توجهت قوات الشرطة، أول أمس الأحد، مدعومة ببلدوزرات إلى مقر دير الأنبا مكاريوس بوادي الريان بمحافظة الفيوم، لإزالة منشآت مزرعة تابعة له، تنفيذًا لقرار المحميات الطبيعية التابعة لوزارة البيئة، بعد عجز الدير عن دفع مقابل حق انتفاعه بالمزرعة، والبالغ قيمته 4 ملايين جنيه سنويًا، وذلك منذ عام 2017 وحتى الآن.
بينما كانت السلطات التنفيذية تتخذ إجراءاتها على الأرض، كانت السلطات الدينية، ممثلة في الكنيسة الأرثوذكسية، تصف الرهبان بـ"بعض ساكني المنطقة"، بحسب بيان رسمي لها صدر أمس الاثنين، أعلن فيه مقرر اللجنة المجمعية للأديرة والرهبنة، الأنبا دانيال، أنه "عند مجيء الأجهزة المعنية لتنفيذ القرار، خرج إليهم بعض ساكني المنطقة لاستطلاع الوضع؛ وحدثت بعض المناوشات والاحتكاكات، وتمكنت الأجهزة الأمنية من تنفيذ القرار وإزالة كافة التعديات والمخالفات".
البيان المنشور في الصفحة الرسمية للكنيسة على فيسبوك، أثار جدلًا بين عشرات ممن تابعوه، إذ أنه لم يأت على ذكر الرهبان، بل وصفهم بـ"ساكني المنطقة"، كما لم يذكر المكان باعتباره منطقة عبادة، بل تم تسميته "منطقة الأنبا مكاريوس السكندري بوادي الريان".
هذه المسميات يمكن فهمها بالرجوع إلى أعوام مضت شهدت أزمة بين الدير والكاتدرائية منذ عام 2013، وبعدها أعلن البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، رسميًا أن المكان "ليس ديرًا" وسكانه "ليسوا رهبانًا"، وأنه "لا يجب زيارته أو التضامن معه".
في المقابل؛ يقول الممثل القانوني لرهبان الدير المحامي إيهاب رمزي "نتحدث عن 160 راهبًا يعيشون في منطقة صحراوية داخل دير أثري، وكل ما يحتاجونه فقط توافر سُبل العيش"، وأنه "رغم صحة الإجراءات الرسمية الأخيرة تجاههم، لكنه يطلب التعامل معهم بشيء من روح القانون".
أصل الأزمة
تعود بداية الأزمة إلى عام 2013، حين أعلنت السلطات المصرية شق طريق دولي سيمر عبر أراضي تابعة للدير، وقتها دخلت الكنيسة وسيطًا للتعامل مع الرهبان. بعضهم امتثل لأمر الكنيسة والآخر اعترض.
ورغم بدء الكنيسة القبطية منذ عام 2015 تقنين أوضاع الدير "كنسيًا" بتعيين مشرف عليه كواحدة من خطوات أخرى تشمل "تقنين المكان، ووجود أرض ملك للدير، ورفع تقارير للمجمع المقدّس عنه باعتباره دير معترف به"، لكن البابا تواضروس قال عبارته الشهيرة عام 2016 "هذا المكان ليس ديرًا، وسُكانه ليسوا رهبانًا".
على مدار الأعوام الماضية مرّ الدير بأزمات، كان منها المتعلّق بالطريق الدولي، التي لم تتوقف بعد عام 2013، إذ تكررت من جديد في 2015 بعد لقاء بين مسؤولي الدير والمهندس إبراهيم محلب، الذي كان يشغل آنذاك منصب مساعد رئيس الجمهورية للمشروعات القومية، وحينها أكد المتحدث الرسمي باسم الكنيسة، القس بولس حليم، في تصريحات صحفية، أن الكنيسة "رفعت يدها عن الأزمة، وتدعو الدولة لتطبيق القانون".
