بعد أسابيع قليلة تنهي روبي سنواتها الأربعين وتحل ضيفةً على عقدها الخامس. هكذا مرت السنوات سريعًا؛ عشرون عامًا أو يزيد، على انطلاقة "لوليتا" الأغنية المصرية، التي أغوت أجيالًا، وأغضبت أجيالًا، وأثارت الرغبات واللعنات بأغنياتها ورقصاتها، التي تبدو اليوم محمَّلةً بالنوستالجيا والمشاعر اللطيفة.
في واحدة من ظهوراتها الاعلامية النادرة منذ عدة سنوات من برنامج صاحبة السعادة، استضافت المذيعة إسعاد يونس روبي لتتحدث عن تجربتها. للمرة الأولى تحدثت روبي بشكل مطول ومفصل عن طفولتها وحياتها، عن انطوائيتها، وجدها حافظ القرآن، وعشقها للغة العربية، وبداياتها المتعثرة. بدت كفتاة مصرية عادية من حي شعبي تنتمي للطبقة الوسطى. مفرداتها ولهجتها وإيماءاتها وآراؤها تنتمي لهذه الطبقة، والهالة الأسطورية التي كانت تحيط بها في فترة من الفترات كإلهة للجنس قادمة من كوكب آخر، بدت وهمًا من صنع الناظرين، لا علاقة لها بالصورة الحقيقية لتلك الفتاة البسيطة اللطيفة.
في البرنامج بدت روبي مختلفة تمامًا عن الصورة التي صنعتها "كليباتها" المثيرة في بداية الألفية؛ خجولة، مهذبة، ومتواضعة، بكت أكثر من مرة، وعندما شرعت في غناء بعض أغانيها القديمة، غنتها بأداءٍ مختلف، وكانت ترتدي "فستانًا" أسود محتشمًا، من فساتين الخمسينيات. عشرون عامًا حوّلت روبي إلى "أيقونة" من الماضي الذهبي.
راحت الإثارة، وراح الغضب، وحل محلهما حنين وعطف الزمن.
منذ 15 عامًا تعرضت روبي لهجمة شرسة هدفت إلى القضاء على أنوثتها الطاغية المستفزة وصلت إلى قاعات البرلمان، وساحات القضاء، ووصلت إلى إلغاء عضويتها في نقابة الموسيقيين. تركت الغناء فجأة، واختفت، وتزوجت وأنجبت وقضت سنوات في صراعات زوجية، وطلقت. اكتفت بالتمثيل في بعض الأفلام والمسلسلات وأظهرت نضجًا ملحوظًا في أدائها وتنوع أدوارها.
ولكن مرت السنوات، وها هي الفتاة الصغيرة المثيرة تصبح اليوم امرأة ناضجة في الأربعين.
تحولات امرأة
قبل ثلاثة أشهر من عيد ميلادها الأربعين الذي يحل في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، وبعد 14 عامًا على صدور أحدث ألبوم غنائي لها، عادت المراهقة ذات الصوت الغنج، والجسد غير المروض، لتلهب خيال عشاقها، وسخط أعدائها، بمجموعة من الأغاني الجديدة، تحمل من شقاوتها القديمة آثارًا، ومن شقاء العمر ندوبًا، لم يكن ليتخيل أحد، منذ عشرين عامًا، أن تمر بها "المراهقة الأبدية".
وسائل الإعلام التي اعتادت أن تلعنها أيامًا، تصفها اليوم بأنها السمراء ذات العيون الفرعونية، صاحبة الجمال المصري الأصيل، التي تجيد التمثيل والغناء. ومواقع التواصل الاجتماعي التي كانت ظاهرة جديدة منذ عشرين عامًا، ومنصة يكاد يحتكرها المتطرفون الدينيون، تمتلئ اليوم بأجيال ليبرالية، يردون الصاع صاعين، ويدافعون عن البيكيني والفستان وروبي.
الذين طاردوها بالدعاوى القضائية، وتسببوا في "شطب" عضويتها من نقابة الموسيقيين، وقدموا الاستجوابات فيها على منصة البرلمان، لم يستطعوا أن يدفنوا أنوثتها، أو يمنعوها من العودة للتألق وابهار الملايين. اليوم تقف روبي منتصرة على كل من شكك في هذه موهبتها يومًا.
