لأن وكيل النيابة المهذب المحترم الذي حقق معي لعدة ساعات لم يوجه لي أسئلة محددة تتعلق بتفاصيل الاتهامات المرعبة الموجهة لي؛ تطوعت لتفنيد ما اعتقدت أنه السبب الرئيسي لاعتقالي. قلت إنني شخصيا، وكل قيادات الحركة المدنية الديمقراطية التي تضم ستة أحزاب معارضة، لا صلة لنا من قريب أو بعيد بهوجة المقاول محمد علي ومظاهرات 20 سبتمبر 2019.
استمع الرجل باهتمام شديد وأعاد إملاء ما أقوله لكاتب الجلسة ليتم إثباته في المحضر الرسمي، مع التركيز على جوانب قد تكون مفيدة لتبرئة ساحتي في حالة إحالتي للمحاكمة. واللافت أنه حتى الآن لم تحل للمحاكم أي من القضايا المحبوس احتياطيًا على ذمتها النشطاء والمعارضين من التيار المدني الذين كانوا في مقدمة صفوف مظاهرات 30 يونيو 2013 التي أطاحت بحكم الإخوان.
أكدت للمحقق أن كل أحزاب الحركة المدنية الديمقراطية الستة هي أحزاب إصلاحية تؤمن بشرعية النظام وتعمل في إطار القانون والدستور الذي ينص بوضوح على أن النظام القائم في مصر هو نظام تعددي يقوم على تداول السلطة. وكانت وجهة نظري الشخصية هي أن أحزاب الحركة المدنية تمثل "البديل الثالث" ما بين نموذج حركة الإخوان الديني من جهة، ونظام الحكم القائم منذ 1952 من جهة أخرى، حيث يلعب شخص الرئيس دورًا محوريًا هو وحزبه أو تنظيمه الواحد، من دون تنظيم انتخابات حقيقية أو تداول للسلطة بدعوى أن الظروف المحلية والإقليمية والدولية لا تسمح بالديمقراطية بعد.
تشكلت الحركة المدنية الديمقراطية بداية العام 2017 عن طريق تحالف ستة أحزاب وهي الدستور والكرامة والتحالف الشعبي الاشتراكي والعيش والحرية والإصلاح والتنمية والمصري الديمقراطي الاجتماعي، وسعى هذا التحالف للتمسك بأهداف ثورة 25 يناير 2011 وبناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
ولكن على مر السنين كان الرد الدائم عند أي مطالبة بانفتاح سياسي منذ زمن عبد الناصر وحتى الآن هو: الوقت غير مناسب للتحول الديمقراطي. ودائما ما كان هناك سبب سواء الحروب ضد إسرائيل في الخمسينات والستينات وحتى توقيع معاهدة كامب ديفيد في العام 1979، أو لاحقا مواجهة الحركات الإرهابية بعد اغتيال السادات وتولي مبارك الحكم في 1981، أو الآن بسبب المواجهة مع الإخوان والمنافسة الإقليمية من تركيا وقطر (قبل المصالحة الأخيرة). المهم أن هناك دائمًا ما يمنع بناء ديمقراطية حقيقية يتم فيها انتخاب رئيس كل فترة وخروجه سالمًا مكرمًا من الحكم لتأكيد مبدأ تداول السلطة وخضوع منصب الرئاسة للرقابة والمساءلة مثل أي منصب عام آخر في مصر.
سبق تأسيس الحركة المدنية تجمع آخر لأحزاب المعارضة هو التيار المدني الديمقراطي، والذي تشكل من أربعة أحزاب فقط دعمت المرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي في انتخابات عام 2014 في مواجهة الرئيس عبد الفتاح السيسي، وهي أحزاب الدستور والكرامة والتحالف الاشتراكي والعدل الذي أعلن لاحقًا تجميد نشاطه ثم عاد فجأة للحياة بعد اختيار أحد أعضائه لعضوية مجلس النواب في 2020 عن طريق القوائم.
وعند انضمام حزبي المصري الديمقراطي والإصلاح والتنمية، تم تعديل الاسم من التيار المدني إلى الحركة المدنية، مع تأكيد واضح في ميثاقها على أنها لا تقبل في عضويتها أيًا من؛ الأحزاب أو الشخصيات المقربة من نظام مبارك الذي أطاحت به ثورة يناير، وأيضًا حركة جماعة الإخوان المسلمين والأحزاب الدينية المتشددة.
ولكن الجميع في ذلك الوقت كانوا يشعرون بتوتر الأجواء بسبب الفيديوهات الشهيرة للمقاول محمد علي. كان للفيديوهات شعبية كبيرة في البداية، وشكّلت هدية ثمينة بالطبع لقنوات الإخوان في تركيا وقطر لفتح جبهة جديدة في الهجوم على الرئيس عبد الفتاح السيسي.