لم تتوقف الأزمات عند شق الطريق، بل كانت أحيانًا تحدث خلافات بين رهبان الدير ووزارة البيئة، وذلك وفقًا لما ذكرته وسائل إعلام، بسبب "وقوع الدير في منطقة محمية وادي الريان، وكانت أسواره تتسبب في غلق الطريق أمام الحيوانات البرية النادرة التي كانت تشرب من الآبار والعيون الطبيعية الموجودة ضمن نطاقه". لكن، تم إنهاء الأزمة بتوقيع اتفاق مع الوزارة لتقنين ممارسة الأنشطة الكنسية مع سداد المقابل المالي لذلك.
أحدث الأزمات، يقول عنها الباحث إسحق إبراهيم، مسؤول ملف حرية الدين والمعتقد في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية "الدير وقّع عقدًا واتفق عام 2017 مع أطراف متعددة منها محافظة الفيوم ووزارة البيئة على قطعتي أرض. الأولى 3500 فدان فيها مقر الدير وآثار دينية قبطية، والأخرى 1000 فدان مزروعة، وهذه هي المُثار حولها المشكلة".
ويصحح إبراهيم ما تداولته بعض المواقع من أخبار عن أن الجدل بشأن أرض الدير، بقوله للمنصّة "الأزمة هنا ليست حول الدير، بل على حيازة قطعة أرض زراعية يستخدمها الرُهبان بحق الانتفاع، ولم يتم سداد إيجارها منذ سنوات، ما يعني إمكانية انتزاعها منهم".
الأزمة التي وقعت اليومين الماضيين، تناولتها الكنيسة في بيانها، بتجديد إعلان عدم اعترافها بالدير ورهبانه، من خلال المصطلحات التي استخدمتها في وصفهم، بجانب أنها اختتمته بقول "لم نكن نتمنى أن تصل الأمور إلى أحداث أمس، ولكن كان تنفيذ القانون بعد الإنذارات المتتالية واجبًا، راجين أن يسود الهدوء هذه المنطقة".
روح القانون
يوم الأحد نفذت الحكومة قرار فسخ التعاقد الموّقع بين الدير ووزارة البيئة بشأن الانتفاع بالأرض المجاورة للدير والتي تضم آبار مياه، وذلك لعدم سداد الرهبان للمبلغ المقرر عليهم بواقع 4 آلاف جنيه لكل فدان أي 4 ملايين جنيه سنويًا، وذلك منذ عام 2017 وحتى اليوم، بأجمالي يصل لـ 20 مليون جنيه.
عن هذا الأمر، قال المحامي إيهاب رمزي، الممثل القانوني لرهبان الدير، إن ما حدث "تم بحق الألف فدان التي يستزرعها الرهبان، دون المساس بالأرض المقام عليها الدير والبالغ مساحتها 3500 فدان"، مُشيرًا إلى أن التعاقد الذي تم بخصوص الأرض المنزوع ملكيتها الآن "تم عن طريق الأنبا مكاريوس باسم الدير، وبالتالي السداد يكون من جانب الدير وليس الكاتدرائية، لأن الدير مستقل ماليًا".
وأكد رمزي، في تصريحات للمنصّة، أن ما حدث من فسخ للتعاقد سيترتب عليه نزع للأرض هو "أمر قانوني ولا خلاف عليه، بسبب حدوث إخلال بالتزامات تعاقدية يجوز معها فسخ العقد، لكن كان من الممكن تيسير الأمور عليهم".
رمزي، النائب البرلماني، الذي كان ضمن الوسطاء بين الوزارة، والرهبان الذين لم يسددوا منذ توقيع الاتفاق عام 2017 سوى 511 ألف جنيه، يقول إن الوزارة رفضت مطلب الإعفاء من المديونية والتيسير على الرهبان، قائلًا "تمسّكت الوزارة بالقانون، فيما تشبثّنا نحن بروح القانون".
عن تلك المحاولة والوساطة، يقول المحامي "هؤلاء 160 راهب في أرض صحراوية قاحلة وحجم الزراعة فيها ضعيف وغير منتج، وملوحة المياه عالية جدًا، وقد عاينتها لجنة البيئة منذ عام مضى. وحينها، عرضنا على المسؤولين أن تستغل الدولة هذه الأرض كي تدب فيها الحياة. وصارحتهم وقت التفاوض بأنني مدرك مخاوفهم من كبر المساحة وكونها تُقدّر بآلاف الأفدنة، وأن تصبح مصدر قلق".
