بينما تنظر إلى فواتير الغاز والكهرباء وأسعار السلع والمستلزمات الأساسية التي تضاعفت عدة مرات على مدار السنوات الخمس الماضية بفعل الإجراءات التقشفية التي اتسمت بها خطة "الإصلاح الاقتصادي"، ربما يكون عزاؤك الوحيد أن ذلك عرض جانبي لخطة علاج ضرورية ستتجه الأوضاع بعدها إلى الأفضل. لكن الواقع أنه رغم كل تلك الإجراءات وصعوبتها، ما زالت الديون تمثل عبئًا جسيمًا على الاقتصاد المصري الذي يواجه، كغيره، أزمة عالمية عاصفة سببها فيروس كورونا.
فبعد خمس سنوات من برنامج "الإصلاح الاقتصادي" الذي أطلقته الحكومة عام 2016، بدعم من صندوق النقد الدولي، وما تبعه من إجراءات تقشفية تمثلت في تعويم الجنيه وخفض دعم الطاقة، وصل إجمالي الدين المحلي لأجهزة الموازنة في مصر إلى نحو 4 تريليونات جنيه بنهاية يونيو 2020، تمثل 68.6% من الناتج المحلي، أما الدين الخارجي لأجهزة الموازنة فوصل إلى 1.1 تريليون جنيه، تمثل 19% من الناتج المحلي، ليماثل إجمالي دين أجهزة الموازنة 87.5% من الناتج المحلي، لذا تأتي مسودة ميزانية السنة الجارية بتوقعات مخصصات كبيرة لسداد الديون وفوائدها، مع الاستمرار في التقشف على العديد من أوجه الإنفاق الاجتماعي.
وبدأت مصر في تطبيق برنامج للإصلاح الاقتصادي في 2016، بتشجيع من صندوق النقد الدولي الذي أقرض البلاد 12 مليار دولار لتعزيز هذا البرنامج.
وخلال سنوات الإصلاح تغيرت العديد من أبواب الإنفاق الاجتماعي بشكل ملحوظ، ففي تلك الفترة انخفض دعم الكهرباء إلى صفر وتراجع دعم المواد البترولية بقوة، وغيرها من الإجراءات التي كانت تهدف لتخفيض عجز الموازنة وديون الدولة.
لكن مشروع موازنة السنة المالية 2021-2022 (التي تبدأ في يوليو/ تموز المقبل) وعرضته وزارة المالية على البرلمان الشهر الماضي، يكشف عن توقعات لأن يصل الدين العام لأجهزة الموازنة إلى 89.5% من الناتج المحلي الإجمالي.
مستوى الديون الحكومية وإن كان أقل مما بدا عليه في بداية برنامج الإصلاح بنحو 12% من الناتج، إلا أنه يتجاوز طموحات الحكومة في آخر موازنات "الإصلاح" للسنة المالية 2019-2020، التي توقعت فيها أن يتراوح بين 75 إلى 80% بنهاية يونيو/ حزيران 2022.
كما أنه لا يزال يمثل ثقلًا كبيرًا على الموازنة المصرية، حيث تستحوذ النفقات الخاصة بفوائد هذا الدين وحدها على أكثر من ثلث إنفاق الدولة.
وبحسب تقرير لوزارة المالية يصل متوسط نسبة المديونية الحكومية في الاقتصادات الناشئة والدول النامية إلى 61.4% من الناتج المحلي الإجمالي، وفي منطقة الشرق الأوسط إلى 51.2%، وفي منطقة شمال أفريقيا إلى 78.3%، وذلك بنهاية عام 2020.
لماذا لم تنجح الحكومة؟
يرى محللون أن هناك عدة أسباب وراء عدم تحقيق تقدم كبير على مستوى ملف تحسين الدين، على الرغم من الإصلاحات المالية التي أجرتها الحكومة.
ويعتبر المحلل ببنك استثمار أرقام كابيتال، نعمان خالد، أن كلًا من تعويم الجنيه في 2016 وتفشي وباء كورونا في 2020 كان لهما دور أساسي في استمرار الديون عند مستوى مرتفع.