بعد مجموعة من الإعلانات التليفزيونية العابرة ظهرت روبي على شاشة السينما لأول مرة في دور قصير في فيلم فيلم ثقافي (إخراج محمد أمين، 2000)، تحت اسم رانيا حسين. لكن مولدها الحقيقي كان منذ عشرين عامًا بالضبط في فيلم سكوت هنصور (إخراج يوسف شاهين، 2001)، وهو الذي منحها اسم روبي، حيث لعبت دور ابنة المطربة لطيفة، المراهقة المتحررة، تلك الشخصية التي ترددت في أعمال يوسف شاهين مثل حبيبة التي أدت دور فاطمة في العصفور وماجدة الرومي التي أدت دور تفيدة في عودة الابن الضال ونهى العمروسي التي لعبت دور جميلة في حدوتة مصرية وحنان ترك بدوريها في المهاجر والمصير.
كانت نقطة التحول الثانية في حياة روبي على يد المخرج والمنتج شريف صبري، الذي حولها إلى مغنية وقنبلة اغراء، من خلال عدد من الأغاني المصورة (فيديو كليب). شهدت بداية الألفية الثالثة العصر الذهبي للفيديو كليب على الفضائيات، قبل أن تستولي مواقع الانترنت على الفضاء الغنائي، وفي إطار التنافس الإنتاجي من ناحية، وتعبيرًا عن الشعور بالتحرر المصاحب للفضائيات المستقلة غير التابعة للحكومات ولظهور الإنترنت، شهدت هذه الفترة الكثير من الأغنيات والكليبات "المثيرة جنسيًا"، ولكن معظمها كانت لمغنيات عربيات مثل نانسي عجرم، ماريا ، نانا، نجلاء، ميريام فارس، وغيرهن. لكن روبي غطت على كل هذه الأسماء، بأنوثتها الطبيعية وملامحها المصرية واسلوب شريف صبري الجريء في إظهار مفاتنها واستغلال بحة صوتها وأدائها ذي الدلال.
أنوثة روبي في الأغاني التي صنعت شهرتها وسمعتها كنجمة إغراء تختلف كثيرًا عن أنوثة معظم نساء الفيديو كليب اللواتي ظهرن في تلك الفترة باستثناء نانسي عجرم، ربما. أنوثة هؤلاء المطربات سافرة، مباحة، وغوايتهن تشبه بشكل ما غواية الغانيات اللواتي يدعين الرجال للدخول إلى مخادعهن، حتى ماريا المراهقة صاحبة أغنية العب بدت مبتذلة وبورنوجرافية، وفي أغانيها اللاحقة بدت وكأنها قد فقدت بقية البراءة التي كانت لم تزل تتمتع بها في أغنيتها الأولى. نانا صاحبة أغنية كلن بدن طاردتها كليبات فضائحية، ونجلاء صاحبة أغنية الحصان اختفت بعد أغنية أو اثنتين أخريين. ميريام فارس أيضًا لم تنجح في الاستمرار سوى لعدة سنوات بعد أن انتهت فترة صلاحية شهرة أنوثتها، دون أن تستغلها في الانتقال إلى محطة جديدة.
روبي ونانسي بدتا أكثر إشراقًا وأنوثة، وأكثر براءة، "لوليتاتان" يصعب الوصول إليهما، مستغرقتان في أنوثتهما كما لو كانتا مكتفيتان بها، والرجال لا يملكون الدخول إلى عالمهما، كما لو كانتا صعبتي المنال. من المدهش مثلًا في كليب أغنية أنت عارف ليه أن روبي كانت تسير ببدلة الرقص الشرقي نصف عارية في إحدى المدن الأوروبية وسط الزحام، ولا أحد من المارة يبالي.
روبي تحديدًا بدت بعيدة جدًا، ربما بسبب ميلها الشخصي إلى الانطواء الذي يظهر في عينيها مهما حاولت أن تتواصل مع الكاميرا. هذا الاستعصاء على الوصول إليها ساعد غالبًا في تجسيم أسطورتها، لدرجة أنها أصبحت حلمًا لآلاف الفتيات اللواتي أردن تقليدها، وهناك فيلم وثائقي حمل نفس اسم الأغنية؛ أنت عارف ليه، للمخرجة سلمى الطرزي يرصد هذه الظاهرة.
بقدر ما ساهم شريف صبري في صناعة نجومية روبي، بقدر ما ساهم في عزلتها باحتكاره لها، ووضعها داخل صندوق زجاجي ساهم في صنعه ميلها الفطري للبعد عن الأضواء وخجلها من الظهور الاعلامي والاجتماعي.