ويتابع رمزي، وهو يرسم صورة للمنطقة "لكن الأرض جبلية، وأنشطة الرهبان سلمية من أجل المعيشة ولا تسبب أي قلق أو خطر على منشآت الدولة. وكل ما في الأمر أن الرهبان لابد وأن يعملوا بجانب العبادة، فهذا من ضمن قواعد الرهبنة، وما يزرعوه هو مصدر للحياة وليس لتحقيق مكاسب، لأن الدير ليس لديه أي مشروعات ويعيش من التبرعات، التي تأثرت إلى حد كبير بأزمة كورونا".
قرار مُتسرّع
يرى محامي الرهبان أن هذه الأزمة "صدّرتها الكنيسة للدولة، في حين أن حلها كان واجبًا، لأنه حتى لو لم تكن الكنيسة راضية عن الرهبان، فهم في النهاية مواطنين مصريين"، مضيفًا "وكذلك صدّرت وزارة البيئة الأزمة للدولة، وحدث تسرّع في اتخاذ القرار".
"مَن لا يعمل؛ لا يأكل" قاعدة من العهد الجديد، يذكرها المفكر والكاتب، كمال زاخر، داعمًا رأي المحامي إيهاب رمزي عن زراعة الرُهبان للأرض، باعتبار العمل أحد قواعد الرهبنة، بجانب العبادة.
زاخر يتفق أيضًا مع المحامي فيما يتعلق بفسخ عقد الأرض، ويقول للمنصّة "قرار نزع الأرض يشوبه تسرّع وعدم وعي بالتداعيات، لاسيما وأن الملف القبطي ملتهب منذ 2013؛ وقد يستغل المتربصين حدث كهذا في إحداث وقيعة بين الأقباط والدولة. لذا، كان يجب على الجهة الإدارية الرجوع إلى الرؤوساء وكبار المسؤولين لاستشارتهم، لأن الرؤية لديهم بانورامية أوسع. ونحن الآن نحتاج كثير من الوعي".
يضيف المفكّر "هذه ليست أزمة دير، بل أرض خارج الدير. وبالتالي، هي ليست أزمة بين الدير والدولة أو صدام على ملكية، لأنها أرض ملك للدولة بالفعل. ورغم هذا، ما حدث مؤخرًا شهد تصرفات غير مسؤولة وغير حكيمة من جانب الإدارة المحلية فيما يخصّ العلاقة مع المستأجر. إذ أن هناك تعنت بيروقراطي بسبب عدم تفهّم علاقة الدير بالأرض".
وفقًا للمحامي إيهاب رمزي، فإن أزمة شق الطريق الدولي هي التي دفعت الحكومة لتقنين أوضاع الدير، وهو ما حدث لكن "بإقرار مبالغ مالية عالية".
يعلّق رمزي على الأمر بقوله "مع العلم بأن هذه المرة الأولى في مصر التي يتم إقرار أموال على مكان عبادة. ولهذا، نعود ونقول إن القانون ينص عند وجود إخلال في التعاقد من جانب طرف، وهو الرهبان، يُفسخ العقد، لكن الدولة لابد وأن تيسر الأمور وتسمح بمنحة لهم، لأنهم في مكان مقدّس داخل صحراء".
يتابع المحامي "من هنا، أطالب بإعفاء الرهبان من كافة المصاريف وكافة ما هو مفروض بشأن حقوق الانتفاع، لأن هذا الأمر جديد على مصر، كما أن هناك بروتوكولات سابقة بينهم وبين الدولة منذ بدايات التسعينات بالسماح للرهبان بالإقامة والعيش فيه بدون مقابل".
تاريخ وأثر
بينما تحاول الدولة انتزاع أرض من الدير، لا تعترف الكنيسة به كدير ولا بمَن فيه كرهبان، ما يراه البعض قد يؤدي لإضعاف موقفهم، لكن الباحث إسحق إبراهيم ينفي هذا الأمر ويقول "اعتراف الكنيسة بالدير ورهبانه، لم تكن لتشكل فارقًا كبيرًا في هذه الأزمة، تحديدًا فيما يتعلق بحلّها الرئيسي وهو السداد، لأن الاتفاق وإن تم توقيعه بمعرفة الكنيسة، لكنه بين الرهبان والجهات الرسمية؛ ومن ثَم فإن عليهم السداد".