ويشرح خالد للمنصة "نتيجة التعويم وانخفاض سعر الجنيه تضاعف الدين الخارجي تقريبًا عند حسابه بالعملة المحلية، هذا إلى جانب ارتفاع تكلفة السلع التي يتم استيرادها على حساب الموازنة، وبالتالي زادت الاحتياجات التمويلية، والأموال المقترضة لسدها".
وعند حساب الدين الحكومي كقيمة مالية يبدو أنه تضاعف منذ بدء "الإصلاح"، فبحسب تقرير لوزارة المالية كانت قيمة هذا الدين نحو 2.5 تريليون جنيه في يونيو 2016، قبل أن ترتفع إلى حوالي 5.1 تريليون جنيه في 2020.
كذلك يشير خالد إلى تأثير وباء كورونا في الحد من النمو الاقتصادي للبلاد، ومن ثم تقليص فرص زيادة إيرادات الضرائب، وهو ما دفع الحكومة نحو المزيد من الاقتراض.
وكان معدل نمو الحصيلة الضريبية للدولة أصيب بالجمود خلال السنة المالية المنتهية في يونيو 2020، حيث زاد بأقل من 1%، لكن الدولة تتوقع في مشروع الموازنة الجديد أن يتحسن معدل نمو الحصيلة الضريبية خلال السنة الجارية إلى نحو 12.5%.
وزير المالية، الدكتور محمد معيط، كان قال في تصريحات إلى قناة العربية، إن جائحة كورونا وتداعياتها خلال السنتين الأخيرتين أدت إلى انخفاض حاد في الإيرادات التي كان من الممكن أن تجنيها الموازنة العامة للدولة بأكثر من 370 مليار جنيه.
الأسباب التي ذكرها خالد تشير إلى أن مسؤولية تطورات ملف الديون خلال الفترة الماضية كانت أمرًا خارجًا عن إرادة الدولة، لكن الباحثة الاقتصادية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، سلمى حسين، ترى أن بعض القرارات كان لها يد في الأمر أيضًا.
وتشير حسين إلى أن سياسات المركزي بالإبقاء على أسعار الفائدة مرتفعة خلال السنوات التالية للتعويم، ساهمت في ارتفاع قيمة فوائد الديون الحكومية، ومن ثم زيادة أعباء الدين العام.
وقالت "الأسواق العالمية كانت ما بين تراجع أو كساد أو ضعف في النمو خلال السنوات الماضية، وبالتالي لم تدخل مصر استثمارات خارجية كبيرة سواء مباشرة أو في البورصة، كما لم تكن هناك فرص جيدة لخصخصة شركات أو طرحها في البورصة، فكان رفع أسعار الفائدة الطريقة السريعة للحصول على موارد بالدولار عن طريق جذب الاستثمارات الأجنبية في أدوات الدين".
ورفع البنك المركزي أسعار الفائدة 7% على 3 مرات خلال الفترة من نوفمبر 2016 وحتى يوليو 2017 لكبح التضخم الناتج عن التعويم، ثم اتجه لتخفيضها بشكل متدرج منذ 2018، بحيث وصلت إلى مستويات أقل مما كانت عليه قبل التعويم، لتصل إلى 8.75%.
لكن بالنظر إلى متوسط العائد على أذون وسندات الخزانة التي تُصدرها الحكومة، والتي تتحدد بناء على العرض والطلب على تلك الأوراق المالية، فهو لا يزال أعلى من مستوياته قبل بداية برنامج الإصلاح، حيث بلغ في السنة المالية الماضية 14.8% مقابل 12.9% 2015-2016.
وبحسب تقرير للبنك الدولي، صدر في أبريل/ نيسان الماضي، فإن معدل الإنفاق على فوائد الدين العام نسبة للناتج الإجمالي في مصر يعد الأعلى في المنطقة خلال 2020، وبينما قدره تقرير البنك بنسبة 9.8% كان متوسط هذه النفقات في البلدان متوسطة الدخل 2.1%.