بعد انفصالها عن شريف صبري، تزوجت روبي من المخرج سامح عبد العزيز وانجبت ابنتها الوحيدة، وبعد زواج استمر لسنوات تخللته العديد من المشاكل انتهت بطلاق في المحكمة 2015، استطاعت روبي أن تدخل مرحلة عمرية وفنية جديدة عن طريق موهبتها التمثيلية. يمكننا القول إن هذه المرحلة بدأت بدورها في مسلسلي بدون ذكر أسماء (إخراج تامر محسن، 2013) الذي لعبت فيه دور فتاة من حي شعبي تضطرها الظروف لترك الحي والعمل كراقصة، ومسلسل سجن النساء (إخراج كاملة أبو ذكري، 2014) وأدت فيه دور فتاة ريفية تعمل خادمة في القاهرة وتقوم بحرق مخدومتها بسبب المعاملة السيئة التي تتعرض لها، وقد أدت الدور بإجادة ملحوظة.
خلال السنوات الأخيرة شاركت روبي في عدة أعمال تليفزيونية وسينمائية، مثل مسلسل "أهو دا اللي صار" مع المخرج السوري الراحل حاتم علي، وفيلمي "الكنز" مع المخرج شريف عرفة، وتظهر هذه الأدوار تطورا متزايدا في امكانياتها التمثيلية والخبرة الحياتية التي تمنحها للشخصيات التي تؤديها. وكما لو أنها تحاول نسخ صورتها القديمة ظهرت أيضا في أحد البرامج الكوميديةوهو SNL بالعربي، لتقدم محاكاة ساخرة لنفسها، ولنجمة اليوتيوب الأمريكية كيم كارداشيان، خاصة في شهرتهما القائمة على حجم المؤخرة (موضوع الاستجواب الذي شهده مجلس الشعب 2010 وانتهى بقرار بمنع بث أغانيها على الفضائيات المصرية، وقد شهد البرلمان الكويتي بعدها جدلا مماثلًا عن مؤخرات روبي وميريام فارس ومغنيات أخريات).
"واحدة جديدة"
صحيح أنها في الأربعين، أو تكاد، لكن شعبيتها بين الشباب لم تزل هائلة. منذ حوالي عشرين عامًا كانت تنحصر معظم شعبيتها بين الرجال، إذ كانت محط استياء وغيرة معظم النساء، خاصة الزوجات، لكنها الآن تحظى بشعبية أكبر بين النساء، ربما أكثر حتى من الرجال. هكذا تشير التعليقات على يوتيوب ومواقع التواصل على أغاني ألبومها الجديد التي تحقق ملايين المشاهدات. ولعل روبي تدرك ذلك بوعي أو بالفطرة، فأغاني ألبومها الجديد تتوجه بالأساس إلى النساء.
من بين أربع أغنيات تم بثها على اليوتيوب حتى الآن حتة تانية، قلبي بلاستيك، أنا لو زعلانة، وواحدة جديدة يمكن أن نلمس حجم التغيّر الذي حدث في صوتها وإحساسها ونوع الكلمات التي تتغنى بها والألحان التي تلائم مزاجها الجديد. في الأغنيتين الأخيرتين تحديدًا، اللتين صورتا بطريقة الفيديو كليب، هناك نمط مختلف كلية عن أغانيها القديمة. تتحدث الأغنيتان عن حب انتهى، وسنوات ضاعت، وحبيب غادر، وعن امرأة قوية تولد من تحت الرماد.
على لحن هادئ وبأداء طبيعي يخلو من الغنج والشقاوة ويميل للحزن تقول روبي في أغنية أنا لو زعلانة:
"أنا لو زعلانة.. زعلانة على وقتي اللي معاك ضيعته
على قلبي اللي بإيده وجعته
على ثقتي في نفسي اللي اتهزت 100 مرة معاك
أيوة أنا غلطانة بأمانة
كان لازم تيجي مني من الأول
أنا ليه سيبت الوقت يطول
مش كنت أنا أولى بكل دقيقة ضاعت وياك
ويا عم بسيطة بالتوفيق ألف سلامة
الروح في إيدين اللي خالقها وأنا لسه بعيش
ويا عم بسيطة منك في الدنيا دي ياما
أنا بس اللي مكنتش شايفة وكان في تشويش"
كلمات أليق بشيرين عبد الوهاب أو إليسا أو سميرة سعيد، يصعب أن نتوقعها من روبي، التي كانت تتعامل مع الحب كلعبة مرحة في أغانيها القديمة الشهيرة مثل أنت عارف ليه أو ليه بيداري كده أو كل ما أقوله آه.