فيديوهات محمد علي كانت ذات طابع مثير يتعلق بدائرة مغلقة لا يعلم عنها أحد، ولا يجب أن يعلم عنها أحد. ولكنني شخصيًا فقدت الاهتمام بها بعدما قرر محمد علي ارتداء زي الزعيم السياسي رغم إقراره في وقت سابق أنه لم يكن يومًا مهتمًا بالسياسة، وبعد دعوته للتظاهر يوم 20 سبتمبر 2019 إلى جانب مقترحات غامضة بشأن تشكيل مجالس لإدارة الثورة في المحافظات منتخبة من "خارج إطار كل الأحزاب".
ورغم انتمائي لحزب معارض للرئيس السيسي، ودعمي لمرشحين منافسين في انتخابات 2014 و2018 (حمدين صباحي وخالد علي)، رفضت بشكل قاطع أي تجاوب مع دعوات محمد علي للتظاهر. كان واضحًا تماما لكل ذي عقل أن هناك من استخدم المقاول ليتحول من مجرد شخص يزعم أنه يسعى لاستعادة ما يقول إنها أموالًا مستحقة له لدى الحكومة، إلى زعيم سياسي يدعو للإطاحة بالنظام.
كانت المفاجأة الكبرى يوم 20 سبتمبر 2019 نفسه، حين خرجت تظاهرات بالفعل في عدة مدن، بل وبلغت درجة المغامرة إن مجموعات صغيرة من عشرة أفراد أو أقل تجرأوا وتجمعوا لدقائق معدودة في الحصن المنيع ميدان التحرير حيث عدد قوات الأمن والمخبرين في زي مدني يساوي أو يفوق عدد المشاة.
بعض الأصدقاء "الثوريين" المعارضين للنظام رأوا في تلك التظاهرات فرصة رائعة لإعادة الحراك للشارع المجمد منذ يونيو 2014 في ظل سلسلة من القوانين التي حظرت عمليات التظاهر في الشارع وحددته بحديقة الأندلس في منطقة الفسطاط بمصر القديمة، وبعد السيطرة التامة على وسائل الإعلام، والقبض المنتظم على النشطاء السياسيين والمعارضين من غير المنتمين لجماعة الإخوان، سواء كانوا منتمين لأحزاب الحركة المدنية أو الحركات الشبابية التي نشأت قبل ثورة 25 يناير مثل 6 أبريل و شباب من أجل العدالة والحرية.
كانت وجهة نظري أن الجيل الذي شهد الأيام الثمانية عشر في ميدان التحرير وشارك في ثورة 25 يناير 2011 تحت شعارات "عيش..حرية..عدالة اجتماعية" لا بد أن يتعلم من تجاربه، وأنه من الخطأ التجاوب مع أي دعوات للتغيير من دون خطة واضحة لليوم التالي. والأهم، بالطبع، هو الحفاظ على مصالح 100 مليون مصرية ومصري، واستمرار تماسك الدولة. وبالتالي رأيت الامتناع عن التجاوب مع دعوات لن تؤدي إلى شيء سوى الفوضى والإضرار بالاقتصاد ومصالح المصريين.
ولكن الأجهزة المعنية لم تتعامل باستهانة مع تظاهرات 20 سبتمبر، وبدأت حملة اعتقالات واسعة ضد المعارضين للنظام، بما في ذلك شخصيات كانت تتمتع بدرجة ما من حرية الحركة والتعبير، ومنها كاتب المقال. بالطبع لم يكن هناك رضا من قبل الأجهزة المعنية عن المقابلات الصحفية التي أجريها مع وسائل الإعلام، خاصة الأجنبية منها مثل محطة البي بي سي عربي، وفرنسا 24، ودويتش فيله، وقناة العربي القطرية التي تتخذ من لندن مقرا لها، وكذلك البوستات التي أكتبها على فيسبوك وتويتر.
ولكنني مع ذلك لم أتوقع أن تشملني دائرة الاعتقالات شخصيًا، وذلك لقناعتي بوجود فهم عام في إطار الظروف القائمة منذ 30 يونيو 2014، بأن أقصى ما يمكن للمعارضين القيام به هو مجرد الحفاظ على وجودهم لتأكيد رفض العودة إلى دولة الحزب الواحد، وأن تعدد الأحزاب هو النظام القائم في مصر، بما في ذلك أحزاب معارضة تسعى لمنافسة الرئيس والحزب أو الأحزاب المدعومة من النظام مثل مستقبل وطن وحماة وطن وغيرها.
كان أقصى ما يمكننا القيام به وقتها كأحزاب معارضة في الحركة المدنية الديمقراطية هو التعبير عن مواقفنا في بيانات تصدر على فترات متباعدة، وبالتالي لا يوجد ما يستحق الزج بنا في سجون ممتلئة بالفعل بالمتهمين بالانتماء لجماعة الإخوان المسلمين والتنظيمات الإرهابية كداعش والقاعدة.