وفي المشروع الجديد للموازنة، تقدَّر النفقات المتوقعة على باب الفوائد بـ 579.5 مليار جنيه، ما يساوي نحو 31.5% من إجمالي المصروفات الموازنة.
وإن كانت أهداف هذا العام تبدو أفضل من النتيجة المتوقعة لأداء أول سنة مالية مكتملة في ظل وباء كورونا، حيث ترجح الدولة أن يكون نصيب الفوائد من المصروفات في نهاية 2020-2021، آخر يونيو المقبل، عند 35.1%.
لكن تظل مخصصات الفوائد مكونًا ضخمًا يأكل من فرص أوجه الإنفاق الأخرى التي نشعر بأثرها في حياتنا، فهي في الموازنة الجديدة تمثل أكثر من ضعف مخصصات الصحة والتعليم مجتمعين، بحسب التقسيم الوظيفي للموازنة، والتي تبلغ 281.4 مليار جنيه.
وتفسر حسين ارتفاع الدين العام أيضا بأنه جاء مدفوعًا بالتوسع في الدين الخارجي بعد تفشي وباء كورونا، والذي كان الهدف منه هو حماية الجنيه من التراجع أمام الدولار.
وقالت إن إيراداتنا الخارجية تأثرت خلال السنة ونصف الأخيرة بتداعيات أزمة جائحة كورونا، ولجأت الحكومة لاختيار حل الاقتراض لتعويض عائدات السياحة التي تعطلت إلى جانب تغطية ارتفاع تكلفة استيراد السلع الغذائية بعد ارتفاع أسعارها عالميًا مؤخرًا، وذلك بدلًا من التضحية بخفض سعر الجنيه مقابل الدولار وما قد ينتج عنه من تضخم.
وقالت سلمى "الاستثمار الأجنبي المباشر في البورصة كان منخفضًا جدًا. سنة 2020 كانت صعبة للغاية وانت عندك التزامات كان لازم تسددها". وأضافت "كان هناك اختيار مقصود لحماية الجنيه بشكل أقرب ما يكون لقوى السوق".
كيف يؤثر ارتفاع الدين على الإنفاق الاجتماعي؟
تبدو معاناة المواطن المصري مع الموازنة أشبه بأسطورة حجر سيزيف، فكان مطلوبًا منه أن يتحمل التقشف خلال سنوات الإصلاح لخفض الدين، والآن مطلوب منه أن يستمر في التحمل بسبب ديون كورونا.
إذا ما أضفنا إلى فوائد الديون قيمة أقساط الدين التي سنسددها خلال العام المقبل، سنجد أن الاثنين يمثلان نحو نصف استخدامات الموازنة (47.4%) وهو ما يمثل عنصرًا غالبًا على الموازنة في مواجهة الإنفاق الاجتماعي.
وترى حسين أن ارتفاع مصروفات الفوائد وخدمة الدين بالموازنة يكون له تأثير على العدالة الاجتماعية وكفاءة جهاز الدولة، فتحقيق خفض في عجز الموازنة في ظل هذا الارتفاع يدفع الحكومة للتقشف وهو ما يأتي على حساب بعض البنود التي تمس حياة المواطن.
وقالت "حدث تغير في هيكل الموازنة خلال السنوات العشر الماضية وأصبحت مدفوعات الفوائد هي أكبر بند في مقابل تراجع الأجور وشراء السلع والخدمات ودعم الفقراء والمستحقين، وبعد إتمام الإصلاح الاقتصادي لم نشهد تغيرًا في الاتجاه"، مؤكدة أن تأثير التقشف يمتد ليشمل مثلًا "عدم توفير أجور لائقة للأطباء أو المعلمين أو توفير عدد كافٍ منهم، أو توفير أدوية كافية أو صيانة جيدة للمرافق الحكومية أو احتياجات النقل العام".
وحتى مع حدوث زيادة اسمية في القيم المخصصة لبعض بنود الإنفاق الاجتماعي، فبحساب قيمتها الحقيقية باستبعاد أثر التضخم سيظهر أنها انخفضت في العقد الأخير، بالإضافة إلى انخفاضها كنسبة من الموازنة، وفقًا لحسين.