كلمات ومشاعر مشابهة نجدها في أغنية واحدة جديدة التي تقول فيها:
"امتى وازاي وليه
كل دا حصل؟
امتى نوري اتطفي
امتى قلبي اتكسر؟"
يبدأ الكليب المصاحب للأغنية بامرأة متوسطة العمر تبكي، ثم تقوم بجمع بعض أشياء رجل، واضح أنه كان زوجها، صور وسيجار لم يستخدم وأشياء أخرى تقوم بجمعها وحرقها. تدخل عليها ابنتها فتخفي دموعها وتصحبها للخروج. تجلس في حديقة عامة حزينة وابنتها تلعب من حولها. يظهر النجم ماجد الكدواني الذي لعب شخصية أستاذ التنمية البشرية في فيلم هيبتا، واختياره يظهر أي نمط من الرجال يناسب روبي الجديدة، وهو يقرأ في كتاب شهير بالنسبة للنسويات والنساء الباحثات عن القوة هو نساء يركضن مع الذئاب للمؤلفة كلاريسا بينكولا أيتس، الذي يحمل عنوانا فرعيًا الاتصال بقوى المرأة الوحشية، وهو كتاب في الأنثروبولجي تحول إلى درس في التنمية البشرية للنساء الباحثات عن التمكين Empowerment.
يشاهد روبي الحزينة تقرأ، فيترك لها الكتاب وداخله رسالة صغيرة؛ "من أراد استطاع"، عندما تقرأها روبي تبدأ في التحول إلى امرأة أخرى أقوى، تغني:
"أنا واحدة جديدة
كأن غمامة كانت على عيني وشلتها شفت حياة
مابقتش وحيدة
علشان بطلت أعيش بستنى، بقيت حرة"
ومرة أخرى يطالعنا الرقم 100، ولكن بشكل مختلف. بدلا من "ثقتي اللي اتهزت 100 مرة" تقول كلمات أغنية واحدة جديدة "لو ع التغيير أنا جاهزة أتغير 100 مرة".
تتأكد فكرة النضج من خلال القراءة عبر بقية الأغنية، في صور لاحقة نرى روبي تسحب من مجمعة كتب على المكتب رواية لوكندة بير الوطاويط وكتاب رجل شرقي منقرض للدكتور محمد طه، وهو كتاب في علم النفس بمفهوم كتب التنمية البشرية مكتوب بالعامية، يناقش صفات الرجل الشرقي السلبية وكيف عليه أن يقوم بتغييرها.
عودة "الدلوعة"
بجانب هذه الأغاني "المتألمة" التي تضج بالشكوى من الرجال وخياناتهم وطباعهم، يضم الألبوم أغنيات أخرى تحمل رائحة روبي القديمة، الشقية، أداءً ولحنًا، ولكن الكلمات تظل تتحدث عن وهم الحب وضرورة النضج.
تقول كلمات أغنية قلبي بلاستيك التي تحقق ملايين المشاهدات على اليوتيوب حاليا وتحتل المركز الثاني بعد أغنية واحدة جديدة:
"مش هحب تاني أيوه تاني.. قلبي بلاستيك
أصله أناني آه آذاني وطلع فستك
خد فرحتي وحناني ودنيتي راح حب صاحبتي وطلع فستك
آه منك صنف خاين وبتاع حركات كل اللي اتخان معايا يعمل لايكات"
هي امرأة في الأربعين، نعم، تتحدث عن الحب الضائع والحبيب الغادر نعم، ولكن بمفردات الجيل الجديد الذي يعيش ويعشق ويهجر على مواقع التواصل الاجتماعي ويوتيوب.
ربما تكون أكثر أغنية ترتبط بروبي القديمة هي حتة تانية التي تحمل عنوان الألبوم الجديد، وهي أغنية مرحة لحنًا وأداءً ومضمونها أكثر تفاؤلًا، إذ يدور عن الحب الجديد الذي يمحو جراح القصص القديمة.
"جالي بهداوة داوي جرح قديم وجدد
روحي راحت مني نن عينه خدني غصب عني هوبا
علم علامة جوة قلبي سابلي بصمة
بسمة العيون ورسمة الشفايف شايف الحلاوة"
وتحفل الأغنية بكلمات دارجة من مفردات الشباب لا يربطها بحر ولا وزن ولا قافية، أشبه بتعبيرات فيسبوك وتويتر، مع لحن سريع وإيقاع قوي وجمل موسيقية قصيرة لا تحتاج إلى جهد أو موهبة صوتية لغنائها، من المؤكد أنها مخصصة لإشعال حماس جمهور الحفلات الصيفية.
رغم كل شيء لم تتخلَّ فتاة الغواية بعد عن روبي القديمة التي تجسد الرغبة وروح الشباب.