لدى ديكتاتور أشنع من ذلك الذي يعارضه. ولهذا كان هتاف الكثير من المثقفين "ثورة، ثورة" لحظة الربيع العربي على ذات الدرجة من البؤس مع هتاف العقيد في توكتوك باب العزيزية.