وربما كان الرفض القاطع لقرارات سيادية محددة مثل التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للمملكة العربية السعودية في 2015، بالإضافة إلى معارضتنا مقترحات تعديل الدستور عند إعلانها في مطلع 2018 لكي يسمح للرئيس بالبقاء لفترة أطول في منصبه من الثماني سنوات التي نص عليها دستور 2014، والتعبير عن هذا الرفض في مؤتمرات صحفية محلية وعالمية؛ كانت أمور لم ترضى عنها الأجهزة المعنية ورأت فيها تجاوزا للخطوط الحمراء التي يحددونها هم فقط. ولم أكن لأقبل أن أقدم نفسي كشخص ينتمي للمعارضة، ويتم توجيهي بمكالمات هاتفية من الأجهزة المعنية لكيفية التعبير عن مواقفي المعارضة.
ورغم إجراءي لعدة مقابلات صحفية، منها مقابلتين مع وكالة رويترز للأنباء وصحيفة النيويورك تايمز الأمريكية، قلت فيهم بوضوح إن أحزاب المعارضة المنتمية للحركة المدنية الديمقراطية لا علاقة لها بالمدعو محمد علي ولم تدعم دعوته للتظاهر في 20 سبتمبر 2019، ورغم انشغالي الشديد على الصعيد الشخصي بمرض صعب أصاب والدي؛ لم تتوقف التحذيرات التي تلقيتها من جهات متعددة أن اسمي "على رأس قائمة" شخصيات معارضة سيتم اعتقالها.
لم يكن هناك شك أن هناك قائمة موجودة بالفعل. فقبل يومين فقط من آخر اجتماع حضرته للحركة المدنية في 22 سبتمبر 2019، اعتقل الصديق الأستاذ عبد العزيز الحسيني نائب رئيس حزب الكرامة، وعبد الناصر اسماعيل نائب رئيس حزب التحالف الاشتراكي، والمناضل اليساري العظيم أستاذي كمال خليل، وكذلك المحامية والصديقة الشجاعة ماهينور المصري أثناء مغادرتها لمقر نيابة أمن الدولة العليا بعد حضورها مع أحد المتهمين.
وإذا عدنا بالزمن للوراء ثلاثة شهور سنجد اعتقال الأصدقاء وزملاء العنبر لاحقا حسام مؤنس وهشام فؤاد وزياد العليمي، من أحزاب الكرامة والاشتراكيين الثوريين والمصري الديمقراطي، فيما يعرف بـ "قضية الأمل". كان اعتقال الزملاء الثلاثة رسالة واضحة أن أحزاب الحركة المدنية المعارضة لم تعد بعيدة عن دائرة الاعتقالات رغم أنها أحزابًا شرعية تعمل في العلن.
كنا نخطط بالفعل ونرغب في المشاركة في الانتخابات البرلمانية التي كان مقرر إجراؤها في نهاية العام 2020. ورغم أن المشاركة في الانتخابات تعد تعبيرًا واضحًا عن الإقرار بشرعية النظام، ورغم أننا نعارض في إطار الدستور والقانون بعكس جماعة الإخوان التي تدعو علنًا للإطاحة بالنظام؛ كانت وجهة نظر الأجهزة المعنية على ما يبدو أن الوقت غير مناسب لأي شكل من أشكال المعارضة في إطار تقديرهم للظروف الإقليمية والتهديدات التي تتعرض لها مصر. ومن يرى عكس ذلك، عليه أن يدفع الثمن، ويدخل دوامة قانون الحبس الاحتياطي الرهيبة الذي تم تعديله عام 2014 ليسمح بحبس المتهمين في قضايا الإرهاب لمدة عامين دون الإحالة للمحاكمة.
كنت أعرف جيدا مآسي قانون الحبس الاحتياطي قبل تعرضي له شخصيًا؛ فقد قضيت السنوات الماضية، وخاصة خلال فترة رئاستي لحزب الدستور من عام 2017 وحتى مايو 2018، في المطالبة بإطلاق سراح الزميلات والزملاء المحبوسين احتياطيا في قضايا مختلفة. كانت الأيام لا تخلو من كتابة بوستات "الحرية لفلان" و"الحرية لعلان" وهاشتاجات وحملات. وكانت آخر مجموعة من حزب الدستور تعرضت للاعتقال في فبراير 2019 عندما كنا على وشك تنظيم حملة لمعارضة الاستفتاء على تعديلات الدستور وتمديد فترة الرئاسة.
ولكن في نهاية شهر سبتمبر 2019، قررت الأجهزة المعنية تصعيد دائرة الاعتقالات لتشمل قيادات حزبية وكذلك الأستاذين الجامعيين الدكتور حسن نافعة والدكتور حازم حسني من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.