ويُشير إبراهيم إلى بُعد آخر في الأزمة يتعلق بإدارة هذا الملف المتعلق بالأرض منذ البداية، قائلا "لكن على ما يبدو أنهم وقّعوا الاتفاق دون حساب لمدى قدرة الدير على السداد في ظل دخله وإمكانياته المادية؛ فكان أثره المباشر ما يحدث الآن".
قد لا يؤثر اعتراف الكاتدرئية الأم بالدير ورهبانه على النواحي المادية المتعلقة بالمديونيات كما يقول إبراهيم، لكن عدم الاعتراف هذا يثير تساؤلات لدى محامي الرهبان، إيهاب رمزي، الذي يقول "هذا دير من القرن الرابع الميلادي خاص بالأنبا مكاريوس، ومعترف بيه من جانب الدولة، ومُسجّل كأثر مثل أديرة الأنبا بولا والأنبا أنطونيوس وسانت كاترين، ومنطقة مصر القديمة، كلها أماكن ملك لمصر، ورعايتها ستعود بالنفع على مصر".
أما عن الاختلاف مع الكنيسة، فيقول المحامي "البابا اختلف مع الرهبان لأنهم لم ينصاعوا له في بعض الأمور؛ فاعتبرهم خارجين عن الطاعة الروحية. لكن في النهاية هذا المكان دير، وهؤلاء رهبان في مكان أثري مسيحي مقدس حتى لو لم تعترف به الكنيسة. ومن الممكن ألاّ تعترف الكنيسة ببعض الرهبان، لكن هذا لا ينفي عن الدير الصفة الروحية والمسيحية والأثرية، فهو يحظي باعتراف تاريخي ومصري وعالمي".
بالمثل، وجّه المفكر كمال زاخر انتقادات للكنيسة في تعاملها مع الأزمة، بقوله "بيان الكنيسة صدر متأخرًا. كذلك الإعلام الكنسي يحتاج كثيرا من المهنية. فكلمة قاطني المكان التي تم استخدامها تعني ضمنيًا سحب صفة الرهبنة عنهم. كما كان يجب توضيح أن الأفدنة الدائر حولها المشكلة تقع خارج سور الدير، فهذه معلومة مهمة كان يجب ذكرها بصورة واضحة، لأنها كانت ستنزع فتيل الأزمة وتمنع ما أثير من غضب".
حلول بديلة
يشدد المفكر كمال زاخر على ضرورة قراءة الأمر بعيدًا عن زاوية "دير يستصلح أرضا وهناك خلاف على السداد"، قائلاً "يجب مراجعة كل من ساهم فيما يحدث الآن. ومن الممكن الاتفاق على تقسيط المبلغ أو جدولته، كحلّ بديل لانتزاع الأرض، لا سيما وأن المقابل سيكون قيمة مضافة للدولة فيما يتعلق بالدير كمزار مهم وما يتعلق بالأرض من استصلاحها".
بالمثل، يعرب المحامي إيهاب رمزي عن أمله في "إعفاء الرهبان من المديونية، خاصة وأن المساحة المستغلّة من الأرض هي المحاطة بالآبار وتُقدّر بـ50 فدانًا من الألف، كما أنها ليست مستغلة تجاريًا أو استثماريًا. لذا من الممكن محاسبتهم على المساحة المستغلة فقط".
ويختتم بقوله "نتمنى أن تمنح الدولة للرهبان فرصة العيش في المكان بدون مقابل آمنين، لأنهم ليسوا تجارًا ولا مستثمرين، ولا يشكلون خطرًا على الدولة ولا منشآتها. هم لا يرغبون إلا في التعبد، وما يحتاجونه فقط هو دخل وسبل للمعيشة في حدّها الأدنى".
في المقابل؛ يرى الباحث إسحق إبراهيم الأمر أكثر بساطة، يلخصها في جملة "السداد أو انتزاع الأرض"، موضحًا "إنهاء الأزمة يتمثل في أمر واحد، إمّا الدفع أو التخلي عن الأرض، خاصة وأنها بعيدة عن الـ3500 فدان الموجود فيها الدير والمقننة بالفعل من قِبَل الدولة".