وتُظهر بيانات الموازنة تراجع نصيب الإنفاق الاجتماعي في الوقت الراهن مقارنة بنصيبه قبل بداية خطة الإصلاح، حيث انخفضت حصة الأجور والدعم والمزايا الاجتماعية من المصروفات بمشروع الموازنة الجديدة إلى 19.6% و17.5% على التوالي مقابل 26.1% و24.6% في سنة 2015-2016.
ورغم إجراء تحسينات على الأجور وتوزيع مساعدات نقدية على جزء من العمالة غير المنتظمة خلال السنتين الماليتين اللتين تخللهما الوباء، فإن قيمة معاشات تكافل وكرامة والدعم النقدي المقدم من خلال نظام التموين ظلا ثابتين بعد أحداث كورونا، مع ما أسهم فيه الوباء من التأثير سلبًا على فرص العمل ومستويات دخول الكثيرين.
الالتزام بالإنفاق الدستوري على الصحة والتعليم؟
ينص الدستور الذي صدر في عام 2014، على تخصيص 3% من الناتج المحلي الإجمالي للصحة، و4% للتعليم ما قبل الجامعي، و2% للتعليم الجامعي، و1% للبحث العلمي، وألزم الدستور الحكومة بالوصول إلى هذه النسب بشكل تدريجي، على أن يخصص كاملا بداية من السنة المالية الماضية 2016-2017.
وتزعم الحكومة في كل بيان مالي أنها تلتزم بهذا النص الدستوري، لكنها عمليًا قامت ببعض التعديلات في تعريفها لما يمكن احتسابه إنفاقا على التعليم والصحة، ورأى حقوقيون أن الهدف من هذا التعديل كان تضخيم قيمة هذه النفقات لإخفاء حقيقة التقشف، وهو الخلاف الذي لا يزال مستمرًا في الموازنة الجديدة.
ومن المسائل محل الخلاف بشأن تلك النفقات هو اعتبار الإنفاق على مياه الشرب والصرف الصحي من بين النفقات التي تدخل قطاع الصحة، والإنفاق على المعاهد الأزهرية والمراكز التعليمية التي لا تتبع وزارة التعليم ضمن بنود الإنفاق على التعليم.
الأهم من ذلك هو أن الحكومة تحتسب الإنفاق على فوائد الموازنة ضمن إنفاق التعليم والصحة، حيث يتم تحميل كل قطاع منها بحصة من مدفوعات الفوائد حسب نصيبه من إجمالي مصروفات الموازنة.
وقالت سلمى حسين إن التحايل على نسب الإنفاق الدستوري على الصحة والتعليم والبحث العلمي لا يزال مستمرًا رغم سعي الحكومة في السنتين الأخيرتين لزيادة الإنفاق الحكومي الحقيقي على التعليم والصحة، ولكن حجم هذا الإنفاق لا يزال أقل من نصف المطلوب دستوريًا.
"تزامن الالتزام الدستوري بزيادة الإنفاق على الصحة والتعليم مع تعرض مصر لأزمة اقتصادية في سنة 2016-2017 وبدء برنامج الإصلاح الاقتصادي وعلى رأس إجراءاته التعويم الذي أدى إلى الهبوط الحاد للجنيه، هو ما دفع الحكومة للبعد عن تحقيق الالتزام الدستوري والتأخر في تنفيذ الهدف حتى الآن"، بحسب حسين.
وأشارت إلى أن الصندوق أوصى مصر برفع الحصيلة الضريبية 4% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يكفي لتحقيق الالتزام الدستوري للإنفاق على الصحة والتعليم، ولكن الحكومة لم تنجح حتى الآن في تنفيذ هذه التوصية.
وذكرت حسين أن ذلك يأتي رغم تطبيق ضريبة القيمة المضافة، ولكن هناك إجراءات أخرى تتعلق بالعدالة الضريبية لم يتم تحقيقها ويمكن من خلالها زيادة الحصيلة مثل الضرائب على الثروة، وزيادة تصاعدية الضرائب على الدخول العليا.